في انتخابات 2021، سجّل العراق واحدة من أدنى نسب المشاركة الانتخابية منذ عام 2003، ما طرح تساؤلات عميقة: لماذا يعزف المواطن عن التصويت؟ وهل فقد الأمل في التغيير، أم لم يجد في الأحزاب السياسية ما يمثّله؟
تُعد الأحزاب السياسية ركيزة أساسية في أي نظام ديمقراطي، إذ تمثل حلقة الوصل بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وتسعى – من خلال برامجها – للوصول إلى السلطة من أجل تطبيق رؤاها. لكن التجربة العراقية بعد 2003 كشفت نمطًا خاصًا في تشكيل الأحزاب، يعتمد بدرجة كبيرة على الهوية الطائفية والعلاقات الزبائنية، لا على البرامج أو الأهداف الوطنية.
معظم الأحزاب في العراق بُنيت على أساس الانتماء الطائفي أو القومي – شيعي، سني، كردي – أو على منطق توزيع المنافع والولاءات، لا على أسس أيديولوجية أو برامجية أو أهداف. وهو ما جعل العملية السياسية تفقد قدرتها على تمثيل جمهور واسع، خصوصًا أولئك الذين لا يجدون أنفسهم داخل قوالب الهويات الضيقة.
وتفسّر النظرية البنائية هذا السلوك الحزبي بأن قرارات الفاعلين لا تقوم فقط على المصالح المادية، بل على الهويات التي يحملونها. ومع غياب برامج شاملة تُعلي من شأن المواطنة، تنشأ مشكلات بنيوية خطيرة، أبرزها: ضعف المشاركة السياسية، تضارب المواقف تجاه التهديدات الخارجية، وغياب رؤية وطنية موحّدة والاهم غياب الهوية الوطنية؟
الفقرة الأولى “الأحزاب السياسية في العراق وسلوكها الهوياتي”
قبل أن نستعرض أنماط الأحزاب السياسية في العراق، من المهم أن نتعرف أولاً على مفهوم الحزب السياسي إذ يعرف “مجموعة منظمة من المواطنين، تجمعهم أفكار وأهداف مشتركة حول القضايا العامة، ويعملون كوحدة سياسية، ويسعون للوصول إلى السلطة من أجل تطبيق أفكارهم وسياستهم”
وفق لهذا التعريف فان جوهر العمل الحزبي يكمن في وجود رؤى واضحة وبرامج سياسية قابلة للتطبيق. وهذا يتطلب من الأحزاب أن تبلور أهدافًا تستجيب لاحتياجات المجتمع وتسهم في تطوير مؤسسات الدولة وتعزيز المشاركة السياسية.
ومع ذلك، لا تخلو بعض النماذج الحزبية من انحراف عن هذا المسار، إذ توجد أحزاب تسعى للوصول إلى السلطة بدوافع خاصة لا ترتبط دائمًا بالمصلحة العامة أو البرامج الوطنية، بل قد ترتبط بمصالح فئوية أو شخصية، مما يضعف دور الأحزاب كأدوات للتعبير السياسي والتنمية الديمقراطية.
وبالحديث عن العراق فانه شهد بعد عام 2003، شهد تعددًا كبيرًا في الأحزاب السياسية، إذ تأسست العشرات منها، إلا أن البعض من هذه الأحزاب افتقرت إلى برامج سياسية واضحة، واعتمدت في الغالب على أدوات بديلة لتحشيد الدعم الشعبي ويمكن تصنيف أبرز الأحزاب السياسية إلى نوعين رئيسيين يسهمان بصورة مباشرة في خلق تحديات تؤثر في مسار العملية الديمقراطية، وهما: الأحزاب الزبائنية، والأحزاب الهوياتية.
وقد تم اختيار التركيز على هذين النمطين من الأحزاب، لما لهما من دور بارز في إعادة إنتاج أنماط من السلوك السياسي القائم على الولاءات الضيقة، سواء من خلال تبادل المنافع الشخصية أو من خلال تعبئة الدعم على أساس الانتماء الطائفي أو القومي، وهو ما يؤدي إلى إضعاف مرتكزات الديمقراطية التمثيلية، مثل المواطنة، والبرامجية، وضعف المشاركة الانتخابي، وهما كالتالي:
1.الأحزاب الزبائنية: تعتمد هذه الأحزاب على بناء علاقات شخصية ومصالح مباشرة مع الأفراد أو الجماعات من أجل تأمين ولائهم. في هذه الأحزاب، يتم تقديم خدمات أو منافع محددة مقابل الدعم السياسي والانتخابي، ما يساهم في تشكيل قاعدة انتخابية غير مبنية على أفكار أو برامج واضحة، بل على خدمات تعود على الأفراد أو المجتمعات المعنية.
2. الأحزاب القائمة على الهويات الطائفية. تعد هذه من أبرز الأحزاب في العراق بعد عام 2003، إذ تقوم على استقطاب الدعم الشعبي بناءً على الانتماء الطائفي. هذه الأحزاب تستند إلى هويات دينية أو طائفية، مما يعزز الولاء العاطفي والانتماء إلى جماعة معينة. غالبًا ما يكون خطاب هذه الأحزاب محصورًا في قضايا تهم طائفتها فقط، مما يساهم في تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع العراقي.
ويمكن تفسر سلوك عدد من الأحزاب السياسية في العراق من خلال المنظور البنائي، الذي يسند تصرفات الفاعلين السياسيين إلى البنى الاجتماعية والثقافية، لا سيما الهوية. فالأحزاب التي تعتمد على تعبئة الدعم الشعبي من خلال الانتماء الطائفي أو القومي، تتصرف وفق ما تمليه هذه الهويات، وليس بالضرورة وفق منطق المصلحة العامة أو الرؤى البرامجية. وبهذا، فإن نمط التحشيد الحزبي القائم على الهويات الجزئية، بدلاً من المصلحة الوطنية الجامعة، يعكس تأثير البنى الفكرية والاجتماعية على قرارات الفاعلين.
الفقرة الثانية: النتائج
ان الاعتماد المفرط للأحزاب السياسية على الهويات الطائفية والزبائنية أنتج ثلاث نتائج جوهرية انعكست سلبًا على بنية النظام الديمقراطي في العراق:
.1 اعتماد بعض الأحزاب السياسية في العراق على الهويات الطائفية والعلاقات الزبائنية أدى إلى تراجع في نسب المشاركة السياسية، إذ يشعر قطاع واسع من المواطنين بعدم تمثّلهم في العملية السياسية، نتيجة غياب البرامج الشاملة التي تخاطب احتياجاتهم وتطلعاتهم الوطنية، وهو ما انعكس بوضوح في الانتخابات الأخيرة، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه في الانتخابات القادمة.
2.عدم وجود موقف موحد تجاه التهديدات الخارجية، بسبب اختلاف توجهات الأحزاب تبعًا لهويتها وارتباطاتها الإقليمية، مما يُضعف من قدرة الدولة على تبني سياسة خارجية منسجمة ومتماسكة، خصوصًا في ظل صراعات إقليمية مفتوحة .
3.إن اعتماد بعض الأحزاب السياسية على الهويات الطائفية كمرتكز أساسي في عملها السياسي، يسهم بشكل كبير في تغييب الهوية الوطنية وإضعاف مبادئ المواطنة. ويعمل هذا النمط من السلوك إلى تعزيز الانقسامات المجتمعية، وتنمية الولاءات الضيقة على حساب الانتماء الوطني، الأمر الذي ينعكس سلبًا على التماسك الاجتماعي وبناء الدولة.”
ختامًا، يجب على الأحزاب السياسية في العراق أن تعمل وفق برامج انتخابية واضحة وأهداف واقعية تستجيب لاحتياجات المواطنين، وتُسهم في تعزيز المشاركة السياسية والانتماء الحزبي الواعي. فالاعتماد المستمر على الهويات الطائفية كوسيلة للتعبئة لا يُمثل منجزًا سياسيًا، بل يُعمّق الانقسام، ويُضعف بناء الدولة ومبادئ المواطنة، ويُعيق تطور العملية الديمقراطية المنشودة، ويعمل على تراجع مشاركة المواطنين في العملية الانتخابية.