الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

التحولات الصامتة: كيف تعيد الفواعل الشبكية صياغة ميزان القوى؟

بقلم: حنين محمد الوحيلي / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

في النظام العالمي الذي تتسارع تحولاته بشكل لم يعد يخضع فقط لآليات الدولة ومؤسساتها، تبرز موجة جديدة من الفواعل التي تتجاوز التصنيفات التقليدية، وتعيد تشكيل مسارات التأثير والنفوذ. لم تعد الدولة وحدها فاعلاً مركزياً في إدارة الأزمات أو فرض التوازنات، بل تقاسمت المشهد مع كينونات شبكية غامضة، غير متجانسة، وعابرة للحدود. فالعالم اليوم يشهد تحولاً من “مركزية الدولة” إلى ما يمكن تسميته بـ “شبكية الفعل السياسي”.

في الأدبيات التقليدية للعلاقات الدولية، تصنف الفواعل عادةً إلى ثلاثة مستويات، فواعل دولية كالولايات المتحدة والصين، وفواعل فوق قومية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وفواعل من داخل الدولة كاللوبيات وجماعات الضغط. لكن هذه التصنيفات لم تعد كافية لفهم منطق التأثير وصناعة القرار في النظام الدولي الراهن، حيث باتت أنماط الفعل تتخذ طابعاً شبكياً عابراً لهذه الحدود. الفواعل الشبكية لا تندرج ضمن هرم القوة التقليدي، بل تتحرك أفقياً، متكئة على الروابط غير الرسمية، وتدفقات المعلومات، والتأثير الرمزي والثقافي، ما يجعلها أكثر قدرة على التسلل إلى مراكز القرار من خارج القنوات الدبلوماسية والمؤسسية المعهودة. وبذلك يصبح من الضروري إعادة صياغة نظريات الفعل السياسي الدولي لتستوعب هذه الكيانات التي تتحدى هيمنة الدولة وتحدث اضطراباً في ميزان القوى القائم، مع أنها لا تسعى بالضرورة إلى الحلول محلها ككيان سيادي، بل تعيد هندسة النظام من خلال ديناميكيات تأثير غير معلنة صراحة.

يشير مفهوم “الفواعل الشبكية” إلى كيانات غير دولية، لا تعتمد على بنية هرمية مركزية، بل على الروابط الأفقية، تدفق المعلومات السريع، والتأثير المعنوي والرمزي. تتجاوز هذه الفواعل الحدود الجغرافية والسيادية، وتستخدم بشكل مكثف الأدوات الرقمية والإعلامية والاقتصادية والأيديولوجية لتشكيل الرأي العام، التأثير في مسارات القرار، وحتى تحدي الروايات الرسمية. تتميز بقدرتها على التنظيم الذاتي، المرونة، وسرعة التكيف، ما يجعلها أدوات فاعلة في بيئة عالمية متغيرة، حيث تستغل نقاط ضعف الأنظمة التقليدية لتحقيق أهدافها دون الحاجة للمواجهة المباشرة أو امتلاك القوة الصلبة.

تتحرك هذه الفواعل في فضاءات مفتوحة ومرنة، بعيدة عن أنظمة السيادة الوطنية، وتمتلك أدوات متنوعة لفرض تأثيرها، من خلال التحكم في المعلومات، وصناعة الرأي العام، وإدارة السرديات السياسية، بل وأحياناً إعادة تشكيل الواقع السياسي ذاته. هنا يتجلى التحول الحقيقي في مفهوم “القوة”، لم تعد “القوة” هي فقط القدرة على حمل السلاح أو السيطرة على الموارد الاقتصادية، بل أصبحت القدرة على التحكم في المعرفة والمعلومة، والتأثير في الإدراك الجمعي والسياسي، محور الصراع الحقيقي في عالم اليوم.

تتجلى هذه الفواعل في صور متعددة حول العالم، من تحركات اجتماعية عابرة للحدود إلى شبكات تأثير رقمية. ولعل المثال الأبرز على تصاعد دور الفواعل الشبكية يتجلى في “محور المقاومة” الممتد من غزة إلى طهران فبيروت وبغداد وصنعاء، كتحالف غير رسمي تشكل خارج أطر الدولة التقليدية، لكنه فرض نفسه فاعلاً لا يمكن تجاوزه في المعادلات الإقليمية والدولية. لا يقوم هذا المحور على مركزية سياسية أو بنية هرمية، بل يتغذى على تشابك شبكي معقد بين حركات مقاومة محلية، ودعم شعبي عابر للهويات الضيقة، وإسناد إقليمي ذكي يعيد تعريف مفهوم الردع والمواجهة.

في العدوان (الإسرائيلي) على غزة، ظهر المحور بوصفه “فاعلاً شبكياً مركباً”، إذ توزعت أدواره بين من يخوض المعركة ميدانياً، ومن يشاغل العدو على الجبهات، ومن يضغط سياسياً أو اقتصادياً. لم يكن هذا نموذجاً تقليدياً للتحالف، بل كان مثالاً حياً على قدرة الفواعل الشبكية المقاومة على خلط أوراق النظام الدولي، وتحدي منطق القوة الكلاسيكي، عبر استراتيجية تراكبية تشبه إلى حد بعيد منطق الشبكات ذاتها.

ومن خارج الفضاء الجغرافي لمحور المقاومة، يمكن أن نجد تمظهراً مختلفاً للفواعل الشبكية في الغرب، يتمثل بحركة Anonymous””، وهي شبكة فضفاضة من قراصنة الإنترنت والنشطاء الرقميين الذين لا تجمعهم مؤسسة أو هوية رسمية، لكنهم يمارسون ضغطاً سياسياً وأمنياً حقيقياً على دول وشركات وهيئات دولية.

فعلى سبيل المثال، خلال الحرب الروسية الأوكرانية، شنت “Anonymous” سلسلة هجمات سيبرانية منسقة ضد أنظمة الدولة الروسية وشركاتها الكبرى، دون غطاء من أي دولة، لكنها خلقت خللاً نسبياً في البنية التحتية الرقمية للدولة، مما جعل الغرب يصفها بـ “الجيش السيبراني الظلي لحلف الناتو”.

كما شكلت هذه الشبكات نمطاً من الهجمات العابرة للحدود، غير الخاضعة للتراتبية، تعتمد على التنظيم الذاتي، والتحفيز الأيديولوجي، والتشاركية التقنية، ما جعلها تمثل الفاعل الشبكي النموذجي في السياق الغربي، بمنطق يتجاوز الدولة ويعيد تعريف مراكز التأثير بعيداً عن أدوات القوة التقليدية.

وبعيداً عن سياقات الصراع المباشر، تظهر الفواعل الشبكية أيضاً في منظمات المجتمع المدني العالمية التي تنسق حملات ضغط دولية حول قضايا البيئة وحقوق الإنسان، أو في شبكات المساعدات الإنسانية التي تتجاوز البيروقراطية الرسمية في حالات الكوارث. هذه الأمثلة، على اختلافها، تؤكد أن شبكية الفعل السياسي أصبحت واقعاً يتجاوز التوقعات التقليدية.

هذا التحول يطرح تساؤلات أساسية عن مدى قدرة الدولة على الاحتفاظ بسيادتها وقدرتها على التحكم في أمنها القومي ضمن هذا الفضاء المعقد، إذ باتت الدول نفسها تتخذ شكلاً شبكياً في محاولتها الاستجابة لتحديات العصر. لم يعد الأمن القومي مجرد حفظ الحدود أو التفوق العسكري، بل أصبح مرتبطاً بامتلاك أدوات النفوذ الشبكي التي تضمن التأثير في الحلبة الدولية الجديدة، التي لم تعد تدار بالخرائط فقط، بل بالمعلومات والرموز والصراعات غير المعلنة.

إن فهمنا للعلاقات الدولية اليوم لا يمكن أن يكتمل إلا بالتركيز على هندسة هذه الشبكات التي تشكل الأنسجة الحقيقية للنفوذ العالمي، حيث لم يعد الصراع محصوراً في التوازنات العسكرية أو الاتفاقيات السياسية، بل صار أكثر تعقيداً ومبطناً في الصراعات على المعلومة، والمعنى، والهيمنة الرمزية. وهنا تكمن أهمية أن تتبنى الدول استراتيجيات مرنة ومبتكرة لمواجهة هذا التحدي. يتطلب ذلك تطوير قدراتها السيبرانية والاستخباراتية لفهم آليات عمل هذه الشبكات، وبناء تحالفات استراتيجية مع كيانات شبكية أخرى (حيث يكون ذلك ممكناً) لتعزيز نفوذها.

الأهم من ذلك، يجب على الدولة أن تكتسب القدرة على التمييز الدقيق بين الفواعل الشبكية، فليست جميعها مصادر تهديد، فالشبكات التي تتناغم أهدافها مع المصالح الوطنية العليا، مثل حركات المقاومة التي تدافع عن سيادة الأمة أو تخدم قضاياها العادلة، يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة هائلة للدولة وهيبتها. ورغم أن بعض الأنظمة تعتبر هذه الشبكات تهديداً لاستقرار النظام الإقليمي أو خرقاً لسيادة الدول، إلا أن الواقع يظهر أنها تعيد تعريف التوازن الإقليمي متى ما حافظت على طابعها المقاوم ولم تتحول إلى أدوات فوضوية أو ابتزازية. هنا يكمن التحدي في استثمار هذه الكيانات من خلال توفير الدعم اللوجستي، المعلوماتي، أو حتى السياسي، مع الحفاظ على استقلاليتها ومرونتها ككيانات شبكية. هذا النهج يسمح للدولة بتوسيع نفوذها بشكل غير تقليدي، وتشكيل قوة ردع مؤثرة تتجاوز قدراتها العسكرية الصرفة.

في المقابل، يجب على الدولة أن تكون قادرة على تحديد الشبكات الضارة التي تسعى لزعزعة الاستقرار، نشر الفوضى، أو تقويض الوحدة الوطنية. يتطلب ذلك تعزيز الأمن السيبراني لمواجهة الهجمات الرقمية، وتطوير قدرات استباقية لمكافحة حملات التضليل وتشويه الحقائق التي تستهدف الرأي العام. كما ينبغي للدولة العمل على صياغة سرديات وطنية مقنعة وقادرة على مواجهة التأثيرات السلبية للفواعل الشبكية المعادية، وبناء حصانة مجتمعية ضد الاختراقات الفكرية والأيديولوجية. إن بقاء الدولة فاعلة في عالم تزداد فيه الأطر الضابطة تفتتاً يعتمد على قدرتها على التكيف والتعلم من هذه التحولات الصامتة، وتحويل التحديات إلى فرص استراتيجية.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى