الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

حين تُسلب سيادة العراق.. لا يبقى لأي منجز معنى

بقلم: حنين محمد الوحيلي / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

في الوقت الذي يفرح فيه كثير من العراقيين بتبليط شارع، أو افتتاح جسر، أو الإعلان عن تعيين جديد، تخفي تلك الفرحة البسيطة جرحاً وطنياً عميقاً، نحن لا نعيش في دولة ذات سيادة كاملة ، فقد أصبحنا نكتفي بفتات الإنجاز الظاهري، بينما بتم التأثير على شؤون البلاد من قبل قوى خارجية بشكل كبير .

ليس أخطر على الدول من أن تتوهم أنها مستقلة  بشكل تام  وهي خاضعةبطريقة او باخرى ، أو أن تتزين بواجهات المنجزات فيما القرار الحقيقي ليس بيدها بشكل تام . في العراق لا نعيش فقط حالة  السيادة المنقوصة، بل حالة إنكار جماعي لحقيقة أن السيادة لا تزال منقوصة بشكل واضح . كل ما يجري اليوم من إصلاحات شكلية أو مشاريع متفرقة، يحدث فوق أرض لا يملك أصحابها القرار فيها بشكل تام انما هناك من يشاركهم فيه . من يدير السماء ليس العراق، من يتحكم بالماء ليس العراق، من يقرر مصير ثرواته ويضغط على مصارفه ويضع خطوطاً حمراء على رواتبه وتسليحه وأمنه ليس العراق.

وهنا لا يعود السؤال عن الخدمات، أو الكهرباء، أو البطالة، أو النزاهة، بل عن الأساس الذي تقوم عليه أي دولة، من يحكم هذا البلد فعلاً؟ ومن يملك حق القرار فيه؟ وكيف يمكن أن نبني مستقبلاً في وطن لا يسمح له أن ينهض؟

السيادة العراقية اليوم ليست ملكاً  صرفا للعراقيين، بل هي سلعة مقسمة بيد قوى خارجية وأخرى داخلية تتقاذفها وتفرض شروطها على القرار الوطني. من الاحتلال الأمريكي الذي يؤثر على شؤون السياسة والاقتصاد، إلى الاختراق الاسرائيلي المتغلغل، والتوغل التركي المتزايد، والتضييق  الاقتصادي الكويتي المستمر، يظل العراق رهينة لنفوذ متعدد الأوجه، يطحن استقلاله ويجعل منه مسرحاً لمصالح خارجية لا وطنية.

 

أولاً: الهيمنة الأمريكية على العراق

 ليس أخطر على الدول من أن تنتقص سيادتها وهي تظن نفسها حرة، وأن تدار ملفاتها الكبرى بالتوافق مع عواصم أجنبية فيما مؤسساتها تكتفي بلعب دور الموظف المحلي. هذه ليست مبالغة، هذه هي الحقيقة المرة التي يعيشها العراق، حيث لم تعد الهيمنة الأمريكية حضوراً رمزياً أو نفوذاً دبلوماسياً، بل تمتد من السماء التي لا يملك أمرها، إلى الأرض التي يمنع من حمايتها، إلى رواتب المجاهدين التي يتم عرقلتها بضغط أجنبي دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض.

 

  • السماء ليست لنا

 منذ أكثر من عشرين عاماً، لم تمر لحظة امتلك فيها العراق سيطرته الكاملة على أجوائه. الطائرات الأمريكية تحلق فوق رؤوسنا دون إذن أو إعلان، تجري عمليات استطلاع وقصف وإنزال وتفتح المجال للطائرات الصهيونية لتنفذ عملياتها الاستخبارية والعسكرية داخل العمق العراقي بلا أي قدرة على الردع.

ما يمنع على العراق ليس مجرد الرادارات أو أنظمة الدفاع الجوي الحديثة، بل يمنع من التفكير أصلاً بالامتلاك، وكأن الدفاع عن الوطن أصبح امتيازاً لا حقاً. لا منظومات متقدمة، ولا دفاعات صاروخية، ولا قدرة على اعتراض طائرة معادية. في القرن الحادي والعشرين ما زال العراق في موقع المتلقي، كأنه لا يزال يخطط لحرب وجهاً لوجه، بعقلية الخنادق لا الأقمار الصناعية.

 

  • اقتصاد مرهون وإملاءات مالية

تتحكم الولايات المتحدة في مفاصل المال العراقي كما لو أنها صاحبة الخزينة. عبر العقوبات والتهديدات، وعبر التحكم بتحويلات الدولار، تفرض شروطاً على المصارف والبنك المركزي، وتخنق أي توجه نحو الاستقلال المالي. كل دينار يصرف يخضع لرقابة واشنطن، وكل مشروع تنموي كبير يحتاج لعدم معارضة من هناك.

والأدهى من ذلك، أن هذه الهيمنة تستخدم كسلاح ضد القوى الوطنية. ما يجري اليوم في أزمة رواتب الحشد الشعبي ليس مجرد تأخير إداري، بل هو أداة ضغط سياسي يراد بها كسر إرادة المقاومة. مجاهدو الحشد الذين حموا الأرض حين انهارت مؤسسات الدولة، يحرمون من حقوقهم برواتب تعلق بقرار أمريكي، وتمنع عبر مصارف خائفة من العقوبات، وسط سكوت حكومي واضح.

 

  • سلاح بسيادة منقوصة وجيش بلا تطوير

الجيش العراقي، رغم امتلاكه لعقيدة قتالية متجذرة، لا يملك أدوات العصر. يمنع العراق من امتلاك الطيران الحربي المتقدم والصواريخ الدقيقة والمنظومات المعلوماتية الحديثة بينما يغرق بسلاح مستعمل وتدريب لا يواكب الحروب الحديثة. من يتصور أن العراق يستطيع الدفاع عن سيادته دون أدوات الردع الحديثة، إنما يسوق لأوهام تخدم العدو أكثر مما تخدم الشعب.

التواطؤ الأمريكي مع هذا الواقع المقيد ليس عابراً، بل سياسة ممنهجة لإبقاء العراق ضعيفاً، حتى لا يشكل تهديداً للمصالح الأمريكية أو اسرائيلية في المنطقة. ولذا فإن أي محاولة لتقوية الحشد أو دعم الصناعات العسكرية العراقية تواجه بعقوبات وضغوط وتهديدات مباشرة.

 

ثانياً: التغلغل الاسرائيلي داخل الأراضي العراقية

لم يعد التغلغل الاسرائيلي في العراق أمراً يقال على استحياء أو يخفى خلف التحليلات. لقد تحول العراق بغطاء أمريكي وربما بتواطؤ قوى داخلية، إلى ساحة عمليات فعلية للموساد، تدار منها شبكات التجسس وتنفذ منها ضربات عسكرية وتصنع فيها القرارات الموجهة ضد السيادة الوطنية.

هناك معلومات تشير الى ان في إقليم كردستان باتت انشطة الموساد الاسرائيلي  علنية وغير مستترة، ، وتستخدم كغرف عمليات للتنصت، التخريب، وبناء شبكات النفوذ داخل العمق العراقي , وقد تكون هذه الانشطة قد امتدت مؤخرا الى باقي اجزاء العراق دون علم الاجهزة العراقية المختصة او في غفلة منها . عشرات التقارير الأمنية بعضها صادر عن دول حليفة، أكدت وجود بنى تحتية استخبارية اسرائيلية ، توظف لخدمة مشروع السيطرة والاختراق.

الأخطر أن الأراضي العراقية أصبحت منصة انطلاق لتنفيذ ضربات عسكرية خارجية، كما حدث في قصف منشآت إيرانية انطلاقاً من شمال العراق، في سابقة خطيرة تضع البلاد في موقع التورط المباشر، دون علم أو موافقة من الدولة المركزية، وبما يشكل انتهاكاً سافراً للسيادة الوطنية.

أما على صعيد الثروات، فالتغلغل الاسرائيلي لم يكتف بالجانب الأمني، بل امتد إلى سرقة النفط العراقي وتهريبه عبر منافذ في شمال العراق، بوساطة شركات ذات ارتباط وثيق (بإسرائيل)، ما يعني أن خيرات البلاد تنهب وتوظف خارج مصالح الشعب، دون أي مساءلة تذكر.

الأخطر أن العلاقة مع الكيان خرجت من السر إلى العلن دون خجل، حيث شاركت شخصيات سياسية كردية وعربية  في مؤتمرات (إسرائيلية) علنية، وظهرت على شاشات الإعلام خلال مناسبات رسمية ، في تحد سافر للقانون العراقي الذي يجرّم أي تعامل مع الكيان.

هذا ليس مجرد اختراق، بل نفوذ ناعم لجزء من العراق، تمارس فيه (إسرائيل) نفوذها الأمني والسياسي والاقتصادي، بينما تفرغ الدولة المركزية من أدوات الرد، وتعطل إرادتها أمام وقائع تفرض على الأرض بقوة الأمر الواقع.

 

ثالثاً: التدخل العسكري والسياسي التركي في العراق

 في زحام الحديث عن الاحتلال الأمريكي والتغلغل الاسرائيلي، يمر الاحتلال التركي كخنجر غرس في الجسد العراقي دون أن ينبه إلى عمقه أحد. تركيا اليوم ليست مجرد جار متجاوز، بل قوة احتلال عسكري فعلي تفرض وجودها في شمال العراق وتبني القواعد وتنفذ الضربات وتهجر السكان دون أي اتفاق معلن أو موافقة سيادية من الدولة العراقية.

أكثر من أربعين قاعدة تركية تنتشر على الأراضي العراقية، بعضها متقدم وخطير من الناحية العملياتية، ويجري توسيعها بشكل ممنهج، الطائرات التركية تنفذ ضربات جوية داخل العمق العراقي، تستهدف من تشاء، دون تنسيق أو حتى إعلام الحكومة المركزية، ما أدى إلى سقوط مدنيين، وتهجير عوائل كاملة، وتفريغ مناطق حدودية بأكملها من سكانها، وسط صمت حكومي يجعل السيادة كلمة  لا معنى لها  في قاموس السياسة العراقية.

ما يضفي على التدخل التركي طابعاً أكثر استفزازاً هو فضيحة الكاميرات التجسسية في مطار البصرة، التي كشفت أن عين أنقرة لم تعد محصورة في الشمال بل تمتد إلى الجنوب العراقي، في استباحة أمنية شاملة لا تفسير لها إلا بوجود تفاهمات غير معلنة، أو عجز معلن لا يليق بدولة ذات سيادة.

إلى جانب الاحتلال العسكري تمارس تركيا أخطر أنواع الحصار، حصار المياه، فبناء السدود الضخمة دون تنسيق والتحكم بتدفق نهري دجلة والفرات، أدى إلى جفاف مساحات زراعية شاسعة، وانخفاض مستويات المياه في الأهوار والجنوب العراقي بشكل كارثي.

ورغم امتلاك العراق أوراقاً قوية أبرزها ورقة حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا كعدو، فإن الحكومة العراقية لم تحسن استخدام هذا الملف كورقة ضغط، بل تسمح لتركيا بالتوغل باسم “ملاحقة حزب العمال”، دون أن تضع حدوداً واضحة، أو تفرض قواعد اشتباك تحمي الأرض والشعب.

التدخل التركي في العراق لم يعد حالة عابرة أو هامشية، بل أصبح نمطاً من أنماط السيطرة التدريجية، يتمدد بهدوء في ظل الانشغال بالملفات الأخرى، ويكسب شرعية واقعية على الأرض مع مرور الوقت، ما يشكل خطراً وجودياً على وحدة الأراضي العراقية وأمنها المائي والسكاني.

 

رابعاً: التمدد الكويتي والتضييق على السيادة العراقية

 لطالما تعاملت الكويت مع العراق ليس كدولة ذات سيادة، بل كملف أمني يخضع ويراقب، هذا المنهج لم ينته مع انتهاء الغزو أو الاحتلال الأميركي، بل استمر بأساليب أكثر نعومة، تقوم على التمدد الصامت والتضييق المتدرج، سواء عبر البحر أو البر، وسط صمت حكومي عراقي لا يرقى إلى مستوى المسؤولية الوطنية.

أزمة خور عبد الله ليست مجرد خلاف حدودي، بل شاهد صارخ على انحياز القرارات الدولية ضد العراق، وتمرير اتفاقيات غير متكافئة في ظروف الضعف، ثم تثبيتها بقوة الأمر الواقع. ما جرى في المحكمة الاتحادية العراقية من إلغاء التصديق على الاتفاقية، لم يقابل بأي خطوات عملية من الحكومة لإعادة النظر بالملف، ولا أي رد حازم على الاستفزازات المتكررة.

التمدد الكويتي لم يقتصر على البحر، بل يسجل زحف ميداني بطيء على الحدود البرية، يتزامن مع ضغوطات سياسية غير معلنة داخل المؤسسات الإقليمية والدولية لإبقاء العراق في زاوية المظلومية والصمت.

اقتصادياً، تمارس الكويت دوراً غير مباشر في إبقاء الحصار العربي والخليجي على العراق قائماً، من خلال تعطيل مشاريع الربط، والتضييق على المبادرات الاستراتيجية، والاصطفاف في محافل متعددة ضد أي انفتاح اقتصادي حقيقي يعطي العراق موقعه الطبيعي.

الأخطر في هذا الملف ليس فقط سلوك الكويت، بل ضعف الموقف العراقي أمامه. فالدولة لا تمتلك اليوم خطة واضحة للدفاع عن حقوقها البحرية أو البرية، ولا تبني سياسة خارجية استباقية تضع هذا الملف في موقع الأولويات، بل تواصل النهج ذاته من التغاضي والصمت الذي تقابل به كل الانتهاكات، من الشمال إلى الجنوب، وكأن السيادة مسألة ثانوية لا تتطلب صراعاً أو موقفاً أو حتى توضيحاً.

لقد كشفنا في هذا المقال عن حقيقة مرة، أن العراق اليوم لا يزال يمثل ساحة تتنازعها قوى خارجية تعمل بلا هوادة على تقويض سيادته، من الولايات المتحدة التي تتحكم بأجوائه وتفرض أزماتها الاقتصادية، مروراً بالكيان الاسرائيلي الذي ينفذ عمليات استخباراتية وعسكرية داخل أرضه، وانتهاءً بالاحتلال التركي المتوسع، والتمدد الكويتي الصامت على حدوده.

في ظل هذا الواقع، لا يمكن لأي منجز داخلي مهما كان صغيراً أن يحتسب، فسيادة العراق هي الأساس الذي تبنى عليه كل حقوقه ومكتسباته. ومن دونها تبقى شعارات التنمية والإصلاح تورية في وجه المواطن العراقي.

إن استعادة السيادة ليست حلاً وحيداً فحسب، بل هي الشرط الأول والأساس لبناء دولة حقيقية قوية، قادرة على حماية شعبها وإدارة ثرواتها، وتحقيق تطلعاتها في الحرية والكرامة.

ولذلك يجب على الحكومة العراقية أن تدرك أن الاستمرار في سياسة الصمت والتغاضي عن الانتهاكات والتنازل عن القرار الوطني، لن يقود إلا إلى المزيد من التمزق والتفكك. ومن ذلك نخلص إلى توصيات جوهرية:

  • إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية بأساليب حديثة ومتطورة تواكب العصر، لتكون أداة حماية حقيقية لسيادة العراق.

  • تبني سياسة خارجية حازمة، تضع ملف السيادة الوطنية في أولوياتها، وتستخدم كل الأوراق المتاحة ضد التدخلات الأجنبية.

  • الخروج من تحت الوصاية الأمريكية مهما كانت العواقب، ورفض أي تدخل أو ابتزاز يمس القرار الوطني، لأن الحرية لا تمنح بل تنتزع، والاستقلال لا يتحقق إلا بشجاعة المواقف الوطنية الصلبة.

  • تطوير علاقات متوازنة مع دول الجوار، شرط احترام الحدود والقرار الوطني، وعدم التساهل مع أي توغل أو انتهاك.

  • دعم المقاومة الشعبية ومجاهدي الحشد الشعبي، وحماية حقوقهم كاملة، باعتبارهم حماة الأرض والكرامة.

  • اعتماد استراتيجية وطنية متكاملة لإدارة الموارد الطبيعية، خاصة النفط والماء، مع التأكيد على أن أي استثمار أو اتفاق يجب أن يحترم السيادة ولا يسمح بسرقة الثروات.

  • رفع مستوى الوعي الشعبي والسياسي بقضية السيادة، ليكون هناك ضغط شعبي مستمر على الحكومات للالتزام بالحفاظ عليها.

لن يبنى العراق إلا بسيادة حقيقية لا تقبل المساومة، لأن سيادة الوطن هي التي تصنع إنجازاته، وهي التي تحمي وجوده وحاضره ومستقبله.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى