بقلم: جين داربي مينتون/ زميلة في برنامج السياسات النووية بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
في يوم الأربعاء صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن العمليات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة و(إسرائيل)** قد أغلقت فعليًا ملف البرنامج النووي الإيراني قائلاً “الطلب الوحيد الذي سنقدمه في المحادثات المستقبلية مع إيران هو ما كنا نطلبه سابقًا وهو عدم امتلاك برنامج نووي وقد قمنا بتدمير البرنامج النووي بالكامل”، ورغم أن مزاعمه حول “التدمير التام والكامل” لمنشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية قد تكون صحيحة، إلا أن هذا الأمر غير مؤكد ويُفسح المجال أمام فترة طويلة من عدم اليقين النووي الذي قد يتفاقم إذا لم يتم التعامل معه بصورة عاجلة وفعالة.
لقد تعرض البرنامج النووي الإيراني لأضرار واضحة غير أنه من المبكر تحديد مدى هذه الأضرار بدقة، وفي المقابل تُثير تطورات أخرى قلقًا متزايدًا إذ يبدو أن إيران ما تزال تحتفظ بكميات من اليورانيوم المخصب بدرجات عالية وهي كميات كافية لإنتاج عدة قنابل نووية في حال تكررت عمليات التخصيب، وفي تصريح أدلى به نائب الرئيس الأمريكي جيه. دي. فانس لشبكة ABC أكد أن “الأسبوع المقبل سيشهد جهودًا للتفاوض مع الإيرانيين بشأن التعامل مع هذا الوقود النووي”. وعلى الرغم من التشكيك الذي أبداه ترامب بشأن الحاجة إلى اتفاق نووي جديد فإن إدارة الأزمة تتطلب دبلوماسية فطنة تسهم في إرساء السلام وتحد من تداعيات حالة عدم اليقين المتعلقة بالقدرات النووية الإيرانية المتبقية والتي قد تؤدي إلى أزمات متكررة على المدى الطويل. ومن المعروف أن المفاوضات مع طهران معقدة بطبيعتها وقد أدى التصعيد الأخير إلى إضعاف الأدوات والمؤسسات التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها سابقًا في مواجهة المخاطر النووية.
في هذا الإطار فشلت استراتيجية إيران في الحفاظ على توازن عند العتبة النووية في ردع الهجمات الخارجية التي استهدفت المنشآت النووية وأهدافًا تابعة للنظام والقوات العسكرية، وهناك احتمال حقيقي بأن يؤدي هذا الفشل إلى تعزيز تصميم طهران على حيازة أسلحة نووية، وإذا قررت إيران المضي قدمًا في هذا المسار سواء في الوقت الراهن أو مستقبلًا فمن المرجح أن تتجه إلى وسائل أكثر تعقيدًا وصعوبة في الرصد والمراقبة بحيث لا تضطر إلى إعادة بناء منشآت كبيرة الحجم مثل “ناتانز” أو “فوردو” إذ إن المواقع الصغيرة ستكون أصعب في الكشف حتى باستخدام أفضل أجهزة الاستخبارات، ومع امتلاكها حالياً مواد مخصبة بدرجات عالية وتقنيات متقدمة وكوادر فنية ماهرة قد يتمكن النظام الحالي أو أي نظام مستقبلي من إعادة تأسيس برنامج نووي عسكري خلال فترة زمنية قصيرة.
حتى في حالة عدم إحياء برنامج الأسلحة النووية ستتطلب استمرار مراقبة هذه الطموحات وإبقائها في حالة كامنة قدرًا كبيرًا من اليقظة والموارد لفترة ممتدة، كما ستجد طهران التي لها تاريخ في إخفاء أنشطتها النووية، صعوبة بالغة في إقناع المجتمع الدولي بالتخلي عن برامجها النووية. وفي هذا السياق يمثل التدهور الملحوظ في علاقة إيران بالوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) مصدر قلق بالغ حيث تلعب الوكالة دورًا جوهريًا في مراقبة البرنامج النووي الإيراني وضمان سلمية أنشطته، وقد كانت الوكالة عنصرًا رئيسيًا في الجهود السابقة للحد من البرنامج الإيراني لاسيما من خلال تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (JCPOA)، التي وفرت للوكالة وصولًا غير مسبوق إلى المنشآت النووية الإيرانية بما فيها تلك التي تعرضت للقصف مؤخرًا.
قبل اندلاع الحرب كانت العلاقات بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية تسير على مسار مقلق، بعد انسحاب إدارة ترامب الأولى من الاتفاق النووي الشامل (JCPOA) عام 2018 وكان حينها النظام الإيراني ملتزمًا ببنود الاتفاق شرعت إيران تدريجيًا في التراجع عن التزاماتها بموجب الاتفاق ذاته، ففي شباط 2021 أوقفت طهران تنفيذ البروتوكول الإضافي مع الوكالة وهو إجراء أمني يوسع نطاق تبادل المعلومات ويسمح للمفتشين بالوصول إلى مواقع نووية إضافية، كما قلّصت إيران معظم متطلبات المراقبة الخاصة بالاتفاق النووي التي صُممت لتعزيز الرقابة على مراحل متعددة من دورة الوقود النووي مما يصعّب إخفاء الأنشطة السرية.
استمرت عمليات التفتيش الدورية ضمن إطار الضمانات المعتادة مما أتاح بعض الرؤية حول تعقيدات البرنامج النووي الإيراني المتزايدة، إلا أن تصاعد التعنت دفع مجلس محافظي الوكالة إلى إعلان خرق إيران لالتزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي في 12 حزيران، وجاءت الضربات (الإسرائيلية) في اليوم التالي حيث استشهد نائب الرئيس الأمريكي ج. د. فانس بنتائج الوكالة كجزء من تبرير الضربات الأمريكية. رغم توقف عمليات التفتيش خلال النزاع واصلت الوكالة متابعة الوضع بقدر الإمكان وحثّت إيران على الاستمرار في الحوار مع مركز الحوادث والطوارئ التابع لها، وكما صرح المدير العام للوكالة رفائيل غروسي أمام مجلس الأمن الدولي “لا يجب أن تغطي ضبابية الحرب المنشآت والمواد النووية”.
مع انقشاع غبار الحرب تثار تساؤلات بشأن الدور الذي ستتمكن الوكالة من أدائه مستقبلاً، فإيران على الأقل في الوقت الراهن ما زالت طرفًا في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT) وملتزمة باتفاق الضمانات الشاملة الذي يلزم الدول بالإبلاغ عن المواد والمنشآت النووية للسماح بالتحقق من عدم تحويلها لأغراض عسكرية، علاوة على ذلك إذا وافقت إيران على المطالب الغامضة نسبيًا لإدارة ترامب بالتخلي النهائي عن الأسلحة النووية فإن خبرة الوكالة الفنية ومعرفتها بتاريخ البرنامج النووي ستكون ذات قيمة كبيرة في طمأنة المجتمع الدولي إلى أن القدرة على التسلح النووي لن تُعاد بسهولة. مع ذلك فإن التعاون مع الوكالة سيكون تحديًا سياسيًا لطهران لا سيما بعد الأحداث الأخيرة ويتصاعد داخل إيران صوت معارض، فقد انتقد مسؤولون إيرانيون من بينهم وزير الخارجية عباس عراقجي المجتمع الدولي لفشله في منع أو إدانة الهجمات على المنشآت النووية المدنية الخاضعة لضمانات الوكالة، وفي أثناء النزاع هدد علي لاريجاني مستشار آية الله علي خامنئي رئيس الوكالة قائلاً “عندما تنتهي الحرب سنتعامل مع غروسي”، وأعلن المسؤولون الإيرانيون بالفعل عن نيتهم إيقاف تبادل بعض المعلومات مع الوكالة كما أقر البرلمان الإيراني مؤخرًا قانونًا يدعو إلى تعليق تعاون الحكومة مع الوكالة بالكامل.
في الأيام والأسابيع المقبلة سيكون على صانعي القرار التمييز بدقة بين الإحباطات المشروعة لطهران والقيود السياسية الداخلية، وبين محاولات التلاعب بهذه الظروف لإخفاء طموحات التسلح السرية، ومن المتوقع أن يشهد المستقبل الكثير من التكهنات حول قدرات إيران ونواياها. ونظرًا لتعقيد البرنامج النووي الإيراني وتضرر منشآته مؤخرًا سيكون من الضروري استعادة خطوط الأساس للرقابة خلال الأسابيع والأشهر القادمة، وأشار ترامب إلى أن الولايات المتحدة وإيران ستجريان محادثات الأسبوع المقبل وينبغي أن تكون استعادة خطوط الأساس محورًا رئيسيًا لهذه المفاوضات، يحتاج المجتمع الدولي إلى معرفة القدرات التي احتفظت بها إيران بعد الضربات وتحديد المعدات والمواد التي قد تُستخدم لاحقًا لإعادة بناء البرنامج.
رغم أن بعض عدم اليقين لا مفر منه فإن الشكوك سترتفع إذا بدت إيران غير متعاونة أو إذا اضطر صناع القرار والجمهور إلى تصديق تصريحات طهران دون تمحيص، فعلى الرغم من تفكيك العراق لبرنامجه النووي بعد هزيمته في حرب الخليج الأولى لم يثق المجتمع الدولي في نجاح هذه العملية جزئيًا بسبب المماطلة العراقية المستمرة، مما وفر ذريعة لتدخلات مستمرة وأدى إلى عدم الاستقرار الإقليمي.
إذا كانت جميع الأطراف بما في ذلك إيران تطمح إلى أكثر من مجرد تهدئة مؤقتة بين الأزمات النووية فيجب أن تعطي أولوية لاستعادة قدر من الشفافية ويفضل أن يكون ذلك عبر آليات متعددة الأطراف، ورغم أن الأحداث الأخيرة أظهرت درجة عالية من تعقيد اختراق الاستخبارات (الإسرائيلية) والأمريكية فإن التناقضات العلنية حول وجود التهديد النووي الإيراني القريب أو البعيد تؤكد مخاطر الاعتماد الحصري على هذه المصادر وتفسير القادة لها، قد تكون شكاوى إيران من الوكالة الدولية للطاقة الذرية صعبة التجاوز ولكن في غياب التعاون ستظل الأزمات المستقبلية صعبة التجنب وأصعب في التهدئة.
* Jane Darby Menton, Don’t Let Iran Become Another Iraq Nuclear uncertainty is bad for regional stability, FOREIGN POLICY, June 27, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.