تحليلات و آراءترجماتغير مصنف

الزحف البطيء نحو الهيمنة (إسرائيل) وتشكيل النظام الإقليمي الجديد

  بعد أن أذلت الأنظمة العربية ثم وجّهت ضرباتها إلى إيران لا تزال رهاناتها معقودة على ترامب

بقلم: مايكل هيرش/ كاتب رأي في مجلة فورين بوليسي

ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية

تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

توشك (إسرائيل)** أن تبلغ نهاية مسار تاريخي استثنائي امتد على مدى نصف قرن، بدأت فيه بترسيخ تفوقها العسكري على جيرانها العرب وها هي اليوم تسعى إلى فرض ذات الهيمنة على إيران، التي تمثّل التهديد الإقليمي الأبرز المتبقي أمامها. ورغم سجلها المذهل من النجاحات العسكرية فإن (إسرائيل) لا تزال في حاجة ماسة إلى الولايات المتحدة الحليف الجيوسياسي الأهم لها، بل إن المرء قد لا يبالغ إذا قال إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحده قادر على إنهاء هذه الحرب الراهنة، وتحقيق الاستقرار الاستراتيجي الذي تحتاجه المنطقة بشدة. السؤال الحاسم الآن هو هل سيعمل ترامب على إنهاء الحرب أم توسيع نطاقها؟

فهو وحده من بيده أن يتخلى عن تعهداته الانتخابية ويغرق في حرب جديدة في (الشرق الأوسط) – ربما عبر إصدار أمر بشن غارات أميركية على منشأة “فردو” النووية المحصنة – أو أن يوقف اندفاعة (إسرائيل) نحو ما تعتبره لحظة الحسم، من خلال التفاوض على صفقة مع النظام الإيراني المترنح.

المشكلة أن ترامب حتى الآن يبدو غير حاسم في موقفه ويواجه انقسامًا داخليًا عميقًا داخل حزبه الجمهوري، ففي غضون أيام قليلة انتقلت الإدارة من النأي بالنفس والدعوة إلى الدبلوماسية إلى إعلان ترامب بأن “لدينا السيطرة الكاملة على الأجواء فوق إيران”، بل وتلميحه إلى إمكانية “القضاء” على المرشد الأعلى علي خامنئي نفسه.

ويبدو مرة أخرى أن (إسرائيل) نجحت في دفع واشنطن المترددة إلى الانخراط في صراع إقليمي – وهو انخراط قد يهدد حياة نحو 40 ألف جندي أميركي منتشرين في المنطقة إذا ما قررت الولايات المتحدة مهاجمة إيران، هذا النمط ليس جديدًا، فعلى الرغم من التقدم التكنولوجي والعسكري الذي أحرزته (إسرائيل) والتي لا يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، إلا أن اعتمادها على تحالفها مع الولايات المتحدة ظل عنصرًا حاسمًا في ترسيخ تفوقها الإقليمي.

لقد بدأ هذا التحالف في بدايات نشأة الدولة (الإسرائيلية) عام 1948 عندما اختارت الاصطفاف مع المعسكر الأميركي في الحرب الباردة في وقت تحالفت فيه غالبية الدول العربية مع الاتحاد السوفيتي، وقد بلغ هذا التحالف العربي – السوفيتي ذروته في حرب عام 1973، حين تلقت مصر وسوريا كميات كبيرة من الأسلحة السوفيتية المتطورة بما في ذلك دبابات T-62 وصواريخ SA-9 المضادة للطائرات، وكادتا أن تحققا نصرًا على (إسرائيل). لكن تلك الحرب كانت آخر مرة شكّلت فيها الدول العربية تهديدًا وجوديًا (لإسرائيل)، فقد أتاح اتفاق كامب ديفيد عام 1979، الذي رعاه الرئيس الأميركي جيمي كارتر فترة طويلة من الهدوء مكنت (إسرائيل) من بناء تفوق تكنولوجي هائل بالتنسيق مع الولايات المتحدة، في المقابل دخلت الأنظمة العربية في حالة من الجمود السياسي والعسكري بينما ظلت جيوشها متخلفة.

كما أشار الخبير الاستخباراتي رويل مارك غيرشت وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية فإن أفول الاتحاد السوفيتي تزامن مع أفول قدرة العرب على التطوير العسكري، وقال “مع سقوط السوفييت انتهت اللعبة، وانهيار الدول العربية الأكثر تطورًا – كسوريا والعراق ومصر – أكد هذا المسار، ومع تقدم التكنولوجيا الأميركية و(الإسرائيلية) منذ نهاية الحرب الباردة، اتسعت الفجوة بشكل لا يمكن ردمه”.

واليوم تعاني الجمهورية الإسلامية الإيرانية من آثار هذه الفجوة، ولم يُغير من موازين القوى في (الشرق الأوسط) شيء أكثر من القدرات العسكرية والاستخباراتية التي أظهرتها (إسرائيل) منذ هجمات 7 تشرين الاول 2023، التي نفذتها حركة حماس الحليفة لإيران.

في ذلك اليوم الذي مضى عليه 620 يومًا بدت (إسرائيل) أضعف مما كانت عليه منذ عقود، فقد تمكنت حماس التي كانت تُعد إلى وقت قريب فاعلًا منضبطًا من تنفيذ الهجوم الأكثر دموية على اليهود منذ المحرقة فقتلت أكثر من 1,200 (إسرائيلي) وأخذت أكثر من 200 رهينة، في الوقت ذاته كان حزب الله المدعوم من إيران تهدد من الشمال بينما كانت طهران تمضي قدمًا في برنامجها النووي. لكن بعد عام ونصف انقلبت المعادلة تمامًا، فقد تمكنت (إسرائيل) من خلال سلسلة من العمليات الدقيقة من القضاء على قيادة حماس وتوجيه ضربات موجعة لحزب الله وإضعاف إيران، ما مهّد الطريق لإسقاط حليف طهران الأبرز الرئيس السوري بشار الأسد، وقد أدّى صعود زعيم سني يُدعى أحمد الشراع إلى السلطة خلفًا لعائلة الأسد العلوية إلى قطع الطريق البري الذي كان يوصل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله.

وبات حزب الله رغم كل تهديداته السابقة في حالة شلل وصمت حتى في ظل القصف (الإسرائيلي) المباشر لإيران، وكذلك الأمر بالنسبة للفصائل الموالية لإيران في العراق التي ظلت هادئة رغم استخدام الطائرات (الإسرائيلية) للمجال الجوي العراقي، بل إن مقتدى الصدر الذي كان أحد أكثر رجال الدين الشيعة تشددًا دعا في منشور له إلى “النأي بالنفس” عن الحرب مؤكدًا أهمية أن يبقى العراق بعيدًا عن هذا الصراع. وفي الأيام الأخيرة بلغت (إسرائيل) ذروة الاستعلاء العسكري بعد أن قتلت كبار قادة المؤسسة العسكرية الإيرانية وعددًا من أبرز العلماء النوويين وفرضت سيطرة جوية كاملة فوق إيران، والرسالة التي بعث بها رئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو إلى القيادة الإيرانية، واضحة “نستطيع القضاء عليكم في أي لحظة”، وفي تطوّر لافت أصبح نتنياهو يلمّح إلى أن تغيير النظام في إيران قد بات هدفًا مشروعًا – وهو ما كان يُعد حتى وقت قريب مجرّد وهم. وعليه فإن (إسرائيل) باتت بلا منازع القوة العسكرية الأولى في (الشرق الأوسط) في الوقت الراهن (مع بقاء تركيا كعامل مؤثر يجب أخذه بالحسبان)، غير أن هذا التفوق لن يُترجم إلى استقرار استراتيجي طويل الأمد من دون الدعم الأميركي، وإذا لم تتدخل واشنطن فإن بؤر التوتر ستبقى قائمة وستظل إيران تحتفظ بإمكانية إعادة بناء قدرتها النووية.

وهنا تعود المعضلة إلى ترامب نفسه الذي يبدو مترددًا في رسم اتجاه واضح، فقد غادر قمة مجموعة السبع في كندا قبل موعدها بيوم لينفي وجود نية للتفاوض مع طهران بل وحذّر الإيرانيين من البقاء في طهران، ومع ذلك ألمح في تصريح آخر إلى انفتاحه على صفقة أشمل قائلًا إن هدفه هو “نهاية حقيقية لا مجرد وقف إطلاق نار”.

تشير تقارير ومصادر مقربة من إدارة ترامب إلى وجود انقسام عميق بين كبار المسؤولين حول مدى دعم (إسرائيل) في الحرب الجديدة، داخل البنتاغون ومجلس الأمن القومي يُبذل قائد القيادة المركزية الجنرال مايكل إي. كوريللا جهودًا كبيرة لدعم (إسرائيل) في مواجهة مقاومة من جانب ما يُعرف بـ”المقيدين” مثل نائب وزير الدفاع لشؤون السياسة إلبريدج كولبي الذين يتبنون رسالة ترامب بسحب القوات الأميركية من النزاعات الخارجية، ويبرز هذا الصراع بوضوح التوترات غير المحلولة داخل الحزب الجمهوري بين جناح “النيكون” القديم المتشدد الذي يفضّل تغيير النظام في طهران، وبين التيار الجديد من العزليين الشعبويين الذين ساهموا في وصول ترامب إلى السلطة.

في بداية الأسبوع بدا الرئيس نفسه يميل إلى إبرام صفقة دبلوماسية جديدة ولم يكن مفاجئًا إقالته لمستشاره للأمن القومي المتشدد تجاه إيران مايك والتز في الأول من أيار، وقد كرر ترامب دعوته لطهران لقبول الاتفاق الصارم الذي عرضه قبل اندلاع الأعمال العدائية، والذي يشمل التزامًا بوقف تخصيب اليورانيوم بالكامل،

لكن بحلول يوم الثلاثاء وقبل اجتماع الأمن القومي في البيت الأبيض بدا ترامب متحولًا إلى موقف أكثر عدوانية مطالبًا بـ”الاستسلام غير المشروط!” لخامنئي كما جاء في منشور له على منصة Truth Social، كتب ترامب “نحن الآن نسيطر بشكل كامل على الأجواء فوق إيران” مما يشير إلى تورط واشنطن في العملية (الإسرائيلية)، وأضاف “نعرف بالضبط مكان اختباء ‘المرشد الأعلى’ المزعوم هو هدف سهل لكنه في مأمن هناك – لن نقتله (على الأقل في الوقت الحالي) … صبرنا بدأ ينفد”.

وفي تصريحات للصحافة قال ترامب “كان ينبغي عليهم قبول الاتفاق لقد دمرت المدن وخسروا الكثير من الناس قلت لهم اقبلوا الاتفاق لكني لا أعرف لست في مزاج للتفاوض كثيرًا”، ومن الواضح أنه بدون تدخل أميركي قد تجد (إسرائيل) نفسها غارقة في صراع لا نهاية له مع الفلسطينيين والإيرانيين لا سيما وأن ضمان عدم حصول طهران على قنبلة نووية قد يكون مستحيلاً من دون دعم عسكري أميركي، ويعتقد عموماً أن باستثناء عملية كوماندوز (إسرائيلية) عالية الخطورة فإن القنبلة الأميركية من طراز GBU-57A/B المعروفة بـ”مدمرة القواعد” والتي تزن حوالي 30,000 رطل وتحملها قاذفة B-2 الأميركية، هي الوسيلة الوحيدة القادرة على تدمير موقع “فردو” النووي المدفون تحت جبل.

إيران ليست كالعراق أو سوريا فهي دولة أكثر تعقيدًا وغنى ومن غير المرجح أن تستسلم بسهولة، وحتى لو تمكنت (إسرائيل) من إسقاط خامنئي، فإن أي حكومة خلفًا له قد تكون أكثر عزماً على بناء القدرة النووية.

في الوقت نفسه تتبع إيران استراتيجية محفوفة بالمخاطر تستهدف المدنيين (الإسرائيليين)، يوضح بهنام بن طالبلو خبير إيران في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في مقابلة هاتفية “لا تزال السلطات الإيرانية تعتمد على استهداف المدن الكبرى مثل تل أبيب وحيفا كرد فعل على الضربات (الإسرائيلية) ولإجبار الطرف الآخر على التراجع مؤقتًا عبر إحداث خسائر في صفوف المدنيين”، ويضيف “لكن كلما استمر النظام في استخدام أسلحته الأقوى ضد (إسرائيل)، زادت احتمالية إغلاق نافذة الحل الدبلوماسي”.

وقد تختار إيران التي يُعتقد أنها تمتلك أسلحة كيماوية تصعيدًا مدمرًا، يقول طالبلو “هذا هو العامل X. قد تلجأ إيران أيضًا إلى الإرهاب الدولي”، ولا تمتلك أي من دول الخليج التي تستضيف قوات أميركية، منظومة دفاع صاروخي تضاهي الدرع الصاروخي (الإسرائيلي). ورغم هذه المخاطر، يرى بعض الجمهوريين أن الهيمنة (الإسرائيلية) الجديدة في (الشرق الأوسط) قد توفر مخرجًا من الصراع بين جناحي الحزب الجمهوري النيكون المتشددون والعزليون الجدد.

يقول النائب الجمهوري السابق مايك جالاغر وهو خبير دفاعي محترم ورئيس استراتيجية الدفاع في شركة بالانتير التي تعاقد معها البنتاغون “ربما تكون أفضل طريقة لتقليل التزامات أميركا الخارجية، إذا أردنا تقليص وجودنا في (الشرق الأوسط) هي الاستثمار بشكل كبير في حلفاء قادرين على القتال بشكل فتاك”، وأضاف “من الرائع أن لدينا حليفًا موثوقًا وقويًا كهذا في (إسرائيل)، فكم سيكون الأمر أفضل لو حققنا وضعًا مماثلاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”.

* Michael Hirsh, Israel’s Long Road to Regional Dominance First it humiliated the Arabs, then the Iranians—but Israel still needs Trump, foreign policy, June 18, 2025.

**  لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى