الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف

الردع بالهيمنة

تجلّيات الواقعية الهجومية في الخطاب الأميركي بشأن الاشتباك (الإسرائيلي)–الإيراني

بقلم: نور نبيه جميل/ باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

المدخل النظري – الواقعية الهجومية كإطار تفسيري

      تُعد الواقعية الهجومية أحد الاتجاهات التفسيرية الأكثر تأثيراً في تحليل سلوك الدول الكبرى، لا سيما في بيئة دولية مضطربة تتسم بالفوضى وانعدام الثقة. وقد طوّر جون ميرشايمر هذه المقاربة لتقديم تفسير بنيوي لاندفاع القوى العظمى نحو الصراع والهيمنة، مفترضًا أن الفوضى الدولية، وغياب سلطة ضامنة، يدفعان الدول لأن تكون عدوانية بطبيعتها، لا لأن تكتفي بالدفاع عن أمنها فقط. وعليه، فإن الولايات المتحدة، بوصفها قوة مهيمنة عالمية، لا يمكن تفسير مواقفها تجاه الخصوم، مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلا من منظور السعي إلى تعزيز موقعها ومنع بروز منافسين إقليميين.

إن الخطاب الأمريكي بشأن الاشتباك (الإسرائيلي (–الإيراني لا ينفصل عن هذا المنظور، بل يعكس –بصورة واضحة– رغبة الولايات المتحدة في إعادة ضبط ميزان القوى الإقليمي بما يحفظ (لإسرائيل) تفوقًا استراتيجيًا، ويحول دون تحوّل إيران إلى مركز قوى إقليمي قادر على تهديد النظام الإقليمي المدعوم أميركيًا.

تحليل الخطاب الأميركي تجاه الاشتباك الإسرائيلي–الإيراني

منذ تصاعد المواجهة المفتوحة بين (إسرائيل ) وإيران، خصوصًا عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (تشرين الاول 2023) وردود الفعل الإيرانية المباشرة التي اعقبتها في (نيسان  2024)، اتسم الخطاب الأميركي تجاه الطرفين بثنائية تبدو متناقضة ظاهريًا: دعم غير مشروط (لإسرائيل) من جهة، ودعوات مضبوطة لاحتواء التصعيد من جهة أخرى. بيد أن هذا التناقض الظاهري يُمكن قراءته في ضوء الواقعية الهجومية بوصفه محاولة لتعظيم الهيمنة عبر الردع الوقائي، وليس سعياً إلى الاستقرار بذاته. وتتجلى هذه المواقف وفق الاتجاه الاتي:

أبرز ملامح الخطاب الأميركي:

  1. التركيز على “حق (إسرائيل) في الدفاع عن النفس”، مع تجاهل موازٍ للعدوان الصهيوني المستمر.

  2. شيطنة الجمهورية الاسلامية واعتبارها الراعي المركزي لعدم الاستقرار في المنطقة، واستخدام مفردات مثل “التهديد الإيراني”، “الخطر النووي”، “وكلاء طهران”.

  3. تأكيد الالتزام الأميركي الثابت بأمن (إسرائيل) كجزء من الأمن القومي الأميركي نفسه.

  4. التصريحات العسكرية التحذيرية، مثل إرسال حاملات طائرات إلى (شرق المتوسط) أو تعزيز القواعد في الخليج.

إن هذه المفردات لا تُبنى على تقييم أخلاقي أو قانوني للصراع، بل تعبّر عن فهم بنيوي للقوة كأداة لإعادة تشكيل البيئة الإقليمية وفق مصلحة الهيمنة الأميركية. فالموقف الأميركي لا ينظر إلى الجمهورية الاسلامية بوصفها خصمًا فقط، بل بوصفها تهديدًا بنيويًا يُمكنه –عبر دعم حلفاء كحزب الله وحماس أو تطوير القدرات النووية– تقويض التفوق (الإسرائيلي)، ومن ثم تفكيك النظام الإقليمي الأميركي من الأطراف.

كما تُجسّد التطورات الأخيرة في الخطاب والممارسة الأميركية تجاه التصعيد (الإسرائيلي)–الإيراني، لاسيما بتاريخ 17 حزيران 2025، تطبيقًا دقيقًا لمبادئ الواقعية الهجومية التي تفترض أن الفوضى البنيوية للنظام الدولي تُحتّم على الدول الكبرى السعي الحثيث نحو الهيمنة الإقليمية كوسيلة لضمان البقاء وتعظيم القوة. ففي هذا السياق، شكّل الإعلان عن نشر مقاتلات من طراز F16 وf22 وF‑35 في الشرق الأوسط، إلى جانب حاملة طائرات، تعبيرًا عمليًا عن السعي الأميركي إلى احتكار ميزان القوة في الإقليم، بما يعزز من قدرة الردع الوقائي تجاه أي تموضع إيراني قد يُعيد تشكيل موازين القوة. ويأتي هذا التعزيز العسكري متزامنًا مع خطاب حاد أطلقه الرئيس الأميركي، وصف فيه المرشد الأعلى السيد الخامنئي بـ”الهدف السهل”، معلنًا أن الولايات المتحدة تعرف موقعه بدقة، لكنها “لن تقتله الآن”، ما يُعد تمظهرًا واضحًا لمنطق الترهيب الاستراتيجي الذي تتبناه الواقعية الهجومية، حيث تُوظَّف التهديدات لا لمنع الحرب فحسب، بل لضمان خضوع الخصم لإرادة الدولة الأقوى.

في ذات الوقت، أكدت الولايات المتحدة سيطرتها الكاملة على المجال الجوي الإيراني، في تعبير صريح عن السعي إلى الهيمنة الجوية بوصفها أداة لفرض الإرادة واحتواء النفوذ الإيراني. كما برز الطابع التكتيكي للعقل الاستراتيجي الأميركي في إعلانه إنشاء “قوة مهام” لمتابعة التطورات الميدانية، ما يُشير إلى رغبة في إدارة المشهد من موقع فوقي يدمج بين الردع الصلب والمبادرات السياسية الوقائية. وتعكس هذه الممارسات، مجتمعة، رفضًا أميركيًا لأي توازن ردعي متكافئ بين إسرائيل وإيران، وسعيًا محمومًا نحو إعادة ترسيخ التفوق (الإسرائيلي) المدعوم أميركيًا، كجزء من هندسة النظام الإقليمي بما يتوافق مع مصلحة الطرف الأقوى. إن هذا الأداء الأميركي، المتسم بالحزم والتهديد والاستعداد المسبق لتوسيع رقعة المواجهة، يُجسد في جوهره تصور الواقعية الهجومية حول أن الاستقرار لا يتحقق بالتوازن، بل بالهيمنة التي تضمن شلّ خيارات الخصوم قبل أن تُترجم إلى وقائع.

دعم (إسرائيل) كترجمة عملية لمبدأ الهيمنة الوقائية

تشير الواقعية الهجومية إلى أن الدول العظمى لا تنتظر حتى يهددها الخصم بشكل مباشر، بل تسعى إلى احتوائه مبكرًا، وضرب إمكانياته الصاعدة قبل أن تترسخ. وهنا تحديدًا يمكن فهم حجم الدعم الأميركي (لإسرائيل)، خصوصًا في مجال منظومات الدفاع الجوي، والاستخبارات، والتنسيق العسكري في المنطقة.

إن الولايات المتحدة الأميركية، برؤيتها الواقعية، تعتبر (إسرائيل) امتدادًا عضويًا لسياساتها في (الشرق الأوسط)، لا مجرد حليف. وبالتالي فإن المحافظة على (التفوق الإسرائيلي) تعني –بالمنظور الواقعي– المحافظة على الهيمنة الأميركية. وقد تجلى ذلك بوضوح في:

  • تمرير مساعدات طارئة بقيمة مليارات الدولارات لدعم الترسانة الإسرائيلية (2024).

  • تقديم دعم دبلوماسي في مجلس الأمن لمنع إدانة إسرائيل.

  • التنسيق الاستخباري الوثيق بشأن أنشطة إيران الإقليمية والنووية.

كل هذه الإجراءات لا تُقاس فقط من زاوية دعم الحليف، بل من زاوية إدارة النظام الإقليمي بالقوة الناعمة والصلبة في آنٍ واحد، لردع الخصوم وطمأنة الحلفاء ضمن بنية استراتيجية أميركية أوسع.

استباق التهديد الإيراني ومنع تعددية الأقطاب الإقليمية

من منظور الواقعية الهجومية، تُعد تعددية الأقطاب الإقليمية مصدرًا دائمًا لانعدام الأمن وعدم الاستقرار. والولايات المتحدة، بوصفها دولة تسعى إلى بقاء هيمنتها الأحادية في المنطقة، ترى أن ظهور إيران كقطب موازن، سواء عبر قدراتها العسكرية، أو حضورها في الإقليم، أو مشروعها النووي، يُهدد التفوق النسبي الذي تتمتع به (إسرائيل).

لهذا، فإن خطاب واشنطن السياسي والعسكري يهدف إلى:

  1. نزع مشروعية إيران إقليميًا ودوليًا.

  2. تأطير الصراع بوصفه مواجهة بين محور “الاستقرار والاعتدال” (إسرائيل والخليج) ومحور “التطرف واللاشرعية” لإيران وفصائل المقاومة.

  3. الحيلولة دون أي إعادة توزيع للقوة من شأنها أن تغيّر معادلة الردع القائمة.

بمعنى آخر، فإن التصعيد الأميركي–(الإسرائيلي) تجاه إيران لا يُقاس فقط برد الفعل، بل بالخشية من تحول طهران إلى مركز قوى بديل يهدد النظام الإقليمي الأميركي من الداخل.

مآلات الموقف الأميركي – بين الاحتواء والتصعيد

من زاوية الواقعية الهجومية، فإن الولايات المتحدة ليست بصدد تحقيق تسوية طويلة الأمد بين (إسرائيل) والجمهورية الاسلامية، بل تهدف إلى إدارة التوازن القائم بشكل يضمن الهيمنة وليس الاستقرار. وهذا ما يفسر؛ ازدواجية الموقف الأميركي بين منع الحرب الشاملة من جهة، والاستمرار في تمكين (إسرائيل) من الردع والهجوم من جهة أخرى. فضلاً عن تفسره التلويح بالخيار العسكري ضد إيران عند الضرورة، دون السعي الجاد لتفعيل الدبلوماسية الاستراتيجية. وايضاً تثبيت بنية “الردع بالقوة” بدلًا من “الردع بالحل السياسي”.

في ضوء ذلك ومع استمرار حالة الاستقطاب الإقليمي، واستمرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية في توسيع نفوذها اقليمياً، فإن احتمالات التصعيد ستظل قائمة، خصوصًا إذا رأت الولايات المتحدة الأميركية أن الردع (الإسرائيلي) بات مهددًا، أو أن ميزان القوى يميل لصالح إيران في بعض الجبهات (لبنان، سوريا، العراق، غزة).

الردع بالتكثيف الصراعي: إيران من موقع الدفاع الاستراتيجي إلى الهجوم الوقائي في منظور الواقعية الهجومية

في ضوء التصعيد الإقليمي بين الجمهورية الاسلامية و (إسرائيل)، يمكن فهم الموقف الإيراني من خلال عدسة الواقعية الهجومية (Offensive Realism)، التي ترى أن الدول لا تسعى فقط إلى البقاء، بل إلى تعظيم قوتها باستمرار لضمان أمنها في نظام دولي فوضوي يفتقر إلى سلطة عليا ضامنة. ووفقًا لهذا المنظور، فإن إيران لا تتعامل مع المواجهة كخيار تكتيكي عابر، بل كوسيلة لتثبيت موقعها كفاعل إقليمي يصعب تحييده أو تهميشه.

تفترض الواقعية الهجومية أن النية الحقيقية للدول غير قابلة للتحقق، ولذلك فإن أفضل وسيلة لضمان البقاء هي توسيع النفوذ والهجوم الوقائي عند الضرورة. ومن هذا المنطلق، يُفهم سلوك إيران على أنه ردع بالقوة المباشرة وغير المباشرة عبر حلفائها الإقليميين،  هذا يفسر الضربات صاروخية  المباشرة في بعض الجبهات، وذلك لمنع إسرائيل من الانفراد بهامش المناورة الاستراتيجية، وردًا على استهداف متزايد لعناصر الحرس الثوري والامن القومي الايراني والمصالح  الحيوية.

كما ان الرسائل السياسية والعسكرية الإيرانية تُظهر انتقالًا واضحًا من منطق الردع السلبي إلى الردع النشط/الهجومي، أي منع العدو من التفكير بالهجوم، لا فقط ردعه بعد أن يبدأ. وهو ما يتقاطع مع ما يطرحه منظر الواقعية الهجومية جون ميرشايمر حول أن الدول الكبرى تسعى دائمًا إلى تعظيم قوتها الإقليمية لتقليل فرص التهديد المستقبلي.

بمعنى اخر وباختصار، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفقًا للواقعية الهجومية: لا تكتفي بالدفاع عن حدود نفوذها، بل تسعى إلى فرض تكلفة عالية على خصومها لردعهم استباقيًا، مع إدراكها أن التراخي في الرد يُفقدها مصداقيتها أمام حلفائها، ويمنح (إسرائيل) هامش تفوق دائم في ميزان الردع. يعكس الخطاب الأميركي تجاه الاشتباك الإسرائيلي–الإيراني تجلّيات عميقة للواقعية الهجومية بوصفها منطقًا تفسيريًا موجّهًا لسلوك الدولة العظمى في بيئة فوضوية. فالولايات المتحدة لا تسعى فقط لاحتواء تهديد آني، بل لإعادة تثبيت موقع الهيمنة الإقليمية عبر دعم الطرف الأقوى (إسرائيل)، واستباق أي تحوّل في موازين القوة (إيران).

وعليه، فإننا أمام سياسة ردع وقائية أميركية، تُدار على قاعدة:

  • منع قيام تعددية قطبية في (الشرق الأوسط).

  • ترسيخ التفوق (الإسرائيلي).

  • إدارة الاشتباك مع إيران تحت سقف “الردع غير المتكافئ”.

وفي ضوء ذلك، من المرجح استمرار السياسة الأميركية على هذا النحو، مع هامش قابل للانفجار كلما ضعفت فاعلية (الردع الإسرائيلي) أو ظهرت مؤشرات اختلال في توازن القوى. فالواقعية الهجومية لا تترك مجالًا للتسويات المستقرة، بل لإعادة إنتاج التفوق، ولو من خلال الحرب المحدودة.

 
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى