بقلم/ نور نبيه جميل / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
المقدمة:
من الرمز إلى الفعل – صراع يتكثف في ظل سقف الحرب ، لاسك ان جوهر الردع هو ان تلوّح بإمكانياتك العسكرية لكي لا يختبرك الخصم وما ان يفشل الردع ؛يصبح خيار القسر مطروحاً لإجبار الخصم على تغيير سلوكه ، اذ لم يعد الصراع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل حالة من التوتر الدائم المحكوم بلعبة التصريحات والضربات المحدودة بالوكالة. لقد دخل هذا الصراع، في حزيران 2025، منعطفًا نوعيًا حين تحوّل من ضربات ظلّ وهجمات غير معلنة إلى صدام عسكري مباشر بين دولتين، إحداهما ذات قوة نووية فعلية (إسرائيل)، وأخرى تطوّر بشكل نشط أدوات ردع غير نووية (إيران). الضربة الإسرائيلية الموسّعة التي استهدفت المنشآت النووية ومواقع القيادة في إيران، وردّ طهران المباشر بالصواريخ والمسيّرات على العمق الإسرائيلي، أظهر بأننا أمام تحول استراتيجي غير عابر، وأن قواعد الاشتباك ما عادت كما كانت. ولذلك، يصبح تحليل هذه اللحظة من خلال أدوات علمية وتفسيرية ضرورة لفهم اتجاه الصراع ومنطق الردع، وليس مجرد متابعة للحدث.
اولاً: طبيعة الصراع: هل هي حرب أم مجرد مواجهة؟
ما يحدث بين إيران وإسرائيل اليوم لا يدخل تحت تعريف “الحرب التقليدية” التي تُعلن، وتُخاض فيها معارك مفتوحة براً وجواً، وتُبرم فيها الهدنات أو تُفرض الهزائم. لكنه أيضًا لا يُعدّ “نزاعًا سياسيًا محدودًا” كما كان سابقًا يُدار من خلال الوكلاء أو الضربات الرمزية. نحن أمام ما تُسميه أدبيات تحليل الصراع بـ“المواجهة دون الحرب” ، أو ما يمكن توصيفه اصطلاحيًا بـ”صراع منخفض الحدة عالي التوتر”.
هذا النوع من الصراع لا تُعلن فيه الحرب رسميًا، لكنه يستخدم أدوات الحرب بشكل فعلي: الطيران الحربي، الصواريخ الباليستية، اغتيال القيادات، الحرب السيبرانية، وحرب الطاقة. وهو ما يجعل المواجهة تسير على خيط دقيق بين الردع والانفجار، بين الرد الرمزي والضربة الفاصلة.
في هذه الحالة، فإن الطرفين يعتمدان ما يسمى بـ“إستراتيجية العتبة”، وهي تقوم على الاقتراب من حافة التصعيد ثم التوقف، بهدف إيصال رسالة ردعية من دون تفجير مواجهة حرب شاملة يصعب احتواؤها. وعادةً ما تُستخدم هذه الاستراتيجية في حالات يكون فيها أحد الطرفين، أقل تسليحًا تقليديًا، لكنه يملك أدوات تعطيل غير تقليدية مثل المسيّرات والصواريخ الدقيقة.
ثانياً: الضربة الإسرائيلية وتكتيك “الهجوم الافتتاحي الكبير”
في 13 حزيران 2025، نفذت إسرائيل عملية عسكرية واسعة النطاق حملت عنوان “الأسد الناهض”، وشكّلت نقلة نوعية في المواجهة. العملية لم تكن مجرد استهداف لقيادات أو مواقع محددة، بل كانت محاولة حقيقية لتحطيم البنية الاستراتيجية الإيرانية، سواء من حيث القدرة العسكرية أو الرمزية السياسية. من حيث الأهداف، استهدفت الغارات مواقع تصنيع الصواريخ والمسيّرات، والمراكز النووية الحساسة في نطنز وفوردو وآراك، كما تم اغتيال قيادات بارزة في الحرس الثوري، من بينهم القائد العام حسين سلامي، ورئيس هيئة الأركان محمد باقري، إلى جانب علماء نوويين.
هذا النمط من الضربات يُعرف في نظريات الحرب بـ**“الهجوم الافتتاحي الكبير”**، وهو تكتيك يُستخدم في بداية الصراع لكسر إرادة الخصم وتعطيل قدرته على الرد المنسق. غير أن هذا الهدف لم يتحقق كاملًا، إذ سرعان ما أثبتت إيران أنها ما تزال تحتفظ بقدرات فاعلة ومتماسكة في الرد.
ثالثاً: الرد الإيراني: ردع نشط وتكتيك العتبة
إيران لم تتأخر في الرد. أطلقت ما يقارب 150 صاروخًا، وأكثر من 100 طائرة مسيّرة هجومية من طرازات مختلفة، بعضها تم توجيهه من العمق الإيراني، وبعضها الآخر من مسارح إقليمية مثل العراق واليمن. هذه العملية، التي حملت اسم “الوعد الصادق”، رداً على عملية الكيان الاسرائيلي ” الاسد الصاعد” لم تكن فقط انتقامًا رمزيًا، بل كانت محاولة لإعادة التوازن وكسر صورة الهيمنة الإسرائيلية. وقد اعتمدت إيران في ذلك على “ردع التكلفة”، أي جعل الهجوم على أراضيها مكلفًا بما فيه الكفاية كي يعيد حسابات الطرف الآخر.
لكنّ ما يُلفت في الرد الإيراني هو كونه مباشرًا وصريحًا، خلافًا لما كان يحصل سابقًا حين كانت طهران ترد عبر وكلائها في المنطقة؛ حزب الله أو الحوثيين. هذا التغيير يُعبّر عن تحوّل استراتيجي نحو “الردع النشط”، أي الردع الذي لا يعتمد فقط على التهديد، بل على استخدام القوة بشكل فعلي ومنضبط. إيران استخدمت هنا أداة الرد لا أداة التصعيد الشامل، وهو خيار يُظهر وجود تحكم سياسي دقيق في مستويات الردع والاشتباك.
رابعاً: دور التكنولوجيا: تفوق غير متماثل وتحدي الهيمنة
لعبت التكنولوجيا هنا الدور الأبرز، ليس فقط في نوع السلاح المستخدم، بل في إعادة تشكيل مفاهيم القوة العسكرية ذاتها. الطائرات المسيّرة، والصواريخ الدقيقة ذات الرؤوس الموجهة، تمثل نمطًا جديدًا من أدوات الردع تُعرف في الدراسات العسكرية بـ”الأسلحة الذكية منخفضة الكلفة”، وهي أسلحة تتيح للدول غير النووية توجيه ضربات مؤثرة من دون خوض حرب شاملة.
في المواجهة الأخيرة، استخدمت إيران طائرات “شاهد” و”مهاجر” التي تتمتع بمدى واسع وقدرة عالية على المناورة والتخفي. هذه المسيّرات، رغم محدودية قدرتها التدميرية مقارنة بالطائرات المقاتلة، تمكنت من اختراق المجال الجوي الإسرائيلي والوصول إلى عمق تل أبيب. هذا يُشير إلى أن المعادلة الردعية لم تعد تُقاس فقط بحجم الانفجار، بل بقدرة السلاح على الإرباك والتشويش وتجاوز الدفاعات الجوية، وهي مميزات توفرها التكنولوجيا لإيران بشكل فاعل.
خامساً: حدود الردع الإيراني ومخاطر هشاشة التوازن
رغم أن إيران أثبتت قدرتها على الرد والتأثير، إلا أن توازن الردع الذي تسعى إليه يبقى هشًا. فالتفوق الإسرائيلي النوعي في أنظمة الدفاع الجوي، والدعم الأميركي اللامحدود، والانكشاف الاستراتيجي لإيران بعد سقوط النظام السوري وتحييد حزب الله، كلها عناصر تُضعف من قدرة طهران على تأسيس ردع دائم. كما أن القدرة على تكرار هذا النوع من الردود مرهونة بموارد مالية، وسياسية، وتكنولوجية هائلة، قد لا تتحملها إيران في حال تم استنزافها لفترة طويلة.
لذلك، فإن الردع الإيراني في صورته الحالية يمثل “ردعًا تكتيكيًا غير مستقر”. هو قادر على منع الضربة التالية، لكنه غير قادر على منع الحرب بشكل دائم. وهذا ما يجعل الساحة مفتوحة أمام ثلاثة سيناريوهات: الاستنزاف، التصعيد الخاطئ، أو العودة للمفاوضات تحت ضغط الخوف من الانفجار الشامل.
تبيّن من تحليل مسار المواجهة بين إيران وإسرائيل في حزيران الحالي أننا إزاء تحوّل نوعي في طبيعة الصراع الإقليمي، قوامه تصعيد تكنولوجي مضبوط سياسيًا، توازيه إرادة مزدوجة لفرض معادلات ردع جديدة دون الوصول إلى الحرب الشاملة. وقد أفرزت هذه المواجهة عددًا من الاستنتاجات المحورية التي تكشف عن عمق التحوّل وتحدياته المستقبلية:
أولًا، الردع الإيراني لم يعد مجرّد خطاب تهديد، بل أصبح ممارسة عملياتية قابلة للتنفيذ ضمن سقف محسوب. فقد أظهر استخدام الصواريخ الباليستية والمسيّرات الدقيقة قدرة على إيقاع أذى موجّه ومركّز داخل العمق الإسرائيلي، ما منح طهران وسيلة لتكريس مصداقية الردع دون الحاجة لامتلاك السلاح النووي. غير أن هذه القدرة لا تُنتج توازنًا شاملًا، بقدر ما تُكرّس ما يمكن تسميته بـ”الردع التقييدي”، الذي يهدف إلى ضبط سلوك العدو لا شلّ حركته بالكامل.
ثانيًا، الهجوم الإسرائيلي وإن بدا مكلفًا لإيران، إلا أنه لم ينجح في تحطيم بنيتها الردعية أو إرادتها السياسية. بل العكس هو الذي حصل؛ إذ دفع بطهران إلى إظهار قدراتها الكامنة وتوسيع هامشها في الرد المباشر. وهذا يعكس فشل ما يُعرف في نظريات الردع بـ”ضربة التعطيل الحاسمة”، وهو الفشل الذي يعمّق مأزق إسرائيل في فرض قواعد اشتباك طويلة المدى.
ثالثًا، التكنولوجيا العسكرية لم تعد عنصرًا مساعدًا بل تحوّلت إلى مركز الثقل في إدارة الصراع. فالمسيّرات والصواريخ الذكية وفّرت لإيران قدرة على التهديد دون تكلّف الخسارة البشرية أو الانكشاف المباشر، وهو ما يُعيد تعريف مفهوم القوة والردع من منظور غير متماثل. وفي هذا السياق، تكون الحرب – لا كما كانت – جهدًا مكلفًا، بل “أداة دائمة للضغط دون الانفجار”.
رابعًا، الصراع في صيغته الراهنة يعكس تآكل الخط الفاصل بين الحرب والسلام. فالمواجهة تُدار بأدوات عسكرية لكنها دون إعلان حرب، وتُوظف فيها القوة من دون تبنٍ سياسي مباشر أحيانًا. هذه الحالة تضع النظام الدولي أمام معضلة مفاهيمية، حيث لم تعد أدوات القانون الدولي التقليدي كافية لفهم أو احتواء هذا النوع من الصراعات الرمادية، متعددة الأدوات، منخفضة الحدة، وعالية التأثير.
خامسًا، توازن الرعب بين إسرائيل وإيران قائم لكنه غير مستقر، هش لكنه فاعل، محدود لكنه قابل للتوسيع. وهو توازن يشبه “مشيًا فوق الحبل”، حيث الخطأ في التقدير أو المبالغة في الرد قد تفضي إلى انفجار لا تحمد عقباه. ولذا، فإن استمرار هذا التوازن مرهون بثلاثة شروط:
١. ضبط التصعيد على قاعدة ردع–لا–إفناء.
٢. تطوير إيران لمنظومتها الدفاعية وليس الهجومية فقط.
٣. وبقاء الولايات المتحدة وسيطًا دافعًا نحو عدم الانزلاق لا محرضًا على الحرب.
الخاتمة: هل صنعت إيران توازن رعب؟
الجواب الأكثر دقة هو أن إيران لم تصنع توازن رعب كاملًا بالمعنى الكلاسيكي، لكنها فرضت معادلة ردع هجينة، تقوم على إحداث تأثير فعلي دون امتلاك قدرة تدمير شامل. هذا التوازن يبقى مرهونًا بمدى قدرتها على الحفاظ على المبادرة، وتطوير أدواتها، ومنع إسرائيل من فرض التفرد العسكري. وفي المقابل، يبقى لإسرائيل تفوق نوعي يجعلها في موقع المبادِر دومًا، ما لم تتغير البيئة الاستراتيجية بشكل جذري.