بقلم: ماكس بيرغمان/ مدير مركز الدراسات الأوروبية الأطلسية وروسيا – الولايات المتحدة: وزارة الخارجية
ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
مع قيام إدارة ترامب بتحطيم النظام الدولي الذي أسسته الولايات المتحدة، بات من غير الواضح ما إذا كان هذا النظام سيبقى قائمًا بأي شكل من الأشكال، ومن المفيد في هذا السياق التأمل في أسباب هشاشته.
فبعد نهاية الحرب الباردة امتلكت الولايات المتحدة القوة والشرعية لإعادة تشكيل العالم لكنها أهدرت تلك اللحظة الأحادية القطبية، وبالنظر إلى الوراء نجد أن أمريكا كررت الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها بعد الحرب العالمية الأولى، ففي كلتا الحالتين لم تسعَ إلى بناء نظام دولي ليبرالي مؤسسي بل فضّلت البقاء دون قيود. ففي النظام الذي أعقب الحرب الباردة كانت واشنطن تدير العالم وكان ذلك يوفّر لها وللعالم في الواقع فوائد هائلة، غير أن هذا النظام الدولي كان يعتمد على انخراط أمريكي مفرط ونزعة هيمنة (خَيّرة) ثبت لاحقًا صعوبة الحفاظ عليها، وفي نهاية المطاف فإن التحدي الأكبر الذي يواجه النظام الذي تقوده الولايات المتحدة ليس صعود الصين بل إنهاك الولايات المتحدة نفسها.
إن مفهوم النظام الدولي الليبرالي يصعب توضيحه ومن ثم الدفاع عنه، فوفقًا للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية يقوم النظام العالمي على القوة وهو بطبيعته فوضوي ومن ثم تُرفض الأحلام التي تدور حول نظام يستند إلى القواعد، ومع ذلك وخلال القرن الماضي وتحت القيادة الأمريكية تم ترويض هذه الفوضى، فقد أُنشئ نظام فرض قيودًا واضحة على الدول القومية من خلال قواعد وأعراف تنظم سلوكها. فكان هناك ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع الدول من غزو بعضها البعض ومعاهدة حظر الانتشار النووي واتفاقيتا الأسلحة الكيميائية والبيولوجية اللتان حدّتا بشكل كبير من تطوير الأسلحة الخطرة، كما كانت هناك قواعد ومعايير تنظم كيفية تفاعل الدول والشعوب مع بعضها البعض في قضايا السفر واللاجئين والصحة والحرب، وكان هناك نظام تجاري عالمي يضع معايير واضحة وقواعد منظمة، وبهذا أصبح العالم أقل فوضوية وأكثر قابلية للتنبؤ وأكثر تنظيمًا وكل ذلك بدعم من القوة الأمريكية.
لكن هل كان هذا النظام قابلاً للاستمرار؟
جادل عالم العلاقات الدولية ج. جون إيكنبري في كتابه الصادر عام 2001 بعنوان “بعد النصر” بأن على أمريكا أن تتبنى مصلحتها الذاتية المستنيرة، وأن تقبل بقدر من القيود على قوتها من أجل “ترسيخ نظام ما بعد الحرب يكون مواتياً لها”، ومن خلال إظهار قدر من ضبط النفس الاستراتيجي فإن الولايات المتحدة ستكون أكثر قدرة على “كسب رضا الدول الأضعف” وكذلك الاستعداد لليوم الذي تنتهي فيه لحظتها الأحادية القطبية.
وقد كان هذا هو النهج الذي اتبعته الولايات المتحدة بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، إذ كانت إدارة الرئيس روزفلت مصممة على عدم تكرار أخطاء فترة ما بين الحربين حينما رفضت واشنطن الانضمام إلى عصبة الأمم وتبنّت سياسات اقتصادية انعزالية أضرت بالجميع، بل وقبل انتهاء الحرب عُقدت محادثات في عام 1944 في مؤتمر دمبارتون أوكس بواشنطن والتي مهّدت لتأسيس منظمة الأمم المتحدة وكذلك في بريتون وودز في نيوهامبشير حيث وُضع الأساس للنظام الاقتصادي لما بعد الحرب. وعندما تحوّل السوفييت من حلفاء إلى خصوم واندلعت الحرب الباردة تم تهميش النزعة الانعزالية الأمريكية، إذ دخل الرئيسان هاري ترومان ودوايت أيزنهاور في تحالفات مع أوروبا وآسيا، وقدما مساعدات عسكرية وإنمائية ضخمة وأصرّا على دعم التكامل الأوروبي.
ومع ذلك لم تبذل الولايات المتحدة بعد انتصارها في الحرب الباردة جهدًا مماثلًا لما اقترحه الباحث جون إيكنبري في سبيل إعادة تشكيل النظام المؤسسي الدولي، فلم تُقدم على تعزيز دور الأمم المتحدة بشكل جوهري أو إصلاح مجلس الأمن أو إنشاء مؤسسات جديدة وفاعلة، وبسبب عجزها عن تمرير العديد من الاتفاقيات الدولية في مجلس الشيوخ ظلت واشنطن خارج إطار عدد من المعاهدات الدولية الهامة، كاتفاقية قانون البحار والنظام الأساسي لروما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وبروتوكول كيوتو المتعلق بالتغير المناخي.
وقد قاد السيناتور جيسي هيلمز حملة تهدف إلى تقليص التمويل الأميركي للأمم المتحدة رغم أن قوات حفظ السلام التابعة لها كانت تُنشر بأعداد متزايدة حول العالم لاحتواء النزاعات، أما المؤسسات الدولية التي أُنشئت لاحقًا – مثل “مجتمع الديمقراطيات” الذي تأسس في نهاية إدارة كلينتون بهدف ربط الديمقراطيات عالميًا – فقد سرعان ما أُهملت من قبل الولايات المتحدة، وفي حين تراجعت المبادرات الأميركية على المستوى المؤسسي العالمي برزت تطورات سياسية إقليمية كبرى لم تكن واشنطن طرفًا مباشرًا فيها مثل تشكيل الاتحاد الأوروبي وميركوسور في أمريكا الجنوبية والاتحاد الأفريقي. في المقابل سعت الولايات المتحدة إلى ترسيخ نظام اقتصادي ليبرالي عالمي، فقد دفعت باتجاه تحرير التجارة وأسهمت في تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995 لتنظيم النظام التجاري الدولي، وقد أطلق ذلك عصرًا جديدًا من العولمة والارتباط الاقتصادي المتزايد، وكان الاعتقاد السائد في واشنطن آنذاك أن الديمقراطية والرأسمالية ستدفعان بعضهما البعض للنمو والانتشار تلقائيًا.
غير أن أطروحات فرانسيس فوكوياما في “نهاية التاريخ؟” وكتاب توماس فريدمان “لكزس وشجرة الزيتون” أسهمتا في إعفاء صناع القرار من مسؤولية بناء مؤسسات دولية قوية، فلماذا تُبنى مؤسسات جديدة أو تُعزز الأمم المتحدة أو تُوقع معاهدات تُقيّد الهيمنة الأميركية ما دامت الديمقراطية والرأسمالية تُعتبران حتميتين؟ وهكذا اتخذ تصور النظام العالمي طابعًا تحرريًا (ليبرتاريًا) مفرطًا، يركز على الأسواق وحرية الحركة ويُهمّش القيود المؤسسية. لكن مع انتقال الأزمات الاقتصادية بسرعة من بلد إلى آخر برزت الحاجة إلى تعزيز التعاون الدولي، وجاء تأسيس مجموعة العشرين عام 1999 عقب الأزمة المالية الآسيوية كمحاولة جزئية لمعالجة ذلك، ومع تزايد عجز الدول الوطنية عن مواجهة التحديات العالمية أصبح غياب الحوكمة الدولية أكثر وضوحًا خلال تسعينيات القرن الماضي.
وفي تلك المرحلة كانت السياسة الأميركية منقسمة حول مفهوم التعددية، فقد آمنت إدارة كلينتون بالتعددية والنهج الويلسوني في السياسة الخارجية لكنها كانت في موقع دفاعي داخليًا في مواجهة معارضة جمهورية شرسة ترفض فرض قيود على القوة الأميركية وتهاجم المؤسسات الدولية، ومع ذلك اتفق الطرفان على أن الولايات المتحدة “لا غنى عنها” ويجب أن تتولى قيادة العالم. وفي حين برّرت إدارة كلينتون انخراطها الدولي من منظور تكتيكي – بأن المنظمات الدولية تخدم المصالح الأميركية – فإنها عجزت عن تقديم رؤية شاملة لنظام عالمي جديد، وبدلًا من ذلك تمحورت القيادة الأميركية حول “حل الأزمات” ما جعلها تظهر في صورة اللاعب المتدخل في أزمات متكررة كما في الصومال وهايتي والبوسنة وكوسوفو، وقد أدى ذلك إلى شكاوى من أن الولايات المتحدة باتت تؤدي دور “شرطي العالم” وهي الانتقادات التي تبناها جورج بوش الابن لاحقًا حين اعتبر أن الولايات المتحدة انغمست في “بناء الدول” الليبرالي أكثر من اللازم.
وكان أبرز إنجازات إدارة كلينتون وهو توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) كاشفًا للتناقضات الأميركية، فبينما ساعد هذا التوسع في توحيد أوروبا فقد كرس في الوقت ذاته الدور المحوري للولايات المتحدة في القارة إذ ظل الناتو يدور حولها، وعندما طُرحت فكرة دعم الاتحاد الأوروبي كفاعل مستقل في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية ترددت واشنطن خوفًا من تآكل نفوذها، فرغم دعواتها المتكررة لأوروبا بـ”تحمّل نصيبها” من أعباء الدفاع فإنها في نهاية المطاف فضّلت الحفاظ على السيطرة. وبعد هجمات 11 أيلول 2001، مُنحت الولايات المتحدة فرصة جديدة لإعادة تشكيل النظام العالمي لكنها اختارت طريق الأحادية، فقد صعد المحافظون الجدد في التسعينيات وشاركوا الليبراليين بعض أهدافهم كالحرص على نشر الديمقراطية، لكنهم آمنوا بأن الطريق إلى ذلك يجب أن يمر عبر القوة الأميركية الخشنة ومن دون قيود دولية.
وفي مقالة مؤثرة نُشرت عام 1996، دعا كلٌّ من روبرت كاغان وويليام كريستول إلى اعتماد سياسة خارجية “نيوريغانية”، معتبرين أن “الهدف المناسب للسياسة الخارجية الأميركية هو الحفاظ على هذه الهيمنة لأطول فترة ممكنة”، ودعوا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي واعتماد المواجهة المباشرة مع الأنظمة المعادية. وقد شكّلت “الحرب العالمية على الإرهاب” وحملات الطائرات المسيرة وغزو العراق، ضربة قوية لفكرة النظام الدولي القائم على القواعد وأدت إلى تآكل ثقة العالم في الهيمنة الأميركية، ما أفسح المجال أمام بروز قوى منافسة تسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي على أسس جديدة.
غيّرت حرب العراق ملامح الحزب الجمهوري، فقد دفعت بالكثير من أكثر الأميركيين وطنيةً – أولئك الذين تطوعوا للخدمة بعد هجمات 11 أيلول مثل ج. د. فانس وبيت هيغسيث الذي أدار منظمة لدعم قدامى المحاربين في الحرب – إلى معارضة ليس الحرب بحد ذاتها بل الليبرالية التي استُخدمت لتبريرها، وكذلك فكرة توظيف القوة والقيادة الأميركية في خدمة النظام الليبرالي العالمي.
لكن إخفاق الحرب في العراق لم يؤثر على الجمهوريين وحدهم بل ترك أثره العميق في صفوف الديمقراطيين أيضًا، فقد أصبح من الصعب الدفاع عن رؤية ليبرالية للنظام العالمي عندما كانت القيم الليبرالية ذاتها تُستخدم ذريعة لغزو العراق، ونتيجة لذلك تبنّى الرئيس باراك أوباما نظرة أكثر واقعية تمثّلت في مبدأ “تجنّب الأفعال الغبية”. وقد انعكس هذا في تقليص التزامه بالحفاظ على النظام الدولي إذ إن إحجامه عن استخدام القوة المباشرة ضد نظام الأسد في سوريا بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية عُدّ مؤشراً على ضبط النفس، لكنه أظهر أيضاً تراجع الولايات المتحدة عن دورها التقليدي في الدفاع التلقائي عن النظام القائم على القواعد، حتى عندما كانت إحدى أهم ركائزه – حظر استخدام الأسلحة الكيميائية – معرّضة للانتهاك.
ظلّت الإدارات الديمقراطية تُجاهر بدعمها للمؤسسات الدولية لكن عندما كانت كلفة انتهاك المعايير الدولية غير ملموسة وطويلة الأمد لم تكن تلك المبادئ غالبًا هي التي تحسم الجدل داخل البيت الأبيض، ومع مرور الوقت بدأ ذلك يُضعف مكانة الولايات المتحدة الدولية ويستنزف مصداقيتها في المحافل المتعددة الأطراف حيث استُخدم النفاق الأميركي كسلاح ضدها ما أدى إلى تراجع مشاركتها، حتى الأمم المتحدة لم تعد تحظى بحضور يُذكر في النقاش السياسي في واشنطن بينما كانت الصين تملأ هذا الفراغ فتضاعفت صعوبة استخدام المؤسسات الدولية كأداة لتعزيز النظام الليبرالي العالمي. وفي ظل هذا التراجع لم تُبذل جهود تُذكر لإبرام اتفاقيات دولية في مجالات حيوية جديدة مثل الفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي وأنظمة الأسلحة المستجدة، وعندما انهار الاقتصاد العالمي عام 2008، تكرّس الشعور بتراجع الهيمنة الأميركية وتبددت أوهام حتمية انتصار الليبرالية، وبدأت رياح “اللا- ليبرالية” تهبّ بقوة، فاستغلت الصين اللحظة لتوسيع انخراطها الاقتصادي مع الجنوب العالمي في حين أصبح قادة استبداديون مثل فلاديمير بوتين أكثر جرأة في تحدي الهيمنة الأميركية.
لكن المدهش أن انهيار عام 2008 لم يؤدِ إلى رفض عالمي للنظام الاقتصادي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة بل إلى رفض الأميركيين أنفسهم له، فقد رفض مجلس الشيوخ بقيادة الجمهوريين الشراكة عبر المحيط الهادئ في صيف عام 2016، ثم جاءت إدارتا ترامب وبايدن لتعززا موقفًا معاديًا لمنظمة التجارة العالمية، وهكذا بدا أن الولايات المتحدة قد انقلبت على الدعائم المحدودة التي شيّدتها لنظام ما بعد الحرب الباردة. وفي ظل إدارة ترامب تخيل الديمقراطيون أن بإمكانهم عكس الموجة اللا-ليبرالية عبر استراتيجية “عالم حر أو إعادة توازن ديمقراطي تهدف إلى بناء تكتل من الديمقراطيات، لكن الرئيس جو بايدن بعد توليه المنصب لم يلتزم فعليًا بهذا النهج، إذ تحوّل “قمة الديمقراطية” التي وعد بتنظيمها إلى فعالية حوارية أشبه بـ”خليط من كل شيء” ضمت منظمات غير حكومية من دون أي مسعى فعلي لتنظيم الديمقراطيات في تكتل جديد، وسرعان ما تجاهلتها إدارته.
وبإنصاف قد تكون الولايات المتحدة فقدت بالفعل ما يكفي من المصداقية والقدرة لإنجاح مثل هذا المشروع، ومع ذلك حاولت إدارة بايدن إعادة تموضع الولايات المتحدة من خلال العودة إلى الحلفاء والمؤسسات التقليدية فأحيت مجموعة السبع وجدّدت التزامها بحلف الناتو وعزّزت الحوار الأمني الرباعي في آسيا، لكن كل ذلك ظل يتمحور حول فرط الانخراط الأميركي. وفي نهاية المطاف لم تَكُن الصين هي التهديد الأكبر للنظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة بل كان التهديد الحقيقي يكمن في تراجع استعداد الولايات المتحدة نفسها للحفاظ عليه، فقد أدت الأحادية الأميركية إلى تحميل كاهلها فوق طاقته ما أثار ردود فعل داخلية عكسية بين الأميركيين أنفسهم. وإذا قررت إدارة أميركية ما بعد ترامب محاولة إنقاذ ما تبقى من النظام الليبرالي، فلن تملك لا النفوذ ولا المصداقية ولا الفرصة للقيام بذلك بمفردها، لقد انتهت لحظة التفوق الأحادي.
* Max Bergmann, How America Blew Its Unipolar Moment, FOREIGN POLICY, MAY 26, 2025