ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
تحرير:د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه في كانون الثاني أثار احتمال التوصل إلى وقف لإطلاق النار في أوكرانيا اهتمامًا واسعًا على الصعيد العالمي، ويعود ذلك إلى أن انتخاب رئيس أمريكي يتطلع إلى أن يكون وسيطًا في الأزمة بدلاً من مجرد داعم لها، اعتُبر فرصة لكسر الجمود القائم ووقف إراقة الدماء.
إلا أن الدبلوماسية الفعالة خلال أوقات النزاع تتطلب تطبيق مزيج متوازن من الضغوط والحوافز على الأطراف المعنية ضمن إطار زمني ضيق، وقد أدخل ترامب عنصر السرعة من خلال وعده بنتائج سريعة وعندما ثبت استحالة ذلك لجأ إلى تهديدات غير مجدية بالانسحاب من المفاوضات، ومع ذلك أخفق في موازنة العقوبات والمكافآت حيث استخدم كافة أشكال الضغط ضد الدولة المعتدى عليها في حين منح الحوافز كاملة للدولة المعتدية، فقد وجه انتقادات لاذعة لأوكرانيا متهماً إياها بالمسؤولية عن الحرب وأوقف في مرحلة ما المساعدات العسكرية لها بينما مدح في الوقت ذاته الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وبناءً عليه لم يشهد العالم أي تقدم جوهري في المفاوضات مقارنةً بالفترة التي سبقت انتخابات الرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني، لقد شاهد المجتمع الدولي العديد من المبادرات المتعددة من رسائل موسكو المؤيدة لترامب إلى دعم كييف للحوار وجهود أوروبا والولايات المتحدة فضلاً عن المحاولات الدبلوماسية المكثفة، لكنها لم تكن سوى محاولات لكسب تأييد الرئيس الأمريكي بدلاً من جسور حقيقية للسلام إذ كان الهدف تقريبه إلى طرف على حساب الآخر. وكانت مهمة ترامب أصلاً معقدة للغاية إذ لا تتمتع كل من روسيا وأوكرانيا بحافز حقيقي لوقف القتال، فقد أقامت موسكو اقتصادًا حربيًا مستدامًا يمكنها من الاستمرار في القتال مما يصعب عليها التوقف، أما أوكرانيا فهي متمسكة بسيادتها ويظل جيشها قويًا بما يكفي للحفاظ على دفاع فعال، ولذلك فإن وقف إطلاق النار في أوكرانيا يبدو مستحيلاً في الوقت الراهن.
غياب الورقة الرابحة
لطالما تباينت وجهات نظر الحلفاء الغربيين لأوكرانيا بشأن أهداف روسيا، فهناك من يرى أن بوتين يسعى إلى تحقيق مكاسب محدودة وسيكتفي بها مثل صفقة تعترف بضم الأجزاء المحتلة من أوكرانيا وتضمن عدم انضمامها إلى الناتو، في المقابل يرى آخرون أن التنازل لبوتين سيشجعه على المضي قدمًا معتبرين أن هدفه النهائي هو السيطرة الكاملة على أوكرانيا التي تتعارض دولة كيانها مع رؤيته التاريخية لدوره. ويستند هؤلاء إلى خطاب بوتين ما قبل الحرب “عن الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين” حيث أكد أن الأوكرانيين ليسوا أمة مستقلة بل روس ضالون يجب إعادتهم إلى سيطرة موسكو، كما أكد بوتين في مناسبات عدة خلال مفاوضات السلام أن أي تسوية يجب أن تعالج الأسباب الجذرية للصراع، أي إنهاء سيادة أوكرانيا.
يدرك بعض صناع القرار الغربيين هذا الواقع لكنهم يرون أن استمرار الحرب يضعف موقف أوكرانيا تدريجيًا ما قد يجبرها في النهاية على تقديم تنازلات، ولذلك يرون من الأفضل قبول اتفاق سيء في الوقت الحالي بدلًا من اتفاق أسوأ في المستقبل، ويبدو أن ترامب يشارك هذا الرأي حيث صرح في شباط للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قائلاً “ليس لديك الأوراق الرابحة”.
قد يبدو هذا التقييم منطقيًا لكنه يخطئ في فهم الموقف الأوكراني، فكييف ليست مضطرة للاستسلام في الوقت الراهن إذ تعوّل على دعم أوروبا لمواجهة التغيرات المحتملة في مسار الحرب جراء تراجع الدعم العسكري الأمريكي، وهي تدرك أيضًا أن الوضع في خطوط الجبهة ليس بالحدة التي تُوصف بها كثيرًا، ففي كانون الاول 2023، كانت روسيا تسيطر على نحو 42,000 ميل مربع من الأراضي الأوكرانية وارتفع هذا الرقم قليلاً إلى حوالي 43,600 ميل مربع في كانون الاول 2024، ومنذ ذلك الحين ظل ثبات السيطرة قائمًا حيث بلغ في أيار حوالي 43,650 ميل مربع.
ورغم التقارير التي تتحدث عن تقدم روسي محدود بقرى وأميال مربعة صغيرة فإن موسكو التي يُفترض أنها تملك الأوراق الرابحة حققت فقط زيادة طفيفة تبلغ نحو 1,650 ميل مربع من أصل 233,030 ميل مربع من الأراضي الأوكرانية خلال 16 شهرًا، وبمعنى آخر ارتفعت نسبة الأراضي المحتلة من 18% في أواخر 2023 إلى نحو 19% حاليًا، ولهذا تؤمن كييف بأنها تملك الوقت الكافي لتعزيز موقفها الدبلوماسي والعسكري.
هناك عوامل أخرى قد تؤثر على تقييم أوكرانيا منها احتمال تحول موسكو إلى أهداف أكثر محدودية، وقد تضطر كييف إلى التراجع إذا فشلت أوروبا في تعويض نقص الإمدادات الأمريكية أو إذا انهارت دفاعاتها الجوية بسبب نقص صواريخ الاعتراض الأمريكية من طراز PAC-3 والتي تمثل أحد أكبر أوراق الضغط المتاحة، كما قد تبدأ في التفكير بالتنازلات إذا تضررت بنيتها التحتية المدنية وهو ما يدركه بوتين ويبرر زيادة هجماته بالصواريخ والطائرات المسيّرة. حتى الآن لا تزال الدفاعات الجوية الأوكرانية صامدة وتواصل أوروبا تقديم مساعدات عسكرية جديدة وتوسيع قدراتها الإنتاجية الدفاعية، وعلى الرغم من غياب الاختراقات الحاسمة للجيش الروسي لا توجد مؤشرات على تراجع بوتين عن أهدافه المطلقة، ومن ثم من المستحيل على ترامب أو أي طرف آخر إجبار أوكرانيا على قبول صفقة غير مواتية لا تؤمن بجدية التزام روسيا بها.
الواجهة الثانية
رغم إخفاقات ترامب في الملف الأوكراني فإن ذلك لا ينفي التأثير الكبير الذي يمكن أن تحدثه سياساته تجاه روسيا على الأمن الدولي، إذ أدى تبني ترامب لنهج موالٍ لموسكو وتحوله بعيدًا عن أوروبا إلى دفع القارة الأوروبية نحو تعزيز استقلالها العسكري مع تعريض شعوبها لمخاطر أكبر، تعمل الدول الأوروبية على تطوير قدرات عسكرية أقوى وقاعدة صناعية دفاعية أكثر تطورًا الا أن وتيرة هذا التقدم لا تتماشى مع متطلبات أوروبا نفسها ولا مع احتياجات أوكرانيا، وعلى الرغم من تأكيد ترامب عدم نيته سحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلا أن عداءه الظاهر لأوروبا وسجله في سحب القوات الأمريكية من الحروب الخارجية يجعل احتمال وفاة جنود أمريكيين دفاعًا عن أوروبا أمرًا بعيد الاحتمال.
يجتمع هذا السياق ليخلق فرصة لبوتين لشن هجوم على أحد حلفاء الناتو الأوروبيين، فهدفه في هذا السيناريو خلافًا لما يحدث في أوكرانيا ليس إخضاع الدولة المستهدفة بحد ذاتها بل فضح هشاشة أوروبا وزيف التزام الناتو بالأمن الجماعي، وتمثل السنوات المقبلة فرصة مناسبة له لضم قطعة من أراضي الناتو قبل أن تعزز أوروبا دفاعاتها بشكل فعّال وقبل استبدال ترامب برئيس أمريكي يهتم بالقارة، تتمتع موسكو بالقدرة على فتح جبهة جديدة بينما لا تزال تخوض القتال في أوكرانيا، فقد جمعت قواتها على الحدود مع فنلندا والنرويج بشكل يشبه إلى حد كبير التجميع الذي قامت به على حدود أوكرانيا في ربيع 2021 كما ازدادت عدوانيتها في بحر البلطيق وأعلنت مؤخرًا عن مناورات عسكرية واسعة النطاق مع بيلاروسيا. لقد برهن بوتين على استعداده لتحمل شعبه مصاعب قاسية لا مثيل لها في سبيل تحقيق أهدافه العسكرية، وهو يحتفظ بعلاقة وثيقة مع الصين في حين يواجه المعسكر الأوكراني انقسامات حول فهم الأهداف الحقيقية لروسيا، كما أنه يدير اقتصادًا حربيًا متينًا مما يشير إلى احتمال استعداده لخوض حروب متزامنة على نطاقات مختلفة.
فرضت أوروبا حزمة عقوبات سياسية ومالية على موسكو بهدف ردعها عن مواصلة العدوان الا ان الاتحاد الأوروبي مهما كان متحمسًا لكل إجراء عقابي جديد غير قادر بمفرده على شلّ آلة الحرب الروسية، ومن المشجع أن الاتحاد يضاعف جهوده لكبح نشاط أسطول ناقلات الظل الروسي الذي يستخدمه للتملص من العقوبات، ولكن ذلك لن يخفض أسعار النفط الروسي بما يكفي ليكون له أثر جوهري.
قد يعيد بوتين النظر في استمرار الحرب إذا شهد انهيارًا مستدامًا في أسعار النفط الروسية الأمر الذي سيعصف بموارد اقتصاد الحرب لديه، إلا أن تحقيق ذلك يتطلب تدخلًا نشطًا من الولايات المتحدة التي تملك النفوذ في الأسواق العالمية عبر تشديد العقوبات على صناعة النفط الروسية وإقناع كل من السعودية من أكبر موردي النفط عالميًا والهند من أكبر مستهلكيه للنفط الروسي بالمشاركة في هذه الجهود، كما سيتطلب تشكيل تحالف قادر على منع تدخل الصين من خلال التأكيد على أن الهدف هو إنهاء الحرب وليس الإطاحة بروسيا، وتبدو الرياض في موقع مثالي لتقريب وجهات النظر بين الصين والولايات المتحدة. مع ذلك تبدو هذه الخطوات غير مرجحة إلى حد كبير إذ أن ترامب قد زاد من لهجته تجاه بوتين لكنه لم يظهر استعدادًا لاتخاذ إجراءات صارمة، في حين أن الهند والسعودية ليستا مستعدتين لاتخاذ مواقف عدائية على هذا النطاق ضد الكرملين، وهذا يعني بوضوح أن بوتين سيواصل تحقيق إيرادات كافية من تجارة النفط لتمويل جهوده الحربية وربما تتعدى أوكرانيا.
وعليه يبدو أن حقبة السلام في أوروبا قد انتهت، فمن المرجح أن تستمر الحرب في أوكرانيا بدلاً من أن تتوقف، لا توجد أسباب تدفع بوتين للتراجع ولا دوافع تجعل زيلينسكي يستسلم إذ يعتقد الرئيس الأوكراني أن التنازل عن جزء من الأراضي الآن قد يؤدي إلى خسارة البلاد بأكملها لاحقًا. في هذا السياق يشبه وقف إطلاق النار في نهاية النفق ضوء قطار قادم لا يجلب إلا الموت، بيد أن ترامب وغيرهم يمتلكون القدرة على تعديل مواقفهم واستراتيجياتهم، أما الأوروبيون فأفضل ما يمكنهم القيام به الآن هو الإسراع في جهود تسليح كييف وتعزيز قدراتهم الدفاعية.
* Dmytro Kuleba, The Delusions of Peacemaking in Ukraine Kyiv Won’t Compromise on Its Sovereignty Because It Isn’t Facing Defeat, FOREIGN AFFAIRS, May 30, 2025