الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

 المخطط (الإسرائيلي) لإفراغ غزة الدور الحاسم للضغط الأميركي

بقلم: ماكس رودنبيك

ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية

تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ باحث في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

في العاشر من كانون الثاني 2024 وبعد مضيّ أكثر من ثلاثة أشهر بقليل على هجوم حركة حماس في السابع من تشرين الأول ألقى رئيس الوزراء (الإسرائيلي)** بنيامين نتنياهو خطابًا قصيرًا لتوضيح أهداف الحرب (الإسرائيلية) في غزة، وقد شدد في النقطة الأولى على أن “(إسرائيل) لا تنوي احتلال غزة بشكل دائم أو تهجير سكانها المدنيين”، وأصرّ على أن (إسرائيل) “تحارب حماس لا الشعب الفلسطيني”، مشيرًا إلى أن أهداف بلاده تقتصر على “تخليص غزة من حماس وتحرير رهائننا”.

أما اليوم وبعد مرور عشرين شهرًا على حرب أودت بحياة أكثر من 56 ألف شخص في غزة – وجرّت معها إيران إلى حرب ضد (إسرائيل) والولايات المتحدة – فإن تلك الأهداف المعلنة تبدو وكأنها قد تراجعت أو حتى انعكست بالكامل، فمنذ أن أنهت (إسرائيل) وقف إطلاق النار القصير خلال شتاء 2025 في شهر آذار بدأت قواتها بالاستيلاء على مساحات واسعة من غزة بالتزامن مع حصر سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة في مناطق أصغر فأصغر. كما شنّت الحكومة حملة قمع شديدة للسيطرة على تدفق المساعدات الإنسانية والحد منها شملت حصارًا كاملًا استمر أكثر من عشرة أسابيع، ومع ذلك ورغم تجدد الهجوم (الإسرائيلي)، لم تتمكن (إسرائيل) من تأمين حرية أي من الرهائن الخمسين المتبقين ويُعتقد أن 20 منهم فقط ما زالوا على قيد الحياة، (أما الجندي (الإسرائيلي)-الأميركي إدن ألكسندر الذي أُطلق سراحه في أيار فقد تم تحريره بجهود تفاوضية أميركية منفصلة)، كما لا يبدو أن الحكومة (الإسرائيلية) في عجلة من أمرها للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يعيدهم إلى الوطن.

هذا التحول الجذري في الأهداف واضحٌ ليس فقط على الأرض بل في التصريحات العلنية أيضًا، ففي مؤتمر صحافي نادر عقده في 22 أيار أوضح نتنياهو أن حكومته لم تعد تقتصر أهدافها على تحرير الرهائن والقضاء على حماس، بل أعلن أنه عندما تنتهي الحرب ستكون (إسرائيل) في “سيطرة أمنية كاملة على غزة”، كما أبدى دعمه المتحمّس لمقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أُعلن في شباط والقاضي بنقل سكان غزة إلى دول أخرى وإعادة تطوير القطاع المدمر إلى منطقة سياحية تشبه الريفييرا واصفًا الخطة بأنها “لامعة” و”ثورية”، وبعبارة أخرى يبدو أن الحكومة (الإسرائيلية) تسعى إلى تحقيق نتائج كان نتنياهو قد استبعدها بوضوح في كانون الثاني 2024 ليس فقط احتلالًا عسكريًا طويل الأمد للقطاع بل أيضًا تهجيرًا واسع النطاق – وربما طردًا – لسكانه المدنيين.

وفي حرب اتسمت بعنفٍ مفرط وبمستوى غير مسبوق من الحرمان الذي لحق بالمدنيين قد يبدو التركيز على سيناريو يعتبره الكثيرون خياليًا – بل إن ترامب نفسه بدا وكأنه تراجع عنه – نوعًا من الترف الفكري، لكن بالنسبة لمجلس الوزراء (الإسرائيلي) فإن ما يُسمى “خطة ترامب لغزة” ليست مجرد فكرة عابرة، ففي أواخر آذار بعد فترة وجيزة من استئناف الحملة العسكرية أنشأت الحكومة (الإسرائيلية) مكتبًا خاصًا للإشراف على ما أسمته “الهجرة الطوعية” من غزة كما ذهب بعض أعضاء الحكومة إلى أبعد من نتنياهو في الإفصاح عن الهدف النهائي، ففي أوائل أيار صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش قائلًا “سيتم تدمير غزة بالكامل وسيُنقل المدنيون إلى الجنوب إلى منطقة إنسانية… ومن هناك سيبدؤون بالمغادرة بأعداد كبيرة إلى دول ثالثة”.

وفي ظل انشغال العالم بما يُعرف بـ”حرب الأيام الاثني عشر” بين (إسرائيل) وإيران وقرار الولايات المتحدة قصف المنشآت النووية الإيرانية تزداد أهمية عدم صرف النظر عن الخطة (الإسرائيلية) التي تتسارع وتيرتها بشأن غزة وسكانها، ووفقًا لاتفاقيات جنيف فإن التهجير القسري من أراضٍ محتلة يُعد جريمة حرب، ولن يعني ذلك فقط الحكم على الفلسطينيين بالمنفى بل أيضًا تجريم (الإسرائيليين) الذين صاغوا ونفذوا هذه السياسة. إذ سيتحملون المسؤولية عن ارتكاب فعلٍ إجرامي من شأنه أيضًا على الأرجح التضحية بالرهائن (الإسرائيليين) المتبقين، ومع ذلك فإن وجود ضغط دولي كافٍ – لا سيما من الولايات المتحدة التي لعبت حتى الآن دورًا أقرب إلى التمكين منه إلى الكبح في وجه تجاوزات هذه الحكومة (الإسرائيلية) – قد يحول دون هذا السيناريو، لكن الوقت يوشك على النفاد، وكما أشار مراسلون عسكريون (إسرائيليون) فإن العملية جارية بالفعل وتتقدم بسرعة.

حرب التجويع

     لفهم مدى تركيز العمليات العسكرية (الإسرائيلية) في غزة حاليًا على الضغط الممنهج ضد السكان المدنيين لا بد من التعرّف على مكوّنات خطة الحرب المُعدّلة التي تحمل اسم “مركبات جدعون”، وأحد أبرز عناصر هذه الخطة هو التحكّم في الغذاء، فبعد أن دمرت (إسرائيل) الأراضي الزراعية التي كانت توفّر معظم مصادر البروتين والفواكه والخضروات لسكان غزة اتخذت خطوات استثنائية لتقييد تدفق المساعدات المدنية إلى القطاع. في مطلع شهر آذار فرضت حكومة نتنياهو حصارًا شاملًا على دخول الغذاء والدواء والوقود إلى غزة واستمر لمدة 80 يومًا ما دفع بالسكان إلى حافة المجاعة، وفي منتصف أيار وتحت ضغط دولي متزايد سمحت الحكومة بدخول كمية ضئيلة من المساعدات عبر القنوات المستقلة المعروفة التي تديرها الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الإنسانية التي لطالما لعبت دورًا محوريًا في دعم غزة، لكن هذا التدفق المحدود لم يتجاوز في أفضل الأحوال أقل من 100 شاحنة يوميًا مقارنة بنحو 600 شاحنة يوميًا خلال وقف إطلاق النار القصير بين كانون الثاني وآذار من هذا العام، وقد تراجعت هذه الكمية الهزيلة أكثر نتيجة أعمال النهب الواسعة النطاق التي تتم غالبًا في مناطق تسيطر عليها (إسرائيل) على يد عصابات يُقال – وفقًا لروايات فلسطينية ورسمية (إسرائيلية) – إنها تعمل تحت حماية الجيش (الإسرائيلي).

وفي أواخر أيار أطلقت (إسرائيل) خطة مثيرة للجدل تُقصي القنوات المعتمدة سابقًا وتمنح (إسرائيل) سيطرة مباشرة وكاملة على توزيع المساعدات، فبدلاً من الاعتماد على المنظمات الإنسانية الدولية التي حافظت على بقاء غزة خلال الحرب من المفترض أن تتولى مؤسسة خيرية خاصة جديدة تُدعى “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) تقديم غالبية المساعدات الغذائية – بل جميعها لاحقًا، هذه المؤسسة التي تروّج لها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتعمل على الأرض بمساعدة مرتزقة أميركيين تؤدي فعليًا دور ذراع للعمليات العسكرية (الإسرائيلية) بحسب تحقيق لصحيفة نيويورك تايمز، وقد تأسست GHF بمبادرة من مسؤولين (إسرائيليين) وتخضع لإشراف مباشر من (إسرائيل). ولم تكشف المؤسسة ولا الحكومة (الإسرائيلية) عن مصدر تمويلها، فيما تشير وثائقها الداخلية إلى أن المؤسسة تخطط لتوزيع أطعمة مغلّفة فقط، دون توفير للأدوية أو المواد الحيوية الأخرى وبمستوى استهلاك مستهدف يبلغ 1,700 سعرة حرارية يوميًا – أقل من المعدلات الطبية الموصى بها.

حتى الآن كانت نتائج الخطة كارثية ففي الليلة السابقة لإطلاق البرنامج استقال الرئيس التنفيذي الأميركي للمؤسسة مشيرًا إلى عجز منظمته عن الالتزام بالحد الأدنى من المعايير الإنسانية الدولية، وقد خَلَفَه في المنصب جوني مور وهو مسيحي إنجيلي ومسؤول علاقات عامة لا يملك أي خبرة في العمل الإنساني وسبق أن أعلن دعمه الصريح لطرد الفلسطينيين من غزة، وخلال الشهر الأول من تنفيذ الخطة شهدت نقاط التوزيع فوضى متكررة قُتل خلالها أكثر من 500 فلسطيني برصاص القوات (الإسرائيلية) أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات – وهي حوادث قتل غير مسبوقة في سياق توزيع المساعدات حتى في مناطق الحروب. وتدّعي الحكومة (الإسرائيلية) أن البرنامج الجديد ضروري لأن حماس كانت تستولي على المساعدات الواردة عبر القنوات التقليدية، غير أن منظمات الإغاثة الدولية ومسؤولين غربيين – من بينهم ديفيد ساترفيلد الدبلوماسي الأميركي الذي شغل منصب المبعوث الخاص للقضايا الإنسانية في غزة خلال إدارة بايدن وسندي ماكين المديرة الأميركية لبرنامج الأغذية العالمي – أشاروا إلى أن (إسرائيل) لم تقدّم أي دليل يدعم هذا الادعاء، وفي مقابلة قُبيل انطلاق GHF وصف دبلوماسي غربي رفيع المستوى في (إسرائيل) هذه المزاعم بأنها “كاذبة”. وقد حذّرت الأمم المتحدة من أن الهيكلية الجديدة لتوزيع المساعدات تهدف على الأرجح إلى دفع السكان المدنيين في غزة نحو النزوح، فمقابل شبكة التوزيع القديمة التي كانت تعتمد على عشرات الوكالات المتمرسة ومئات المواقع وآلاف العاملين المنتشرين في أنحاء القطاع تخطط GHF لإنشاء ثماني نقاط توزيع فقط محاطة بأسوار وتُجبر السكان على السير لمسافات طويلة للوصول إليها حيث تُترك صناديق الأغذية الجافة على طاولات مؤقتة تحت حراسة مشددة، وقد افتُتحت أول مراكز التغذية في أقصى جنوب القطاع وهو الموقع الذي تخطط (إسرائيل) لنقل أعداد كبيرة من السكان إليه، وقد أُعلِن صراحة عن الهدف من هذا الترتيب في تقرير إذاعي للجيش (الإسرائيلي) بتاريخ 29 أيار أشار فيه إلى أن افتتاح نقطة توزيع جديدة في ممر نتساريم –  وهو ممر عسكري واسع يفصل وسط القطاع – يهدف إلى “حثّ السكان المدنيين في مدينة غزة وشمال القطاع على التوجه جنوبًا”.

مدنٌ مُعقّمة

     فيما يتعلق بتأثيرها المباشر على السكان المدنيين في غزة تُعدّ المكوِّنات العسكرية لخطة “مركبات جدعون” أكثر تطرفًا من غيرها، فبينما يجري استدراج سكان غزة إلى مناطق محصورة في الجنوب وعلى الساحل عبر التوزيع المحدود للمساعدات، تقوم القنابل والصواريخ ونيران الدبابات والطائرات المسيّرة بدفعهم إلى تلك المناطق بالقوة. ومنذ استئناف العمليات العسكرية في 18 آذار قامت القوات (الإسرائيلية) بتهجير نحو 660 ألف فلسطيني – أي ما يعادل ثلث سكان القطاع – وقتلت نحو 5,000 شخص بمعدل يزيد عن50 قتيلًا في اليوم، ويُعزى هذا التصعيد جزئيًا إلى تعديل تكتيكي إذ بدأ الجيش (الإسرائيلي) منذ استئناف الحملة في استهداف أعضاء الإدارة المدنية التابعة لحماس إلى جانب المقاتلين بهدف تدمير قدرة الحركة على الحكم، وقد جرى استهداف العديد من هؤلاء داخل منازلهم أو خيامهم برفقة أسرهم. لكن كما كان الحال منذ بداية الحرب فإن الغالبية العظمى من الضحايا هم من المدنيين، ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) فإن من بين 56000 فلسطيني تأكدت وفاتهم منذ 7 تشرين الأول 2023، هناك 32000من النساء والأطفال وكبار السن.

وإذا كانت هذه الخسائر البشرية لا تبدو عشوائية فإنها تتركز في المناطق التي تسعى (إسرائيل) لإفراغها من سكانها، ففي نيسان وبعد أن قامت القوات (الإسرائيلية) بطرد جميع سكان مدينة رفح ثالث أكبر مدن غزة جرى تسويتها بالأرض وقد أصبحت هذه المدينة المدمرة بالكامل موقعًا لأول مركز توزيع غذائي تقيمه مؤسسة GHF واليوم يتحدث المسؤولون (الإسرائيليون) علنًا عن تطبيق “نموذج رفح” في آخر الجيوب الحضرية المتبقية داخل القطاع، وبمجرد أن يفرّ معظم المدنيين يُفترض أن تدخل القوات البرية (الإسرائيلية) إلى تلك المناطق الفارغة لمطاردة المقاتلين وتفجير الأنفاق وهدم ما تبقّى من الأبنية.

وفي نهاية أيار أصدرت القوات (الإسرائيلية) أوامر إخلاء – عبر منشورات ورسائل نصية مرفقة بخرائط مفصلة – تُطالب جميع سكان وسط مدينة غزة شمالًا ومدينة خان يونس جنوبًا بمغادرة منازلهم، وهذه المناطق تُعدّ الأكثر كثافة سكانية وهي من بين القليل من المناطق التي لا تزال مبانيها قائمة، واليوم تخضع هذه المناطق لقصف متواصل وبحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن 82,5% من مساحة غزة إما أصبحت تحت الاحتلال المباشر للجيش (الإسرائيلي)، أو خضعت لأوامر إخلاء وبالتالي صُنِّفت كمناطق إطلاق نار حر. ومع أن هذه المناطق لم تُهجر بالكامل بعد فإن بعض السكان – إمّا بسبب عدم ثقتهم بالأوامر (الإسرائيلية) أو لشدة الإرهاق من التهجير المتكرر –  يرفضون المغادرة، لكن إن نجحت الحكومة (الإسرائيلية) في تنفيذ مخططها فإن أكثر من مليوني إنسان سيجري حصرهم في خُمس مساحة القطاع فقط وهي منطقة توازي مساحة جزيرة مانهاتن (التي تضم عددًا أقل من السكان بكثير)، وقد أفاد صحفيون (إسرائيليون) اطلعوا على موجزات عسكرية بأن الخطة تشمل في مراحلها القادمة ضغط السكان داخل ثلاث مناطق أصغر حجمًا ومن ثم فلترتهم تدريجيًا عبر نقاط تفتيش إلى ما يُسمى “مناطق خالية من حماس”، وقد أعلن الجيش (الإسرائيلي) نفسه أن هدفه هو “تهجير معظم سكان غزة”.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف حشدت (إسرائيل) خمس فرق عسكرية كاملة داخل القطاع تضم بين 50,000 و60,000 جندي إلى جانب مئات الدبابات القتالية وعشرات الجرافات المدرعة ومجموعة كاملة من الدعم الجوي القريب، ومن اللافت أن هذه القوات تتكون بالكامل تقريبًا من جنود الخدمة النظامية وتشمل العديد من ألوية النخبة في الجيش (الإسرائيلي) إضافة إلى وحدات الكوماندوز والمظليين، أما قوات الاحتياط –  وهم المواطنون الذين يُستدعون عند الحاجة – والتي كانت تشكل العمود الفقري في الحروب السابقة فقد تم استثناؤها إلى حد كبير من القتال الجاري في غزة، ربما للحفاظ على المعنويات داخل (إسرائيل) في ظل توقعات بارتفاع عدد القتلى مع استمرار الضغط على حماس. وفي الأشهر الأخيرة، ظهرت مخاوف متزايدة داخل المؤسسة العسكرية من عزوف جنود الاحتياط عن تلبية دعوات التعبئة، إما لأنهم يعارضون استمرار الحرب أو لأنهم ضاقوا ذرعًا من الاستدعاءات المتكررة في أطول حرب تخوضها (إسرائيل) حتى الآن.

على شفير الهاوية

     في الوقت الراهن تبدو الحكومة (الإسرائيلية) غارقة في نشوة ما تعتبره نجاحًا ميدانيًا لحملتها العسكرية في إيران المدعومة من الولايات المتحدة، غير أن التداعيات المأساوية لاستراتيجيتها الحربية في قطاع غزة لا يمكن محوها أو تجاوزها، فقبل الحملة الإيرانية بدأت أصوات معارضة من داخل المؤسسة الأمنية (الإسرائيلية) إلى جانب قطاعات متنامية من الرأي العام تُبدي رفضًا متصاعدًا للخطة الحربية المستجدة. وقد تلاقت هذه الأصوات مع موجة انتقادات دولية متزايدة باتت تشمل دبلوماسيين من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى مسؤولي الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، وقد لوّح الاتحاد الأوروبي وهو الشريك التجاري الأبرز (لإسرائيل) بتعليق بعض بنود اتفاق الشراكة بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في غزة.

داخليًا أعربت شخصيات سياسية معارضة ورؤساء حكومات سابقون وقادة أمنيون متقاعدون فضلًا عن أكثر من 1300 أكاديمي (إسرائيلي) عن مواقف صريحة تدعو إلى وقف المجازر في القطاع، ففي نيسان وجّه أكثر من 250 مسؤولًا سابقًا وثلاثة رؤساء سابقين لجهاز الموساد رسالة علنية نادرة دعوا فيها إلى إعادة الرهائن ووقف العمليات العسكرية، وفي نهاية أيار اتهم رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت الحكومة (الإسرائيلية) بارتكاب جرائم حرب في غزة، وفي حزيران وقبيل بدء الحملة على إيران بأيام قليلة وجّه أكثر من 40 ضابطًا من استخبارات الجيش رسالة جماعية وصفوا فيها سياسات الحكومة بأنها “تنتهك القانون بشكل صارخ”.

ورغم ثقل هذه المواقف النقدية فإن تأثيرها على مسار السياسات الحكومية ظل محدودًا إلى حد بعيد، ففي وقت سابق من حزيران كاد انقسام داخل الائتلاف الحاكم أن يؤدي إلى انهياره غير أن محور الخلاف لم يكن يتعلق بإدارة الحرب بل تمحور حول قضية تجنيد الشباب من التيار اليهودي المتشدد، ومفارقة الأمر أن استقرار الائتلاف الحكومي بات مرهونًا بتماسك أحزابه الأكثر تطرفًا التي تخشى من أن يؤدي سقوط الحكومة إلى تقويض مكاسبها السياسية، وبهذا يُحتمل أن تُصبح حكومة نتنياهو إحدى الحكومات القليلة في تاريخ (إسرائيل) التي تُكمل مدتها الدستورية حتى خريف عام 2026، ما يعني أن أي تغيير جوهري في توجهات السياسة (الإسرائيلية) قد يتطلب ضغطًا خارجيًا حقيقيًا.

يُعوَّل وإن بخفوت على أن تمارس الإدارة الأميركية ضغطًا مباشرًا من شأنه أن يدفع نتنياهو إلى إنهاء القتال قبل تفاقم مآلاته الكارثية، وقد عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الأسابيع الأخيرة عن استياء متنامٍ من استمرار الحرب حين أشار في أيار إلى أن “الكثير من الناس يتضورون جوعًا في غزة” وفي مكالمة هاتفية مع نتنياهو مطلع حزيران أفادت تقارير صحفية بأنه طالبه بإنهاء الحرب بشكل نهائي، كما بدأت تبرز تباينات واضحة في المواقف بين واشنطن وتل أبيب لا في ما يتعلق بغزة فقط بل أيضًا بشأن ملفات أخرى مثل الحوثيين في اليمن والحكومة الجديدة في سوريا بل وحتى الملف الإيراني رغم التدخل العسكري الأميركي.

ففي 21 حزيران، أمر ترامب بشن غارات جوية استهدفت منشأة فوردو النووية وموقعين آخرين إلا أنه سرعان ما أعلن وقفًا لإطلاق النار ووجّه انتقادات متوازنة للطرفين ما يعكس عدم رغبته في تبنّي الأهداف (الإسرائيلية) الأوسع نطاقًا، غير أن ما يزال من غير المؤكد ما إذا كانت الإدارة الأميركية مستعدة لترجمة مواقفها اللفظية إلى إجراءات عملية ملموسة. ولو كانت الإدارة الأميركية جادّة فعلًا في إنهاء الحرب لأعلنت فشل سياسة “التفاوض تحت النار” التي يتبعها نتنياهو والمتمثلة في القصف والتجويع ولقادت العودة إلى صيغة وقف إطلاق النار التي أُبرمت سابقًا بوساطة أميركية مكثفة – سواء في عهد بايدن أو ترامب – والتي أسفرت عن هدنة قصيرة بين كانون الثاني وآذار، ورغم أن تلك الهدنة لم تقدم حلولًا نهائية فإنها نجحت في إطلاق سراح 33 رهينة (إسرائيلية) ووفرت إغاثة إنسانية مؤقتة للغزيين كما بدأت تحفّز اهتمامًا إقليميًا ودوليًا نحو مقاربات عملية لإدارة “اليوم التالي” في غزة بما يشمل مبادرات عربية لإعادة الإعمار وحلولًا سياسية مدعومة إقليميًا، وقد أبدت حماس في حينه استعدادًا للتخلي عن دورها في أي حكومة مقبلة فيما بدأت الجهود الدبلوماسية الغربية تستكشف آليات نزع سلاح الحركة واحتواء تهديدها.

إلا أن غياب ضغط أميركي فاعل يجعل احتمالات العودة إلى هذا المسار ضئيلة، فخطاب نتنياهو العدائي واعتماده المتزايد على الحرب كوسيلة لبقائه السياسي وتحالفه مع اليمين المتطرف بالإضافة إلى سلوك الجيش (الإسرائيلي) الميداني تشير جميعها إلى رغبة واضحة في إطالة أمد النزاع، ويبدو أن المخطط (الإسرائيلي) ماضٍ في التنفيذ، وقد يحقق بعض النجاحات المرحلية – كتحرير بعض الرهائن أو قتل المزيد من مقاتلي حماس أو بسط سيطرة عسكرية كاملة على القطاع أو حتى دفع أعداد كبيرة من سكانه إلى الرحيل، وربما يجد نتنياهو في هذه المخرجات ما يسمح له بإعلان “الانتصار”.

لكن هذا “الانتصار” قد يأتي بكلفة إنسانية هائلة، فمن المرجّح أن يُقتل عدد كبير إضافي من المدنيين الفلسطينيين إلى جانب احتمال وقوع خسائر فادحة في صفوف الجنود (الإسرائيليين) خصوصًا مع انتقال العمليات من نمط الحرب التكنولوجية عن بُعد إلى القتال الحضري المباشر في بيئة مدمّرة أشبه بستالينغراد، وسيجد أكثر من مليونَي فلسطيني أنفسهم محشورين في مخيمات خاضعة للسيطرة (الإسرائيلية) يعتمدون بالكامل على مساعدات غذائية محدودة ومقيّدة، وبعد إقصاء المؤسسات الدولية والمنظمات الإنسانية وتفكيك ما تبقّى من المجتمع المدني الفلسطيني ستكون الحكومة (الإسرائيلية) وحدها مسؤولة عن مصير هذا الشعب وما ينطوي عليه ذلك من تحديات أخلاقية إنسانية وسياسية لا يمكن احتواؤها بسهولة.

 

* Max Rodenbeck, Gaza Without Gazans Only American Pressure Can Stop Israel’s New Endgame, FOREIGN AFFAIRS, June 25, 2025.

**  لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى