الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

الممانعة الأميركية–(الإسرائيلية) للتسلح النووي الإيراني

قراءة في ردع الهيمنة وتوازن الأنظمة في (الشرق الاوسط)

بقلم: د. فاتن فالح مهدي / كلية القانون والعلوم السياسية-جامعة ديالى

 

يقول كينيث بولاك، الباحث في معهد «بروكينغز»، إن “البرنامج النووي الإيراني قد يُعيد تعريف طبيعة الردع في (الشرق الاوسط)، ويجعل من إدارة الأزمات مستقبلًا مهمة معقّدة تتجاوز قدرة الولايات المتحدة على التدخل الحاسم كما في السابق”.  وانطلاقا من هذا القول شهد الملف النووي الإيراني تصعيدًا لافتًا خلال المواجهة الإيرانية–(الإسرائيلية) الأخيرة، حيث بدا أن طهران لم تعد تتعامل مع الملف النووي كقضية مؤجلة أو قابلة للتسوية الدبلوماسية فحسب، بل كجزء من معادلة الردع الإقليمي الجديدة التي تشكّلت بفعل إدماج القدرات الصاروخية، التقليدية منها والفرط صوتية، ضمن الاستراتيجية الإيرانية في إدارة الصراع مع (إسرائيل)، وقد جاء هذا التحول النوعي في ظل بيئة استراتيجية تزداد هشاشة، ما دفع الولايات المتحدة إلى إعادة التشديد على خطوطها الحمراء إزاء المشروع الإيراني، ليس فقط ضمن إطار الالتزام بمعاهدة عدم الانتشار  بل باعتباره تهديدا مباشرا للأمن السياسي -الأمني الذي ترعاه الولايات المتحدة الامريكية في (الشرق الاوسط)  منذ ما بعد الحرب الباردة .

 في هذا السياق، يسعى هذا المقال الى تقديم قراءة تحليلية معمقة لدوافع الممانعة الامريكية – (الإسرائيلية) اتجاه امتلاك إيران لسلاح النووي بوصفه انعكاسا لصراع السيادة وإعادة هيكلية ميزان القوة في (الشرق الاوسط).

أولًا: السلاح النووي الإيراني كتهديد مباشر للمظلّة الأمنية الأميركية: ترى الولايات المتحدة أن امتلاك إيران لسلاح نووي يعني بشكل مباشر تقويض هيمنة الولايات المتحدة بوصفها الضامن الأمني لحلفائها، لا سيما (إسرائيل) ودول الخليج. فبناء قدرة ردعية ذاتية لدى طهران يُحيل الردع من كونه تابعًا للقرار الأميركي إلى كونه قرارًا سياديًا مستقلًا، يتيح لطهران هامشًا أكبر في المناورة، ويُضعف قدرة واشنطن على الضبط والتدخل للقرار العسكري والدبلوماسي في (الشرق الاوسط).

ثانيًا: تقويض احتكار الردع (الإسرائيلي): تُعد (إسرائيل) الدولة الوحيدة في (الشرق الاوسط) التي تمتلك سلاحًا نوويًا، رغم عدم إعلانها الرسمي. هذا الاحتكار هو ما يمنحها القدرة على استخدام القوة الاستباقية في أي مواجهة غير أن امتلاك إيران لسلاح نووي سيكسر هذه المعادلة بالكامل، ويدخل المنطقة في حالة “ردع متبادل”، كما حصل في جنوب آسيا بين الهند وباكستان. وهو ما يُقيّد القدرة (الإسرائيلية) على توجيه ضربات وقائية ويُعقّد خياراتها الاستراتيجية.

ثالثًا: السلاح النووي كألية لتحصين النظام السياسي الإيراني

تدرك واشطن إن امتلاك إيران لسلاح نووي لا ينظر اليه فقط كأداة عسكرية، بل كأداة سياسية لبناء نظام حصين ضد الاختراق الخارجي. فالسلاح النووي يمنح النظام في طهران حصانة سيادية ضد محاولات التغيير، ويؤسس لمعادلة ردع تتجاوز المعادلة العسكرية نحو تثبيت الشرعية السياسية في الداخل، وقد كشفت المواجهة الإيرانية–(الإسرائيلية) الأخيرة أن القيادة الإيرانية لم تعد مستعدة للتعامل مع مشروعها النووي باعتباره ورقة تفاوضية، بل بات جزءًا من العقيدة الوطنية المتجذرة في بنية النظام الإيراني وهو ما ترى فيه واشنطن تهديدًا طويل الأمد لاستراتيجيات الاحتواء السياسية التي تبنّتها لعقود في المنطقة.

رابعًا: سباق التسلح في المنطقة الإقليمية

تحذر واشنطن من ان نجاح الجمهورية الاسلامية في إيران في امتلاك قدرات نووية سيطلق موجة “عدوى استراتيجية” في المنطقة تدفع قوى إقليمية كتركيا ومصر نحو تبني مشاريع تسلّح نووي موازية، من هنا تصبح المنطقة أمام سباق تسلح نووي غير قابل للضبط الأميركي، مما يؤدي الى فوضى إستراتيجية يصعب إدارتها.

خامسًا: البنية التكاملية بين القدرات النووية والصاروخية

ما يُقلق واشنطن وتل أبيب على نحو خاص ليس فقط الجانب النووي في ذاته، بل تكامله مع بنية صاروخية متطورة أثبتت فاعليتها في المواجهات الأخيرة. فصواريخ مثل “ذو الفقار”، “خيبر”، و”فتاح 2” التي تتجاوز مدياتها 2000 كلم، وتملك خصائص فرط صوتية، تجعل من أي سلاح نووي محتمل تهديدًا شاملًا يمتد من عمق (إسرائيل) إلى قواعد أميركية في الخليج، وربما إلى كل  الشرق المتوسط.

سادسًا: السعودية والإمارات في مرمى القلق النووي الإيراني

تتعامل السعودية والامارات بقلق بالغ مع التقدم  النووي الإيراني، فالسعودية تعتبر امتلاك طهران للسلاح النووي تهديدًا مباشرًا لأمنها الوطني، وقد صرّح ولي العهد محمد بن سلمان بأنه لن يقف مكتوف الأيدي إذا أصبحت إيران نووية. في المقابل، تتجه الإمارات نحو تعزيز تحالفاتها العسكرية والتقنية مع (إسرائيل) والولايات المتحدة، ضمن سياسة دفاعية وقائية لمواجهة التحول النوعي في موازين الردع.

سابعًا: الموقف الأوروبي

تشهد العواصم الأوروبية انقسامًا واضحًا بين الداعمة لإحياء الاتفاق النووي (بولندا، كاليتوانيا، ولاتفيا) و القلقة (بريطانيا، فرنسا، المانيا) من تصاعد الردع الإيراني الى الحد الذي يطال مجال الامن الأوروبي، ويحذرمركز “ستيفتون” للامن الأوربي الى أن التقدم النووي والصاروخي الإيراني يهدد المجال الردعي التقليدي الذي يحمي دول المتوسط وأوروبا الشرقية، ويطالب هذا المركز باتخاذ إجراءات ردعية مضادة لا تقتصر على العقوبات، بل تشمل منظومات دفاع جوي أوروبية جديدة.

ثامنًا: صراع السيادة الردعي

 تشير تقارير صادرة عن مراكز بحثية مرموقة مثل “راند” و”تشاتهام هاوس” إلى أن السيناريو الأكثر واقعية لا يكمن في امتلاك إيران لسلاح نووي مكتمل، بل في بقائها عند “العتبة النووية” – أي بلوغ مستوى من التطوير التكنولوجي يمكّنها من تصنيع السلاح عند الضرورة، دون الإعلان الرسمي عن ذلك. بهذا المعنى، تصبح إيران جزءًا من نادي الردع النووي غير الرسمي، إلى جانب (إسرائيل) والهند، ضمن ما يمكن تسميته بـالغموض الردعي المحسوب. غير أن هذا التوازن الهش يظل معرضًا للانهيار، خصوصًا في ظل استمرار الضغوط الأميركية–(الإسرائيلية)، وتصاعد الدعوات في تل أبيب لتبنّي خيار “الضربة الوقائية الكاملة”، كوسيلة استباقية لمنع اكتمال البنية النووية الإيرانية بأي ثمن. وقد تجسد هذا المنطق في الضربات الجوية التي استهدفت منشآت نطنز، وأصفهان، وفوردو في  تموز الجاري من عام 2025، والتي شكّلت تطبيقًا واضحًا لما يمكن تسميته بـ”الاستباق الأقصى”، وهو تحرك يعكس إدراكًا أميركيًا–(إسرائيليًا) بأن طهران تقترب فعليًا من امتلاك القدرة النووية القابلة للتفعيل.غير ان نتائج هذا الاستباق كانت معاكسة للتوقعات ،اذ لم  تُضعف البرنامج النووي الإيراني، بل أسهمت في دفعه إلى مزيد من التماسك والتعمق تحت الأرض. فإيران لم تُوقف تخصيب اليورانيوم، بل أعادت هيكلة بنيتها التحتية النووية بمرونة عالية، كما جاء الرد الإيراني عبر استهداف قاعدة العديد في قطر ليمثل نقطة تحول في معادلة الردع اذ اشارت طهران بوضوح الى انها لم تعد تقف عند الردع النظري بل باتت قادرة على الفعل الميداني الموجه بدقه نحو استهداف القواعد الامريكية كرسالة مضادة.

إن الإصرار الأميركي–(الإسرائيلي) على منع إيران من امتلاك السلاح النووي لا يمكن فصله عن البعد المفاهيمي للصراع؛ فبينما تسعى طهران إلى تثبيت مبدأ “السيادة الاستراتيجية” و”الردع المتكافئ”، تتمسك واشنطن و (تل أبيب) بمنطق “الهيمنة فوق الإقليمية”، وإبقاء القرار الأمني مرهون بإدارتهما الخارجية. فالبرنامج النووي الإيراني لا يُنظر اليه  في واشنطن كمجرد تهديد تقني، بل كإعلان استقلال سياسي، وإعادة توزيع للسلطة والنفوذ في المنطقة الإقليمية . ومن هنا،فإن كل تقدم تُحرزه إيران في مشروعها النووي، تُعد إعلانًا ضمنيًا بانتهاء مرحلة الأحادية الأميركية في القرار الإقليمي، وبداية مرحلة جديدة تتعدد فيها مراكز القوة والردع، بما يهدد البنية الإقليمية التي تأسست على منطق الهيمنة الاحادية منذ عقود .وهكذا، لم يعد السؤال الحقيقي في السنوات القادمة  : هل ستمتلك إيران السلاح النووي؟ بل أصبح: هل النظام الدولي مستعد للتعامل مع (شرق أوسط) لم يعد فيه احتكار للردع، ولا مركز وحيد للقرار الامني؟

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى