ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تحرير: عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
قبل عقد من الزمن بدا أن روسيا تعيش ذروتها في (الشرق الأوسط) لكن من منظور اليوم يبدو أن هذه الذروة كانت عابرة ومؤقتة، ولدهشة الكثيرين لم تتدخل موسكو لمنع سقوط الرئيس السوري بشار الأسد في كانون الاول 2024، والآن حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الظهور بمظهر الحياد في النزاع الدائر بين (إسرائيل)** وإيران، مقدماً نفسه كوسيط سلام بدلًا من تقديم دعم مباشر لطهران.
إن خيار بوتين هذا يعكس وضعاً من الضعف، فحين تتعقد الأمور لا تمتلك روسيا لا الإرادة ولا القدرة على التدخل في الصراعات الإقليمية في (الشرق الأوسط)، لكن هذا القرار يعكس أيضاً دوافع متضاربة حيث تتطلب مصالح موسكو موازنة معقدة بين علاقاتها مع اللاعبين الإقليميين بمن فيهم خصوم إيران ومنافسيها.
بعد غزو أوكرانيا في 2022 عززت روسيا علاقاتها بشكل كبير مع إيران، وكان الدافع عمليًا إذ كانت موسكو في حاجة أكبر لطهران مما كانت عليه العكس، فقد زود الإيرانيون روسيا بطائرات الدرون من نوع “شهد” والتقنيات المرتبطة بها التي استخدمتها موسكو لقصف المدن والبنية التحتية الأوكرانية، كما شاركت إيران خبراتها في التهرب من العقوبات الغربية مما ساعد أسطول روسيا “الشبح” من ناقلات النفط على الاستفادة من تلك التجارب، كما بدأ البلدان بتعزيز البنية التحتية للسكك الحديدية والموانئ لتقوية طريق التجارة شمال – جنوب عبر أوراسيا.
وحصلت روسيا على فوائد غير مباشرة من علاقتها مع طهران إذ مهد دعم إيران لحركة حماس وحزب الله لهجمات 7 تشرين الاول 2023 على (إسرائيل) والصراع الإقليمي الذي تبعها، وأدى تصاعد العنف في (الشرق الأوسط) إلى صرف الأنظار الدولية عن أوكرانيا وزيادة التوتر بين الغرب وأجزاء كبيرة من الجنوب العالمي ورفع وتيرة الصراعات الداخلية في الولايات المتحدة قبيل انتخابات رئاسية حاسمة، كما أن عدم الاستقرار في (الشرق الأوسط) غالبًا ما يدفع أسعار النفط للارتفاع مما يصب في مصلحة ميزانية الاتحاد الروسي.
وفي المقابل ردّت روسيا على دعم إيران حيث انحازت إلى التحالف المناهض (لإسرائيل) بعد أحداث 7 تشرين الاول أكثر مما كان متوقعًا، فقد زارت وفود من حماس ومجلس الحوثيين موسكو للتفاوض حول قضايا عدة، فيما تشير تقارير استخباراتية أمريكية إلى تورط جهاز المخابرات العسكرية الروسي (GRU) في دعم الحوثيين في استهداف السفن الغربية في البحر الأحمر.
على صعيد آخر أعرب بوتين عن دعمه لإيران خلال تعرضها لهجمات (إسرائيلية) مباشرة فاتصل بالمرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي لدعوته إلى ضبط النفس عقب الغارة (الإسرائيلية) التي أسفرت عن مقتل إسماعيل هنية في آب 2024، وفي الوقت نفسه لم يتصل بوتين برئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو، وفي كانون الثاني 2025 وقّعت روسيا وإيران شراكة أمنية رغم أن (إسرائيل) كانت تحاول الحفاظ على موقف محايد في الحرب الروسية-الأوكرانية. مع ذلك تُظهر ردود فعل روسيا في جولة القتال الأخيرة بين إيران و(إسرائيل) أن علاقاتها مع طهران لم تكن من نوع “دون حدود”، فحتى الآن الوثائق التي تؤكد الروابط بين البلدين مليئة بتعبيرات عامة وطموحة ولم تقدم روسيا أي مساعدات عسكرية ملموسة مثل أنظمة دفاع جوي ضد الطائرات (الإسرائيلية)، ولم تُسلّم حتى الآن الطائرات المقاتلة المتقدمة من طراز Su-35 التي اشترتها إيران في 2023، مما يترك طهران تعتمد على الطائرات الأمريكية القديمة من سبعينيات القرن الماضي.
تعكس مواقف موسكو تجاه إيران مستوىً عميقًا من الازدواجية الاستراتيجية، فمن جهة أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الضربات (الإسرائيلية) ووجه انتقادات حادة للولايات المتحدة متهمًا إياها بأنها “أوصلت العالم إلى نقطة حرجة للغاية” عبر تصرفاتها، كما يُشكل احتمال تغيير النظام في طهران مصدر قلق بالغ بالنسبة للكرملين نظرًا لتمسكه الراسخ بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، في المقابل فإن دعم إيران لبرنامجها النووي يثير تحفظات موسكو كما يتضح من موقف روسيا الداعم للعقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على إيران عام 2010، علاوة على ذلك بدأت أهمية إيران كحليف استراتيجي تتراجع تدريجيًا خاصة مع تمكّن روسيا من تصنيع طائرات “شهد” المسيرة محليًا مزودة بتحديثات تقنية متقدمة تشمل محركات نفاثة وأنظمة ملاحة مدعومة عبر شبكة “ستارلينك”.
يبدو قرار روسيا بعدم المشاركة المباشرة في الصراع الحالي بين (إسرائيل) وإيران متسقًا مع نهجها التاريخي في (الشرق الأوسط) رغم تطورات علاقاتها مع طهران في السنوات الأخيرة، فمنذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 التزمت القوات الروسية ونظم الدفاع الجوي المتواجدة هناك الحياد تجاه العمليات (الإسرائيلية) التي استهدفت جماعات مثل حزب الله وأطرافًا إيرانية أخرى، وبالرغم من حادثة إسقاط طائرة روسية بطريق الخطأ خلال غارة (إسرائيلية) في ايلول 2018 اتبعت موسكو سياسة متوازنة تهدف إلى توظيف نفوذها الجديد في سوريا لتعزيز علاقاتها مع منافسي إيران الإقليميين وعلى رأسهم تركيا والمملكة العربية السعودية إلى جانب (إسرائيل). إن القرار الروسي بنشر قواته في سوريا شكّل مخاطرة استراتيجية كبيرة لكن موسكو نجحت لاحقًا في صياغة سياسة دبلوماسية متوازنة، من خلال فتح قنوات حوار مع جميع الأطراف المعنية في المنطقة بما في ذلك إيران و(إسرائيل) وحكومة الأسد والمعارضة السورية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العمال الكردستاني، وفي ضوء التحول المؤقت نحو تقوية العلاقات مع إيران خلال فترة الحرب تسعى روسيا الآن إلى إعادة توازن علاقاتها الإقليمية.
أما فيما يتعلق بالعلاقات مع (إسرائيل) فتتسم بطابع معقد يجمع بين التوتر والاحترام، ففي الدعاية الرسمية الروسية غالبًا ما تُصور (إسرائيل) كامتداد للهيمنة الأمريكية كما أن معاداة السامية تحمل جذورًا تاريخية واجتماعية عميقة في روسيا وأوروبا الشرقية بشكل عام، مع ذلك تترافق هذه المواقف مع تقدير واضح لقوة (إسرائيل) العسكرية وقدرتها على فرض واقع جديد رغم الانتقادات الدولية وهو ما يحظى بإعجاب شريحة واسعة من الجمهور الروسي بما في ذلك التيارات القومية المتطرفة، كما تعزز الروابط القوية بين البلدين وجود جالية روسية كبيرة في (إسرائيل) حيث يقدّر بوتين في تصريحاته الأخيرة أن عدد الناطقين بالروسية في (إسرائيل) يقترب من مليوني نسمة مما يعكس عمق الروابط الثقافية والاجتماعية بين الطرفين.
في المحصلة تعكس السياسة الروسية في (الشرق الأوسط) محدودية قدرات موسكو على فرض نفوذ مستقل وقوي يعادل ذلك الذي تمارسه الولايات المتحدة، فروسيا رغم طموحاتها لا تزال غير قادرة على أن تحل محل واشنطن كعمود فقري للنظام الإقليمي كما أنها تفتقر إلى المصالح والالتزامات العميقة التي تمتلكها الدول المحلية في المنطقة، تظل أولوياتها الأساسية تتركز على بسط السيطرة في أوكرانيا والحفاظ على هيمنتها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي ما يجعل نهجها في (الشرق الأوسط) انتهازيًا ومحافظًا على الحد الأدنى من المخاطر، ولهذا السبب من المتوقع أن تستمر موسكو في تبني سياسة تواصل مع كافة اللاعبين الإقليميين بما في ذلك (إسرائيل) وهو واقع يدركه جيدًا النظام الإيراني.
* Dimitar Bechev, Why Russia Is Sitting Out This Round of the Israel-Iran Conflict as Putin’s dependence on Iran decreases, he seeks to maintain ties with Tehran’s regional rivals, FOREIGN POLICY, June 25, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.