تقدير موقفغير مصنف

بين اغتيال يهدد قامة دينية كبرى وحرب تقرع أبواب الأمة: المرجعيات الدينية على خط المواجهة

بقلم: حنين محمد الوحيلي / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

               في ظل التحولات المتسارعة في البيئة الإقليمية والتبدلات العميقة في ميزان الردع بين محور المقاومة والمحور الأميركي–(الإسرائيلي)، تتصاعد مؤشرات الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة قد تكون الأخطر منذ عقود. فلم يعد الصراع محصوراً في الحقول العسكرية التقليدية، ولا حتى في ميدان العقوبات أو الهجمات السيبرانية، بل بدأ يأخذ طابعاً وجودياً يمس جوهر البنى الرمزية والقيادية للطرفين. في هذا السياق برزت تهديدات غير مسبوقة مباشرة أو عبر تسريبات مقصودة، تشير إلى إمكانية استهداف شخص المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، السيد علي الخامنئي (دام ظله)، بالتصفية الجسدية أو الإطاحة الرمزية.

هذا التهديد لا يمكن قراءته كمجرد تصعيد لفظي أو حرب نفسية بل كتحول نوعي في طبيعة المعركة، إذ أن المساس بقيادة بهذا الحجم لا يعد خطوة تكتيكية بل عملاً استراتيجياً محفوفاً بالمخاطر، يحمل في طياته إمكانية تفجير سلسلة ردود أفعال عنيفة وغير منضبطة في أنحاء متفرقة من المنطقة، وعلى رأسها العراق ولبنان واليمن وفلسطين وربما أبعد من ذلك. وضمن هذا الإطار المتوتر تزداد أيضاً احتمالات تدخل مباشر من الولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط دعماً (لإسرائيل)، بل كطرف فاعل يسعى لفرض قواعد اشتباك جديدة، بالقوة إذا لزم الأمر.

هذه التطورات تضع العالم أمام احتمالين متوازيين ومتشابكين، اغتيال القيادة الدينية في إيران بوصفه استهدافاً للرمزية والمشروع، وتدخل أميركي مباشر بوصفه نقلة عسكرية ستغير بنية الردع في المنطقة. وكلا الاحتمالين سواء اجتمعا أو انفردا يفرضان إعادة تموضع استراتيجي للفاعلين الإقليميين والدوليين، ويفتحان الباب واسعاً أمام تدخل المرجعيات الدينية الكبرى، وعلى رأسها المرجعية الدينية في النجف الأشرف، بما في ذلك احتمال إصدار فتوى جهادية جديدة أو تحريك الشارع الإسلامي بوصفه القوة المعنوية الموازية للقوة الصاروخية.

السيد علي الخامنئي ليس مجرد رأس هرم الدولة الإيرانية بل هو مرجع ديني أعلى، له ملايين المقلدين في إيران والعالم الإسلامي، في العراق ولبنان والبحرين واليمن وأفغانستان وسوريا، وحتى في الجاليات الشيعية في الغرب. وهذا الامتداد لا ينبع فقط من موقعه السياسي كقائد أعلى للجمهورية الإسلامية، بل من شرعيته الدينية بوصفه فقيهاً جامعاً للشرائط، ومصدر تقليد قائم بذاته، يُحتكم إلى آرائه الشرعية، وتُتبع توجيهاته في الحقول العبادية والاجتماعية والسياسية على حد سواء.

إن التهديد باغتيال السيد الخامنئي أو المساس المباشر به لا يمكن قراءته داخل إيران فقط كاعتداء على رأس النظام، بل ينظر إليه من قبل الملايين كمحاولة لضرب مرجعيتهم الدينية، ونسف المرجعية الشيعية بوصفها مؤسسة مستقلة عن الدولة وعابرة للحدود. في حين أن الحرب على إيران كدولة قد تفسر داخل الأطر الجيوسياسية أو حتى العقائدية، إلا أن استهداف المرجع الديني الأعلى يعد خطاً أحمر مختلفاً تماماً، يمس الجوهر العقدي والروحي للمجتمع الشيعي، ويستفز شعور الانتماء العميق لدى قطاعات واسعة من المؤمنين، سواء أكانوا ملتزمين سياسياً أم غير منخرطين في العمل السياسي.

ففي حين أن الصراع مع إيران كدولة يدار وفق توازنات القوة والمصالح الدولية، فإن استهداف المرجعية يفجر مخزوناً من المشاعر والعقائد والانفعالات لا تحكمه عقلانية الدولة، بل يستنهض وجداناً دينياً يتجاوز الحسابات الباردة. وهنا يكمن الخطر الحقيقي لأن هذا النوع من الصدام لا يواجه فقط برد سياسي أو عسكري، بل ينتج مقاومة لا مركزية وشبكة تفاعل شعبي وشعائري تخرج المعركة من يد العسكر وتدخلها في ميدان العقيدة.

ردود الفعل على التهديدات باغتيال السيد علي الخامنئي جاءت حاسمة ومباشرة من عدة جهات. فقد أعرب الرئيس الروسي (فلاديمير بوتن) عن انزعاجه الشديد من هذه التهديدات، وقال بالحرف “لا أريد حتى مناقشة هذا الاحتمال. لا أريد ذلك”.

هذا التصريح يعكس تقدير بوتن لشخص السيد الخامنئي والعلاقة الخاصة التي تجمعهما، إذ يعد بوتن من القلائل الذين التقاهم القائد الإيراني وجهاً لوجه. إن انزعاج روسيا يبرز أن المساس بالمرشد الأعلى يشكل خطراً ليس فقط على إيران، بل على الاستقرار الإقليمي والدولي.

أما المرجعية في النجف، فقد أصدرت بياناً ذا لهجة غير معتادة جاء فيه “إن المساس بالقيادات الدينية أو السياسية في الجمهورية الإسلامية قد يؤدي إلى فوضى شاملة، ويشكل خطراً جسيماً على مصالح الأمة الإسلامية ويهدد الاستقرار الإقليمي”.

هذا البيان، رغم عدم ذكره للسيد الخامنئي بالاسم، يحمل في طياته تحذيراً واضحاً ومباشراً. فالنجف تدرك أن استهداف “القيادات الدينية” في إيران هو مساس بالنظام العقدي الذي يربط النجف بمرجعية قم، وهو جزء من منظومة التوازن الروحي والسياسي التي تمنع انزلاق المنطقة نحو الفوضى.

تحذير النجف من “الفوضى الشاملة” لا يقتصر على البعد العسكري فقط، بل يشير إلى مخاطر الانفلات السياسي والاجتماعي والروحي الذي يمكن أن ينجم عن استهداف الرموز الدينية الكبرى. وهو بمثابة تذكير بأن المرجعية الدينية تمثل صمام أمان يحافظ على وحدة وتماسك المجتمعات الشيعية في العراق والمنطقة، وأن تجاوز الخطوط الحمراء هذه قد يدفع المرجعية إلى خطوات أكثر حدة، قد تشمل إصدار فتوى تعبئة أو تحريك الشارع.

بالإضافة إلى ذلك عبرت قيادات محور المقاومة في لبنان واليمن والعراق عن رفضها القاطع لأي تهديد أو تدخل أميركي مباشر، مؤكدين استعدادهم للرد على أي عدوان يمس قيادة إيران، مما يزيد من احتمال تصعيد إقليمي في حال تنفيذ تلك التهديدات.

وسط هذا التوتر المتصاعد وردود الفعل الحادة، تبرز الحاجة الملحة لاستشراف السيناريوهات المحتملة التي قد تشكل مسارات المواجهة القادمة وتأثيرها على استقرار المنطقة.

السيناريو الأول: دخول أميركي مباشر إلى الحرب بذريعة ضرب المنشآت النووية الإيرانية

هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً في الفترة القادمة، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى استخدام ذريعة تنفيذ ضربات محدودة على منشآت نووية إيرانية لتبرير تدخل عسكري مباشر. رغم محدودية الضربات فإن هذا الخيار قد يجر واشنطن إلى مأزق متشابك مع إيران حيث ردود الفعل ستكون قوية وواسعة النطاق. في العراق ستتلقى واشنطن رد فعل شرساً على أرض الواقع مدعوماً بفتوى المرجعية في النجف، التي قد تصدر دعوة جهادية أو تحركات شعبية قوية ضد التدخل الأميركي.

السيناريو الثاني: تهور (إسرائيلي) واستهداف مباشر للمرشد الأعلى

(إسرائيل) قد تقدم على خطوة تهور تتمثل باغتيال أو محاولة اغتيال السيد الخامنئي، ما يفتح الباب لرد عسكري واسع النطاق مع إيران. هذا السيناريو سيؤدي إلى حالة شديدة من التصعيد على كافة الجبهات، مع توحيد المواقف في محور المقاومة وفتح معارك محتملة في العراق ولبنان واليمن. المرجعيات في النجف ستلعب دوراً مركزياً في تعبئة الشارع ودعم المقاومة مما يصعب على القوى الدولية احتواء الأزمة.

السيناريو الثالث: دعم أميركي محدود يقتصر على تزويد (إسرائيل) بالدفاعات والأسلحة

في هذا السيناريو، تبقى الولايات المتحدة غير متورطة مباشرة في القتال، لكنها تقدم دعماً لوجستياً وعسكرياً محدوداً (لإسرائيل)، بما في ذلك صواريخ دفاع جوي وأسلحة متطورة، بهدف تعزيز قدرات تل أبيب على مواجهة الرد الإيراني. رغم أن هذا الخيار قد يحد من التصعيد المباشر بين واشنطن وطهران، إلا أنه سيؤدي إلى مزيد من التوتر داخل العراق، حيث ستتصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد الوجود الأميركي، مما يزيد من الضغوط على المرجعيات السياسية والدينية لاتخاذ مواقف حازمة.

السيناريو الرابع: محاولة أميركية لإيجاد وسطاء لتهدئة الأزمة وإنقاذ (إسرائيل) من المستنقع

واشنطن قد تسعى إلى تقليل خسائرها عبر الدفع باتجاه وساطات دبلوماسية تهدف إلى التهدئة والحد من التصعيد العسكري خاصة في حال تورطها المباشر في القتال. هذا السيناريو يعتمد على تحركات دبلوماسية مكثفة مع دول مثل روسيا وتركيا وربما العراق لإيجاد صيغة تفاهم مؤقتة، تمنع الانزلاق إلى حرب شاملة.

أرجح السيناريو الأول، دخول أميركي مباشر بالحجة النووية عبر ضربات محدودة، ما يوقع واشنطن في مأزق مع إيران ويعقد الوضع في العراق، والمرجعية ستجد نفسها مضطرة للتحرك بقوة لحماية الأرض والكرامة.

إن التطورات الراهنة تضع جميع الأطراف أمام مفترق طرق حاسم، حيث أن خيارات المواجهة أو التهدئة لن تؤثر فقط على ميزان القوى العسكري، بل ستمس أيضاً الثوابت الدينية والاجتماعية التي تبنى عليها مناطق واسعة من العالم الإسلامي. وبالنظر إلى حساسية التهديدات التي تستهدف القيم والرموز الدينية العليا، فإن المرجعيات الدينية وخاصة النجف ستظل قوة فاعلة لا يمكن تجاهلها، قادرة على إعادة تشكيل المشهد وفقاً لتطورات الميدان. ومن هذا المنطلق يتوجب على القوى الإقليمية والدولية تحكيم العقل والحكمة والعمل على تفادي انزلاق غير محسوب، يحول النزاع إلى مواجهة طويلة الأمد لا يمكن التنبؤ بعواقبها

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى