الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

أمم غير متحدة وقوانين غير عادلة

أزمة مجلس الأمن وجدوى تعديله

بقلم: حنين محمد الوحيلي / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

في عالم يفترض أنه خرج من أهوال حربين عالميتين ليبني منظومة تردع الظلم وتكبح العدوان، ما زال الظالم هو من يكتب القوانين، والمعتدي هو من يملك حق النقض على صوت العدالة.

ليس هذا خطأ في التطبيق بل خلل في التأسيس، لم يكن مجلس الأمن منذ ولادته مجلساً للضعفاء بل نادياً للقوة التي حولت العدالة إلى امتياز لا إلى مبدأ.

كان يفترض بهذا المجلس أن يكون الضمير الحي للعالم لا صدى لمراكز القوى. أن يكون حصناً للعدالة حين تسقط القوانين وصوتاً للمستضعفين حين تصم الدول الكبرى آذانها عن صرخاتهم. تأسس ليمنع الحروب لا ليمنحها الشرعية، ليكبح الجريمة لا ليبررها، ليحفظ الأمن لا ليعيد تعريفه وفق مصالح الأقوياء.

لكن العالم لا يدار بالمثاليات، وسرعان ما انقلب الحارس إلى شريك وتحول القاضي إلى طرف في الخصومة. لم نعد أمام مجلس أمن بل أمام مجلس مصالح. ومع كل استخدام تعسفي لحق النقض (الفيتو)، تتساقط ورقة أخرى من شجرة الشرعية الدولية. ست مرات خلال أقل من عام استخدمت فيها الولايات المتحدة الفيتو لإجهاض قراراتٍ تدعو لوقف العدوان (الإسرائيلي) على غزة، ست رصاصات سياسية أطلقت في وجه القانون الدولي، وفي وجه الأطفال تحت الأنقاض والمستشفيات المنهارة والمدن التي صارت مقابر.

فأية شرعية هذه، إذا كان العدل يعلق بإرادة دولة واحدة؟ وأي نظام دولي هذا، إذا كانت حياة الشعوب تختصر في كلمة “اعتراض” تنطق من خلف مقعد دائم في مجلس يتحدث باسم العالم؟

الخلل البنيوي في مجلس الأمن

حين يعطى خمس دول فقط حق إسقاط إرادة أممية تمثل أكثر من مئة وثمانين دولة، فإن الحديث عن “عدالة دولية” يصبح نكتة مرة. مجلس الأمن ليس مختل الوظيفة بل مختل التكوين من الأصل. الآلية التي صيغ بها عقب الحرب العالمية الثانية لم تكن تهدف إلى تحقيق العدالة، بل إلى تنظيم توازن القوى الذي نشأ بعد الحرب، وفق منطق المنتصر لا المنصف.

تتمتع الدول الخمس الدائمة العضوية (الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا) بحق النقض (الفيتو)، مما يخول أي منها أن يسقط مشروع قرار مهما حظي بالإجماع العالمي. هذه الآلية لم تصمم لتعكس الإرادة الجماعية، بل لتعطي الكبار فرصة للإفلات من المحاسبة، وتحييد أي تهديد لمصالحهم الحيوية. وهنا يكمن الجوهر (الفيتو) ليس أداة تحفظ السلام، بل أداة لتعطيل أدوات حفظ السلام.

في الحالة الفلسطينية، تكشف هذه البنية المختلة عن وجهها العاري، أكثر من 140 دولة تعترف بدولة فلسطين، وأغلب الدول الأعضاء تطالب بوقف العدوان، وتقديم المساعدات، وفتح تحقيقات، لكن كل ذلك يجهض بجرة قلم واحدة من سفيرة دولة دائمة العضوية، تعترض لا لأن الوقائع خاطئة، بل لأن القرار لا يخدم حليفها. وهكذا تتحول المنصة الأممية من ساحة تحكيم، إلى درع سياسي لحماية المعتدي.

الخلل في مجلس الأمن لا يتعلق فقط (بالفيتو)، بل بعدم تمثيله الحقيقي لتوازنات القوة في العالم الحديث. فالهند أكبر ديمقراطية في العالم، ليست عضواً دائماً. لا توجد دولة إفريقية أو عربية أو إسلامية دائمة العضوية. العالم تغير جذرياً منذ 1945، لكن تركيبة المجلس ما زالت جامدة كأنها توقفت مع أول رصاصة في الحرب الباردة.

هذا الجمود البنيوي يمنح الأفضلية للأقوياء، ويحول أي قضية عادلة إلى معركة خاسرة سلفاً إن تعارضت مع مصالحهم. فهل نحن أمام مجلس أمن دولي أم أمام مجلس أمن الأقوياء فقط؟

الفيتو الأمريكي وعرقلة القرارات

لا شيء يجسد أزمة مجلس الأمن أكثر من الأداء الأمريكي خلال الحرب (الإسرائيلية) على غزة. فمنذ اندلاع العدوان في 7 أكتوبر 2023، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ست مرات لإسقاط مشاريع قرارات تقدمت بها دول مختلفة، كان أغلبها يدعو إلى وقف إطلاق النار الإنساني، وتأمين المساعدات، ووقف استهداف المدنيين. المفارقة أن هذه المشاريع لم تكن معادية لأمريكا، ولم تتضمن إدانة صريحة لها، لكنها كانت تدين الفعل (الإسرائيلي) أو تقيده، وهذا وحده كان كافياً لإجهاضها.

حق النقض الأمريكي لم يمارس هنا كحق بل كعقيدة، عقيدة الحماية الكاملة (لإسرائيل)، دون قيد أو شرط، حتى على حساب القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة نفسها. فعندما تستخدم هذه الآلية لعرقلة جهود إنسانية بحتة لا سياسية، فإن ذلك لا يفضح فقط الانحياز الأمريكي، بل يكشف عن التحلل الأخلاقي للمجلس ككل.

تذرعت واشنطن بأن الوقت “غير مناسب” لوقف إطلاق النار، وكأنها تملك توقيتاً خاصاً لإنهاء المجازر، أو وكأن الأرواح الفلسطينية قابلة للتفاوض المؤجل. في إحدى المرات رفضت مشروعاً يقوده البرازيل بدعوى “عدم تضمينه حق (إسرائيل) في الدفاع عن النفس”، رغم أن المشروع لم ينكر ذلك، بل طالب فقط بحماية المدنيين. ما يحدث هنا ليس جدلاً دبلوماسياً، بل ممارسة سافرة لإخضاع القانون لمزاج القوة.

لقد باتت واشنطن تمارس (الفيتو) كحق “سيادي فوق أممي”، تسقط به التوافق الدولي وتحل محل المجتمع الدولي، وتصادر صوته. بل يمكن القول إن (الفيتو) بات امتداداً لطائرات الدعم العسكري، لا يقل تأثيراً عن القنابل الذكية التي تسقط على غزة، لكنه أكثر كلفة على المدى البعيد، لأنه يفرغ القانون من مضمونه، ويجعل الجرائم محصنة أممياً.

هل يمكن بعد ذلك أن يؤخذ مجلس الأمن على محمل الجد حين يتحدث عن “العدالة الدولية”، أو “المساءلة”، أو “الردع”؟ أم أننا أمام واقع تصبح فيه القوة نفسها مصدراً للشرعية، بدلاً من أن تكون خاضعة لها؟

العدالة الدولية تحت سلطة المصالح

إن العجز المتكرر لمجلس الأمن عن التحرك في وجه الكوارث الإنسانية والعدوان العسكري، ليس مجرد إخفاق بيروقراطي بل زلزال يصيب قلب النظام الدولي المعاصر. حين يشل المجلس عن اتخاذ موقف إزاء حرب مفتوحة تبث مجازرها مباشرة للعالم، ويقف عاجزاً حتى عن المطالبة بوقف إطلاق نار إنساني، فإن الرسالة التي تصل إلى الشعوب ليست فقط أن “العدالة مؤجلة” بل أنها انتقائية، ومرتبطة بموقعك في ميزان القوة لا في ميزان الحق.

أمام هذه الصورة يتآكل إيمان الدول الصغيرة والمتوسطة وحتى المجتمعات المدنية بمصداقية النظام الدولي، ما جدوى القانون إن كان يعطل عندما لا يناسب الأقوياء؟ وما جدوى المجلس إن كان لا يمثل سوى مصالح دائمة العضوية؟ هذه الأسئلة لم تعد مجرد طروحات أكاديمية، بل أصبحت وقوداً للانقسام السياسي، وتبريراً لتنامي السياسات الأحادية، وحتى نشوء نماذج موازية من التحالفات الدولية البديلة.

لم تعد روسيا أو الصين وحدهما من تتحدثان عن عالم متعدد الأقطاب، بل بدأت قوى من الجنوب العالمي، ومن أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، تنظر بعين الشك إلى حياد المنظمات الأممية. فكل قرار يسقطه (الفيتو) بدعوى “المصلحة”، هو طعنة في ظهر المبادئ التي تأسست عليها الأمم المتحدة، لا سيما مبدأ “السلم والأمن الدوليين” الذي يفترض أن مجلس الأمن خلق لضمانه.

إن أخطر ما في هذا الشلل البنيوي هو أنه يفتح الباب أمام سلوك دولي منفلت من أي قيد قانوني، فإذا كانت الدولة المعتدية محصنة بـ (الفيتو)، فسيكون العنف أداة مجدية لحسم الصراعات. وإذا كان القانون الدولي يعلق حين لا يتماشى مع مزاج القوة فستصبح “القوة” ذاتها مرجعاً نهائياً للسلوك الدولي.

بهذا الشكل لا يفقد مجلس الأمن فقط فاعليته، بل يتحول إلى شاهد زور مؤسسي على عصر تتآكل فيه مفاهيم السيادة وتضيع فيه حدود المحاسبة وتسحق فيه الشعوب بين فكي المصالح وازدواجية المعايير.

مقترحات إصلاحية لمجلس الأمن

إن المشهد الدولي اليوم لم يعد يحتمل استمرار نظام دولي يدار بذات الآليات التي صيغت منذ أكثر من ثمانين عاماً، حين كانت خرائط القوة مختلفة ومعايير الهيمنة مكرسة لصالح حفنة من المنتصرين في الحرب. ومع تفاقم الأزمات وتكرر عجز مجلس الأمن عن أداء وظائفه، لم تعد الدعوات لإصلاحه ترفاً نخبوياً أو طموحاً مثالياً بل أضحت ضرورة سياسية وأخلاقية تتطلب تحركاً عالمياً جاداً. لقد كشفت الأزمات الكبرى وآخرها العدوان على غزة، عن مدى هشاشة النظام القائم وازدواجية معاييره، ما يفرض إعادة النظر في بنيته القانونية وتمثيله السياسي لضمان استدامة الأمن الجماعي وشرعية المؤسسات الأممية.

هذه الأزمة تطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل المجلس وجدوى استمراره بالشكل الحالي. فهل يمكن أن يستمر مجلس الأمن كهيئة فعالة تحمي الأمن العالمي، أم أنه بحاجة إلى إعادة هيكلة جذرية تعكس الواقع الدولي المتغير؟ ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لإصلاحات شاملة تضع حداً لتعطيل (الفيتو)،وتوسع تمثيل المجلس، وتعزز الشفافية والمساءلة، ومن أبرز الحلول الممكنة:

  1. تقييد استخدام حق النقض (الفيتو):

حق النقض في يدي الدول الدائمة العضوية أصبح أداة لتعطيل القرارات التي قد تحمي الشعوب أو تردع الانتهاكات. يجب وضع آليات واضحة تمنع استخدام حق النقض لمنع قرارات إنسانية أو عقابية ضد انتهاكات جسيمة. بالإضافة إلى ذلك ينبغي إنشاء لجنة مستقلة دولية لمراجعة استخدام (الفيتو)، وتقديم توصيات للحد من تسييس هذا الحق، ليصبح وسيلة للحفاظ على السلام بدلاً من أداة لتجميد القرارات.

  1. توسيع العضوية الدائمة بتمثيل حقيقي:

العالم تغير بشكل جذري منذ تأسيس مجلس الأمن، ولا يعكس التوزيع الحالي للعضوية التوازن الجغرافي والسياسي اليوم. يجب ضم دول عربية كبرى، ودول إسلامية فاعلة، إضافة إلى القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، لتعزيز تمثيل قارات وشعوب تمثل غالبية سكان الأرض. هذا التوسيع لا يعزز العدالة فحسب، بل يساهم في تمثيل مصالح أوسع ويزيد من شرعية قرارات المجلس.

  1. اعتماد نظام تصويت أكثر مرونة وعدلاً:

إن الاعتماد على حق (الفيتو) لمنع قرار واحد من قبل عضو دائم يعطل عمل المجلس بأكمله. يمكن اعتماد نظام تصويت جديد يعتمد على أغلبية كبيرة (مثل 2/3 أو 3/4) لاتخاذ القرارات المصيرية، مما يمنع تعطيل المجلس بسبب مصالح ضيقة ويحمي مصالح المجتمع الدولي ككل.

  1. تعزيز الشفافية والمساءلة:

مداولات مجلس الأمن تظل غالباً مغلقة، مما يسهل التلاعب السياسي والتسييس. ضرورة فتح جلسات المجلس أو نشر تقارير مفصلة عن مداولاته واتخاذ قرارات بشفافية تامة، مع إشراك منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية ذات الصلة، بما يزيد من ضغط الرأي العام على الأعضاء ويحد من إساءة استخدام السلطة.

  1. تعزيز دور القضاء الدولي:

ربط قرارات مجلس الأمن بالتنفيذ عبر محاكم دولية مختصة، يضمن مساءلة الدول والأطراف المنتهكة للقانون الدولي، هذا الربط يرفع من وزن قرارات المجلس ويمنع الإفلات من العقاب، ويعزز من احترام النظام الدولي.

  1. إصلاح شامل لمنظومة الأمم المتحدة:

يجب أن يشمل الإصلاح تطوير كل آليات الأمم المتحدة لتعزيز دورها في الوساطة وحفظ السلام وحماية حقوق الشعوب، مع إبعادها عن الانحياز لخدمة مصالح الدول الكبرى فقط. تحويل الأمم المتحدة إلى منصة تعاون دولي حقيقي يضمن احترام السيادة الوطنية والحقوق الأساسية.

بهذه الإصلاحات يمكن لمجلس الأمن أن يستعيد مكانته كهيئة مسؤولة وفعالة تحفظ الأمن والعدالة، وتضع حداً للهيمنة والتسييس، ليتحول إلى منصة حقيقية لتحقيق السلام العالمي، تمثل فيها كل الدول والمصالح بشكل عادل.

لقد تجاوزت أزمة مجلس الأمن حدود الإخفاق العرضي إلى ما يشبه العجز البنيوي المزمن، ومادام مصير القضايا الدولية يرهن بإرادة دولة واحدة، ومادامت دماء الشعوب تحاصر بلغة الدبلوماسية المنقوصة و(الفيتو) الموجه، فإن النظام الدولي سيفقد شيئاً فشيئاً مشروعيته في عيون من يفترض أن يحميهم. لا يكفي أن ننتقد أداء المجلس بل يجب أن نعيد التفكير في موقعه من معادلة الأمن العالمي، هل هو حكم؟ أم أداة بيد الأقوياء؟

النقاش حول إصلاح مجلس الأمن لم يعد مسألة شكلية تتعلق بتوسيع العضوية أو تدوير الصلاحيات فحسب، بل هو سؤال عن جوهر العدالة الدولية في عالم يعاد تشكيله، وإذا كانت الدول الكبرى متمسكة بمكاسبها، فعلى الدول العربية والإسلامية والدول الصاعدة أن توحد موقفها، لا للمطالبة فقط بل لفرض تحول تراكمي في قواعد الاشتباك الدولي.

قد لا تكون لحظة التغيير وشيكة لكن التراكم الهادئ للمطالبة والضغط والمراجعة هو وحده القادر على تفكيك الهيمنة التي ظلت تتدثر برداء القانون. فالعالم كما يتغير جغرافياً واقتصادياً، لا بد أن يعاد تشكيله سياسياً كذلك، وإلا فإن صمت المنظمات سيتحول إلى شراكة فعلية في الجريمة.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى