ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
زعيم تركيا الشعبوي والسلطوي رجب طيب أردوغان يواجه اليوم تحديات جمة تهدد استمراريته السياسية، هذه الأزمة التي يمر بها جاءت نتيجة قراراته وتصرفاته الشخصية ففي ساعات الفجر من 19 اذار، أمر أردوغان بشنّ مداهمة على منزل أكرم إمام أوغلو عمدة إسطنبول المحبوب بمشاركة نحو 200 شرطي. يُعتبر إمام أوغلو منافساً سياسياً بارزاً ويُنظر إليه على نطاق واسع كمرشح رئاسي محتمل في المستقبل، تم اعتقاله ووجهت إليه اتهامات مثيرة للجدل تشمل مزاعم فساد وإرهاب بلا أدلة واضحة، رغم حظر التجمعات العامة أثار اعتقاله أكبر موجة احتجاجات مناهضة للحكومة تشهدها تركيا منذ أكثر من عقد وامتدت إلى معظم المحافظات، حيث شارك في بعض التظاهرات بإسطنبول أكثر من مليون شخص غالبيتهم من الشباب.
على الرغم من أن إمام أوغلو يتمتع بشعبية وكفاءة عالية تجعله منافساً قوياً فإن أزمة أردوغان لا نشأت بسبب هذا الاعتقال بحد ذاته بل تعكس ضعفاً متزايداً في موقفه السياسي، فقد بات الرأي العام يعبر عن إرهاق متزايد من حكمه إذ أن أسلوبه التسلطي وغطرسته قلّصا الدعم الذي كان يحظى به سابقاً مما دفعه إلى اتخاذ إجراءات صارمة لمحاولة احتواء حالة الاستياء المتنامية، ووفقاً لاستطلاع مركز بيو في اذار 2024، فإن 55% من البالغين في تركيا يحملون تقييمًا سلبيًا لأردوغان فيما خسر حزبه الانتخابات البلدية في ذات العام.
تميزت الاحتجاجات الأخيرة بمدى اتساعها واستمرارها إذ جمع المتظاهرون بين النشاطات في الشوارع والمقاطعات المنظمة للأعمال المرتبطة بأردوغان إلى جانب النشاط الرقمي والعصيان المدني، ولا شك أن اعتقال إمام أوغلو أضاف مزيدًا من الضغوط على الاقتصاد التركي الذي يعاني بالفعل، ورد أردوغان بتشديد القبضة حيث قام باعتقال مئات من أقارب ومؤيدي إمام أوغلو من زملاء وأصدقاء وشركاء سابقين وأفراد من مجتمع الأعمال. إلا أن هذه الإجراءات لم تعد تظهر وكأنها أفعال حازمة من قائد قوي بل تبدو وكأنها محاولات يائسة لرجل يشعر بالتهديد ويصارع من أجل الحفاظ على سلطته، ومن جهتها تستعيد المعارضة التركية حيويتها وتحت قيادة جديدة وحيوية، بدأت تستعيد المبادرة وتنظم تظاهرات في معاقل حزب أردوغان.
رغم بقاء إمام أوغلو في السجن فإن أردوغان هو المحاصر الآن، أكبر تحدٍ يواجهه يتمثل في تمديد فترة حكمه حيث يقتصر دستورياً على ولايتين وتنتهي ولايته الحالية في 2028، إلا أن تراجع شعبيته العميق يعيق قدرته على تعديل الدستور أو فرض انتخابات مبكرة، من المرجح أن أردوغان لن يكون رئيس تركيا بعد أربع سنوات. إن الجرأة التي أظهرها الشباب الأتراك في التعبير عن رفضهم له تعكس حقيقة فقدانه الدعم الشعبي الذي كان يُعتقد أنه مطلق، كان يوماً ما رمزاً ثابتاً في السياسة التركية لكن الآن باتت أخطاؤه الشخصية نقطة تحوّل أدت إلى تراجع مكانته، وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه إذا أُجريت الانتخابات فمن غير المرجح أن يحقق الفوز. وبغض النظر عنما ستؤول إليه الأمور، سيُذكر إرث أردوغان بقراره السريع باعتقال خصمه الأبرز، كدليل على أن حتى أقوى القادة السلطويين قد يخطئون في حساباتهم ويضعون أنفسهم في مواقف صعبة.
تصعيد القبضة الأمنية
لم يكن أكرم إمام أوغلو أول منافس سياسي بارز يسجن على يد أردوغان، فقد بقي صلاح الدين ديميرتاش زعيم المعارضة الكردية المعروف محبوسًا منذ عام 2016، بعدما صدر بحقه حكم بالسجن لمدة 42 عامًا بتهمة “تقويض وحدة الدولة” بالإضافة إلى ثلاث سنوات إضافية بتهمة “إهانة أردوغان”، وكانت جريمته الحقيقية الوحيدة تكمن في شعبيته الكبيرة بين الأكراد مما شكّل تهديدًا لطموحات أردوغان في إعادة تشكيل المشهد السياسي التركي.
ومع ذلك حتى ظهور إمام أوغلو استطاع أردوغان تحويل موجات المعارضة العامة وظهور المنافسين إلى مبررات لتعزيز قبضته على السلطة، فقد وعد عند توليه السلطة في عام 2003 بتعزيز الديمقراطية في بلد كانت فيه المؤسسة العسكرية التي لها تاريخ طويل في التدخل السياسي ذات تأثير قوي، ولكن بمجرد تهميش الجيش التركي لم يعد هناك عائق أمام أردوغان لتركيز السلطة في يده. تدريجيًا تحولت رؤيته الإصلاحية إلى نظام سلطوي يسيطر فيه على كافة مناحي الحكومة والمجتمع، وكحال كثير من القادة الاستبداديين استثمر أردوغان عنصر المفاجأة وعدم التوقع ليحافظ على قدرة التلاعب بالمؤسسات والدولة، ودعم الانتخابات المحلية شبه الحرة عندما تخدم مصالحه وتجاهل نتائجها حين تعارضه.
في عام 2013، اندلعت احتجاجات واسعة على خطة حكومية لهدم حديقة “غزي” في إسطنبول إحدى آخر المساحات الخضراء المتبقية في المدينة، خشية من تحول تلك الاحتجاجات إلى حركة شبيهة بالربيع العربي قمع أردوغان هذه التظاهرات بحزم، واستغل اتهامات غالبًا ما ثبت زيفها ضد المشاركين في الاحتجاجات لاستهداف خصوم حقيقيين ومتخيلين مثل ناشط المجتمع المدني عثمان كافالا الذي حكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة تنظيم وتمويل هذه التظاهرات. وحتى بعد مرور أكثر من عقد لا يزال أردوغان يستخدم هذه الاحتجاجات كذريعة لقمع المعارضة، ففي كانون الثاني مثلاً تم اعتقال مالكة وكالة مواهب عائشة باري بتهمة التخطيط للإطاحة بالحكومة خلال التظاهرات، على الرغم من اعتقاد البعض أن الاعتقال كان لأسباب أخرى.
وفي عام 2016، أتاح الانقلاب العسكري الفاشل فرصة لأردوغان لفرض حالة الطوارئ التي منحته صلاحيات استثنائية تجاوزت البرلمان والمحاكم مما مكنه من تطهير الأجهزة الحكومية إذ تم فصل أكثر من 125,000 موظف مدني وعسكري وقضاة ومدعين عامين مشتبه في ولائهم المعارض، وتمت هذه الإقالات بسرعة كبيرة مما يشير إلى أن أردوغان كان يملك قوائم بأعدائه معدة مسبقًا، وفي ظل موجة التأييد التي تلت الانقلاب الفاشل أجري في 2017 استفتاء دستوري حوّل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مركزي قضى فعليًا على مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون وحول البرلمان إلى هيئة تصديق.
عمدت حكومة أردوغان إلى إقالة واستبدال العديد من العمد المنتخبين خاصة في المدن ذات الغالبية الكردية، كما تجاهل أحكام المحكمة الدستورية المؤسسة الوحيدة التي تحافظ على بعض استقلاليتها عن السلطة التنفيذية، ورغم صورة القائد الكلي القدرة التي يحاول إبرازها إلا أن أردوغان حساس للغاية. حيث اكتظت السجون التركية بالسياسيين والصحفيين والأكاديميين والمواطنين الذين اعتُبر كلامهم أو أفعالهم مسيئة أو معارضة، وغالبًا ما يُحتجز هؤلاء لأشهر بانتظار المحاكمة بتهم قد تبدو تافهة مثل منشور قديم على وسائل التواصل الاجتماعي اعتُبر إهانة للرئيس، ففي الفترة بين 2014 و2020 حققت الحكومة مع نحو 160,000 تركي بتهمة إهانة الرئيس، ورفعت قضايا ضد 35,000 منهم.
الإهانة التي تزيد الجرح عمقًا
رغم ما بدا من نجاح أردوغان في ترسيخ سلطته وتقويض المعارضة فإن هذا النجاح أخفى هشاشة متزايدة في حكمه، لم يكن اعتقال إمام أوغلو المؤشر الأول على تراجع إدارة البلاد إذ سبق ذلك انتقادات صادرة عن الرئيس ورئيس مجلس إدارة جمعية الصناعة والأعمال التركية لما وصفوه بسياسات الدولة التركية التي تتخذ إجراءات مصادرة أصول شركات وأفراد متهمين جنائيًا قبل صدور حكم قضائي نهائي بحقهم، وكان رد أردوغان سريعًا وحازمًا إذ شرع في فتح تحقيقات جنائية بحق قادة الجمعية متهمًا إياهم ب”الإدلاء بتصريحات مبنية على معلومات ناقصة ونشر معلومات مضللة”.
وبحلول اذار حين تم اعتقال إمام أوغلو بات يشكل تهديدًا سياسيًا واضحًا وربما وجوديًا لأردوغان، فقد صعد إمام أوغلو في مسار يعكس تجربة أردوغان ذاته إلى الواجهة السياسية كعمدة كفؤ وشعبي لمدينة إسطنبول أكبر مدن تركيا وحقق فوزًا انتخابيًا في 2019 رغم محاولات أردوغان إلغاء فوزه وإعادة الانتخابات، ومن خلال تركيزه على تقديم الخدمات بكفاءة واعتماده أسلوبًا تواصليًا ودودًا مع الناخبين وتقديم نفسه كبديل ديمقراطي لنمط الحكم السلطوي المتزايد لأردوغان نجح إمام أوغلو في بناء صورة وطنية جاذبة وأضحى أول منافس سياسي جاد منذ سنوات يهدد هيمنة أردوغان على السلطة، لقد تحدى أردوغان بصورة مباشرة ورسخ بذلك خطابًا وجد صدى واسعًا بين مختلف فئات الشعب التركي، وبصفته عمدة ذو سجل عملي مميز تميز ضمن صفوف المعارضة التي طالما عانت من صعوبة بناء قيادات ملهمة أو استراتيجيات ناجحة.
في عام 2022 حوكم إمام أوغلو بتهمة إهانة أعضاء مجلس الانتخابات الوطني وحُكم عليه بالسجن مع منع من المشاركة السياسية، تزامنت هذه الإجراءات مع حملات تشويه ممنهجة منظمة نفذتها وسائل الإعلام الموالية للحكومة، غير أن شعبية إمام أوغلو استمرت في التنامي رغم كل محاولات أردوغان، وقد قدم إمام أوغلو استئنافًا على الحكم مما أدى إلى تعليق التنفيذ حتى الفصل في الطعن.
في أعقاب ذلك بدأ أردوغان في استخدام كل الوسائل المتاحة ففي اليوم السابق لاعتقال إمام أوغلو ألغت جامعة إسطنبول بشكل تعسفي شهادة البكالوريوس التي حصل عليها منذ أكثر من ثلاثين عامًا بحجة ثغرة تقنية وهو إجراء استهدف سد الطريق أمام ترشحه المستقبلي للرئاسة وفقًا للدستور الذي يشترط الحصول على شهادة جامعية، جاء اعتقال إمام أوغلو قبل أيام قليلة من الانتخابات التمهيدية الحزبية لرئاسة الجمهورية التي لا تشهدها عادة الأحزاب التركية وكان إمام أوغلو المرشح الوحيد في حزبه، وكان أردوغان يدرك جيدًا أن اختيار إمام أوغلو في هذه الانتخابات سيمكّنه من الوصول إلى موقع مساوٍ له حتى الانتخابات العامة المقبلة التي قد لا تُعقد قبل عام 2028.
يريد أردوغان تخطي هذه الأزمة باستخدام القوة الغاشمة كما فعل خلال احتجاجات حديقة غزي عام 2013، لكن تجاوزاته هذه أدت إلى توحيد المعارضة التركية وتحفيزها بشكل لم يكن مقصودًا، ولم تعد محاولات تصنيف الاحتجاجات والمقاطعات الاقتصادية كأعمال إرهابية أو خيانة أو حظر المظاهرات فعالة كما كان سابقًا لأن المعارضة تمتلك الآن قائدًا ذا جاذبية في شخص إمام أوغلو وفكرة موحدة تدعو إلى منح تركيا فرصة لإقامة نظام ديمقراطي. وبعد سنوات من الإخفاقات بدأت المعارضة تعيد هيكلة نفسها بشكل أكثر تنظيمًا وابتكارًا تحت قيادة جديدة، ففي ظل موجة الاحتجاجات الوطنية بعد اعتقال إمام أوغلو دعت المعارضة كافة المواطنين للمشاركة في الانتخابات التمهيدية الرئاسية التي جرت في 23 اذار كدليل على دعمهم له، ووقف أكثر من 15 مليون تركي لساعات طويلة في طوابير التصويت لمرشح محتجز في السجن ليؤكدوا بذلك رفضهم للسلطة.
وقد منح قمع أردوغان لإمام أوغلو الأخير صفة القائد الأوحد للمعارضة ومن داخل سجنه حافظ إمام أوغلو على تواصله مع الجماهير مما يعكس فقدان أردوغان السيطرة، وأظهر استطلاع حديث أجرته مؤسسة كوندا التركية أن 67% من المشاركين يرون أن إعادة انتخاب أردوغان ستكون ضارة للبلاد مقارنة بـ49% في استطلاع العام السابق، كما كشف الاستطلاع أن أكثر من 60% من الأتراك لا يصدقون التهم الموجهة لإمام أوغلو، وكلما طال أمد سجنه تعاظمت مكانته ولا يستبعد أن تُجرى مقارنات بينه وبين زعماء تاريخيين مثل رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم أو الكاتب التشيكي فاكلاف هافل.
مأزق مزدوج
يعكس السلوك الأخير للرئيس أردوغان تحول النظام التركي إلى نموذج نموذجي للدولة السلطوية التي تستخدم الانتخابات كآلية لتعزيز قبضتها على السلطة دون أن تمثل خيارًا حقيقيًا للتداول الديمقراطي، وفي الوقت ذاته يبدو أن أردوغان فقد الثقة في مكانته السياسية والدعم القاعدي الذي كان يعتمد عليه سابقًا، الجهد الكبير والوقت الذي كرّسه أردوغان للدفاع عن القضية الجنائية الموجهة ضد إمام أوغلو يعكس مستوى عالٍ من الإحباط والقلق المتزايد، فقد تميزت الاعتقالات السياسية السابقة بدوافع الانتقام في حين أن توقيف إمام أوغلو ينبع بوضوح من دوافع خوفية، ومن المفارقات أن اضطهاد أردوغان لإمام أوغلو يشابه تجربته الشخصية حين تعرض للسجن ظلمًا خلال فترة توليه رئاسة بلدية إسطنبول وهو الحدث الذي ساهم في تعزيز سمعته الوطنية وضمان مستقبله السياسي.
أثرت عمليات اعتقال عمدة إسطنبول ومسؤولين آخرين ومصادرة أصول شركات على ثقة الأسواق المالية التركية وأضرت بشكل مباشر بالجهود المستمرة منذ عامين لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحسين ميزان المدفوعات وتقليل معدلات التضخم، وتعتمد هذه الجهود بشكل جوهري على جذب الاستثمارات الأجنبية إلا أن الإجراءات التي اتخذها أردوغان والتي تستهدف تقويض حكم القانون تشكل عائقًا أمام تحقيق هذا الهدف، بعد يومين فقط من اعتقال إمام أوغلو سجلت الليرة التركية أدنى مستوى تاريخي لها واضطر البنك المركزي إلى استنزاف احتياطيات بقيمة 46 مليار دولار لمواجهة تدهور إضافي كما تم تفعيل آليات الحماية السوقية عدة مرات لاحتواء الانهيار في سوق الأسهم.
قد يعتبر أردوغان محظوظًا بوجود دونالد ترامب في البيت الأبيض الذي أبدى له دعمًا علنيًا وأعلن سياسة أمريكية أكثر تساهلًا تجاهه على عكس إدارة بايدن التي اتسمت بالبرود والتجنب، ورغم الصمت الأمريكي الرسمي إزاء اعتقال إمام أوغلو قد تترتب على هذه العلاقة بعض التحديات، إذ كان أردوغان يعتمد سابقًا على تصوير الولايات المتحدة كعدو لتركيا لتدعيم قاعدته الشعبية وتبرير إخفاقاته والآن لن يتمكن من تحميل المسؤولية عليها.
في ذات الوقت يمكن أن يشكل ما قد يكون بداية عملية سلام مع الأقلية الكردية إضافة إلى أزمة إمام أوغلو عاملين مؤثرين في تقويض سيطرة أردوغان على السلطة، ففي تشرين الاول 2024 قام حليف أردوغان في الائتلاف ديفلت باهتشلي المعروف بتوجهاته القومية المتشددة ببدء حوار مع حزب سياسي يمثل مناطق ذات أغلبية كردية داخل البرلمان وكذلك مع عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل الذي تصنفه تركيا كمنظمة إرهابية، وفي أيار أعلن حزب العمال رسميًا إنهاء كفاحه المسلح الذي دام أربعين عامًا وبدأ تفكيك هيكليته التنظيمية، ورغم أن أردوغان سمح بإجراء هذه المحادثات إلا أنه بدا غير متحمس للعملية أو لنتائجها معتمداً خطابًا أمنيًا صارمًا وتجنّب مناقشة خارطة طريق واضحة.
أدرك القادة الأكراد أن الكفاح المسلح وصل إلى حدود فعاليته فاختزلوا مطالبهم في مطلب استراتيجي مركّز “الشروع في عملية ديمقراطية شاملة” فهموا أن إقامة دولة ديمقراطية تحكمها سيادة القانون مع فصل حقيقي للسلطات ستكون أكثر قدرة على معالجة التحديات التي تواجه تركيا بما في ذلك الاعتراف بحقوق اللغات، وهنا يواجه أردوغان مأزقًا جوهريًا إذ أن الإصلاحات والتنازلات التي تستوجبها هذه العملية الديمقراطية تعني تفكيك النظام السلطوي الذي بنى هيكله بعناية فائقة، ويُظهر تمسكه بإبقاء إمام أوغلو وحلفائه في السجن رغبته في تجنب هذا التحول، بيد أنه إن أوقف مسار السلام فسيخاطر بفقدان دعم باهتشلي الذي يمثل ركيزة أساسية في الائتلاف الحاكم ويسعى في سنه السبعين إلى ترسيخ إرث سياسي عبر اتفاق سلام تاريخي.
للبقاء في السلطة يحتاج أردوغان إلى تعديل الدستور أو في السيناريو المرجح إلى دفع البرلمان للدعوة إلى انتخابات مبكرة تسمح له بالترشح مجددًا، غير أن التغيرات الملموسة في المزاج الشعبي تجعل من الفوز في مثل هذه الانتخابات أمرًا غير مضمون، ومع تزايد عزله السياسي وحشده حوله أتباعًا متملقين من المرجح أن يواصل أسلوبه القائم على استخدام السلطة القمعية للدولة كرد فعل آلي على أي تحدٍ، إلا أن هناك حدودًا لعدد القرارات التعسفية من حظر واعتقالات وإقالات لمسؤولين منتخبين يمكنه اتخاذها قبل أن تتحول تركيا فعليًا إلى نظام الحزب الواحد.
الحقيقة أن أردوغان الذي لطالما أُعتبر زعيمًا لا يُقهَر قد نفدت أمامه خيارات المناورة، واختيار توقيت وطريقة خروجه قد يسهمان في تسهيل انتقال سلمي إلى قيادة جديدة وضمان الاستقرار الداخلي في تركيا، لا يزال بإمكانه تشكيل إرثه السياسي غير أن شخصيته تشير إلى أن احتمالية اتخاذه لهذا المسار ضئيلة، وإذا استمر في نهجه الحالي فهناك خطر كبير أن تتجه الجماهير التركية ضده بصورة حاسمة وأن يُختزل إرث حكمه الطويل والمعقد في عهد استبداد سلطوي.
* Henri J. Barkey, The End of Erdogan How the Turkish Leader Has Engineered His Own Undoing, FOREIGN AFFARRS, May 29, 2025.