هل يوشك الردع الموسع في آسيا على الانهيار؟ كيف تعمل الصين على تقويض ضمانات الأمن الأمريكية لحلفائها تدريجياً*
بقلم: ديفيد سانتورو
ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
على مدار أكثر من خمس سنوات شهدت مياه بحر جنوب الصين حوادث متكررة بين السفن الصينية والفلبينية حيث تعرضت السفن الفلبينية أحيانًا لهجمات بمضخات المياه وأصيب أفراد طواقمها، ردًا على هذه التصرفات، قامت الولايات المتحدة العام الماضي بنشر نظام صواريخ متوسط المدى من طراز “تايفون” في الفلبين، وهو ما مثل أول مرة منذ نهاية الحرب الباردة تُزوّد فيها الولايات المتحدة حليفًا بسلاح من هذا الحجم، ما أثار ردود فعل دبلوماسية حادة. وأكدت وزارة الخارجية الصينية أن هذا الإجراء “يهدد السلام والاستقرار الإقليمي، ويقوض المصالح الأمنية المشروعة للدول الأخرى، ويتعارض مع تطلعات الشعوب إلى السلام والتنمية”، وأضافت الوزارة أن الصين “لن تبقى مكتوفة الأيدي” إذا رفضت الفلبين إزالة النظام.
تشكل هذه التصرفات والتهديدات جزءًا من استراتيجية أوسع تسعى بكين من خلالها لمواجهة سياسة “الردع الموسع” التي تتبعها الولايات المتحدة، والتي تلتزم فيها واشنطن بالدفاع عن حلفائها ضد أي عدوان، بما في ذلك احتمال استخدام الأسلحة النووية الأمريكية في حالات معينة. لطالما انتقدت الصين هذه السياسة معتبرة أنها أداة تسعى من خلالها الولايات المتحدة لتعزيز مصالحها على حساب الصين ومع تصاعد التوترات كثفت بكين جهودها لتقويض هذه السياسة من خلال تصوير الولايات المتحدة كعامل زعزعة للاستقرار الإقليمي، ومحاولات التأثير على حلفاء واشنطن عبر الحوافز الاقتصادية والعقوبات فضلاً عن تصعيد العمليات العسكرية الاستفزازية، تهدف هذه الخطوات إلى تقويض مصداقية الردع الأمريكي الموسع الذي يقوم أساسًا على ثقة الحلفاء بواشنطن وإيمانهم بقدراتها.
في ظل هذه التطورات ينبغي على إدارة ترامب إعطاء أولوية قصوى للحفاظ على سياسة الردع الموسع في منطقة الهندو – باسيفيك، ويستلزم ذلك التصدي للخطاب الصيني في المحافل الدبلوماسية ومواجهة تكتيكات “المناطق الرمادية” التي تستخدمها الصين وتعزيز التعاون العسكري مع الحلفاء الإقليميين، وفي حال تقاعست واشنطن عن ذلك فسيُفقد تأثيرها ونفوذها في المنطقة بشكل سريع.
وجهة النظر من بكين
يرى القادة الصينيون أن سياسة الردع الموسع التي تتبعها الولايات المتحدة ليست استراتيجية دفاعية بل جزء من جهد أوسع تهدف من خلاله واشنطن إلى احتواء صعود الصين وحتى تقويضه، وترفض بكين الفكرة القائلة بأن الردع الموسع قائم لأن حلفاء الولايات المتحدة يرغبون فيه، إذ تعتبره فرضًا على دول مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها، والتي تراها الصين جزءًا من مجال نفوذها الشرعي.
من جانبها طالما جادلت السلطات الأمريكية بأن الردع الموسع يساهم في كبح انتشار الأسلحة النووية، إذ إن الحلفاء المحتمين تحت مظلة الأسلحة النووية الأمريكية لا يرون ضرورة لتطوير ترساناتهم الخاصة، لكن هذا المنطق لا يلقى قبولًا في بكين. كما يشير غُو شياوبينغ الباحث في معاهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة إلى أن مفهوم “الردع الموسع” بحد ذاته يسهم بشكل كبير في انتشار الأسلحة النووية، لأنه يؤدي إلى “انتشار الأسلحة النووية جغرافيًا”. ويعبر بيان وزارة الخارجية الصينية عن هذا الموقف، متهمًا الولايات المتحدة بـ”ازدواجية المعايير” في ملف منع الانتشار النووي، إذ تضغط بأقصى قوة على ما تسميهم “الخصوم الجيوسياسيين” لكنها في الوقت ذاته تعزز ترتيبات المشاركة النووية والردع الموسع مع حلفائها.
في المحافل الدبلوماسية تسعى بكين باستمرار إلى تقويض الردع الموسع الأمريكي من خلال تصوير الولايات المتحدة كقوة مهددة للاستقرار الإقليمي، ففي خطاب ألقاه الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2014، عبر عن استيائه من دور واشنطن كضامن أمني في المنطقة قائلاً “شؤون آسيا يجب أن تُدار من قبل شعوب آسيا، وحل مشاكل آسيا من قبل شعوب آسيا، والحفاظ على أمن آسيا من قبل شعوب آسيا”، مؤكدًا على قدرة وحكمة شعوب المنطقة في تحقيق السلام والاستقرار من خلال التعاون المتزايد.
علاوة على ذلك هاجمت بكين الردع الموسع بشكل مباشر حيث دعت العام الماضي جميع أطراف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إلى تبني سياسة عدم الاستخدام الأول للأسلحة النووية، مستغلة هذا المطلب لمهاجمة الردع الموسع معتبرة إياه تهديدًا للسلام ومسببًا لانتشار الأسلحة النووية، ومعوقًا لإنشاء مناطق خالية من الأسلحة النووية. وفق هذا المنظور لا مكان للتحالفات الأمريكية في المنطقة وإذا لم تحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري كبير في منطقة الهندو -باسيفيك لكانت الأزمات أقل حدة وأسهل في الإدارة، ولذلك ترى بكين أن أفضل طريقة لمنع الأزمات وتخفيفها هي انسحاب القوات الأمريكية أو الحد الكبير من استخدامها.
إلى جانب تحدي التحالفات الأمريكية وسياسة الردع الموسع في المحافل الدبلوماسية تلجأ بكين إلى استخدام أدوات اقتصادية بهدف تقليل دور واشنطن الإقليمي مستعينة بالحوافز والعقوبات معًا، فعلى سبيل المثال قبل أن تبدأ في مضايقة السفن الفلبينية في البحر، حاولت بكين دون جدوى منع تعميق التعاون العسكري بين الفلبين والولايات المتحدة عبر تقديم مشاريع بنى تحتية ضخمة وحوافز اقتصادية ضمن مبادرة الحزام والطريق.
وفي 2016، بعد نشر الولايات المتحدة نظام الدفاع الصاروخي عالي الارتفاع (THAAD) في كوريا الجنوبية فرضت بكين حظرًا على السياحة الجماعية الصينية إلى كوريا الجنوبية، ومنعت مشاهير كوريين من الظهور على التلفزيون الصيني وفرضت قيودًا على الشركات الكورية في الصين، واستبعدت كوريا من عدد من المبادرات الدبلوماسية والثقافية التي تقودها الصين، وبالمثل عقب تعزيز أستراليا علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة في أواخر العقد الماضي فرضت بكين قيودًا على صادرات أستراليا.
أما على الصعيد العسكري فقد تصاعدت استجابات بكين لسياسة الردع الموسع الأمريكي بشكل ملحوظ، في السنوات الأخيرة كثفت الصين من استخدام تكتيكات “المناطق الرمادية” ضد حلفاء الولايات المتحدة لا سيما في المجالات البحرية والإلكترونية حيث لا توجد خطوط حمراء واضحة تبرر ردًا عسكريًا أمريكيًا، كما عملت على عسكرة بحر الصين الجنوبي من خلال نشر خفر السواحل والميليشيات البحرية الصينية لمضايقة سفن الحلفاء، بالإضافة إلى ذلك شنت عمليات تأثير وحملات سيبرانية ضد تايوان وحلفاء آخرين للولايات المتحدة واستهدفت مجموعات هاكر صينية البنية التحتية الحيوية الأمريكية لتظهر قدرة بكين على تعطيل الخدمات الأساسية وردع تدخل واشنطن في النزاعات الإقليمية.
ولسنوات قامت الصين بدوريات ومناورات عسكرية في المياه المتنازع عليها وزادت من حجم ونطاق هذه المناورات بشكل كبير، فقد وصف الأدميرال صامويل بابارو قائد القيادة الأمريكية في الهندو -باسيفيك هذه التدريبات بأنها “بروفات” تحاكي هجمات محتملة على حلفاء الولايات المتحدة مثل غزو تايوان، ففي عامي 2024 و 2025 نفذت الصين تدريبات واسعة النطاق (السيف المشترك 2024A و 2024 B) شاركت فيها القوات البحرية والجوية وقوات الصواريخ وخفر السواحل حول تايوان، وفي وقت سابق من هذا العام كثفت بكين من التوغلات العسكرية في المجال الجوي والمائي لتايوان.
أخيرًا تعمل بكين على تعزيز قدراتها العسكرية لضمان القدرة على اتخاذ إجراءات سريعة، مثل السيطرة على الأراضي القريبة منها، وجعل تدخل الولايات المتحدة مكلفًا للغاية. ففي المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الاول 2017، أعلن شي جين بينغ التزام الصين ببناء “قوات عسكرية من الطراز العالمي” بحلول عام 2049، ومنذ ذلك الحين استثمرت بكين بشكل كبير في الأسلحة التقليدية والنووية. ووفقًا لوزارة الدفاع الأمريكية تمتلك الصين أكثر برامج تطوير الصواريخ الباليستية نشاطًا وتنوعًا في العالم كما تسعى إلى تعزيز ترسانتها النووية، بالإضافة إلى ذلك تعزز الصين قدراتها في الفضاء السيبراني والفضاء الخارجي والحرب الإلكترونية، تأتي هذه الإجراءات مجتمعةً بهدف دفع الولايات المتحدة إلى التردد في اتخاذ إجراءات في حال حدوث طارئ وزرع الشكوك في أذهان حلفاء واشنطن بشأن التزامها الفعلي بعهود الدفاع.
الولايات المتحدة وهم
لا تُعَدّ الصين الوحيدة التي تسعى للتصدي لسياسة الردع الموسع الأمريكية إذ لطالما انتقدت روسيا هذه الاستراتيجية وفي الآونة الأخيرة توحدت الدولتان في جهود مشتركة لمواجهتها، ففي قمة عقدت في بكين أوائل عام 2022، قبل أسابيع قليلة من بدء روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا أعلن الرئيسان شي جين بينغ وفلاديمير بوتين عن “صداقة بلا حدود”. ومن هذا المنطلق تروّج بكين وموسكو لـ”الاستقرار الاستراتيجي العالمي” داعيتين إلى عالم متعدد الأقطاب وموجّهتين انتقادات حادة للولايات المتحدة بسبب سعيها إلى “الأمن المطلق”، كما انتقدتا تحالف أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (AUKUS) بوصفه أحد أحدث المحاولات لتسليح منطقة الهندو – باسيفيك معربتين عن قلقهما من خطط واشنطن لنشر مزيد من الصواريخ متوسطة المدى في مناطقهما.
على الصعيد العسكري تعزز بكين وموسكو تعاونهما من خلال تنفيذ العديد من التدريبات العسكرية المشتركة ودوريات جوية وبحرية في مناطق الهندو – باسيفيك والأطلسي الأوروبي، بما في ذلك بالقرب من أراضي حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان والدول الإسكندنافية، وعلاوة على ذلك كشفت تحقيقات لوكالة رويترز عام 2024 عن وجود برنامج سري أسسته موسكو في الصين لتطوير طائرات مسيرة هجومية بعيدة المدى، كما تقدم روسيا المساعدة لبكين في تطوير نظام إنذار مبكر للصواريخ.
منذ أوائل القرن الحالي اتخذت الإدارات الأمريكية المتعاقبة خطوات مهمة للتكيف مع النهج المتطور للصين، فقد عملت إدارة بايدن على تعزيز التحالفات الإقليمية وكان لدورها الريادي في شراكة أيوكوس الأمنية أثر في تعزيز الاستقرار الإقليمي، كما يبدو أن إدارة ترامب ملتزمة بمواصلة هذا المسار وتعزيز الدفاع والردع الإقليميين، ولكي تكون هذه الجهود فعالة ينبغي اتخاذ خطوات إضافية على عدة جبهات.
في المحافل الدبلوماسية يجب على واشنطن تكثيف جهودها لمواجهة الخطاب الصيني الذي يصور الولايات المتحدة كقوة مهددة للاستقرار الإقليمي بل وتهديدًا وجوديًا للصين، ففي حوار شانغري – لا الدفاعي لعام 2022 وصف وزير الدفاع الصيني آنذاك وي فنغه الولايات المتحدة بأنها “بلطجية” واتهم واشنطن بـ”التدخل” في النزاعات الإقليمية قائلًا “يحاول بعض الأمريكيين قمع الصين على جميع الجبهات”، ولإعادة ضبط السرد يتعين على المسؤولين الأمريكيين توضيح أهداف الردع الموسع وتبادل الأسلحة النووية مع الحلفاء بالإضافة إلى تسليط الضوء على الإجراءات العدوانية المتزايدة التي تتخذها بكين ضد حلفاء الولايات المتحدة، إلى جانب تصاعد الترسانة النووية الصينية.
كما ينبغي على الولايات المتحدة تكثيف جهودها لمواجهة التكتيكات الصينية في “المناطق الرمادية”، فقد عززت واشنطن وحلفاؤها في السنوات الأخيرة التعاون الاستخباراتي وواجهوا حملات التضليل والهجمات السيبرانية، ويجب توسيع التنسيق السياسي والعملياتي لتعزيز القدرة على الصمود في المناطق الضعيفة مثل جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، وفي مواجهة الحملات التضليلية يجب على واشنطن وحلفائها دمج أدواتهم الاقتصادية مثل ضوابط التصدير والعقوبات بشكل أفضل، لأن غياب عواقب صارمة سيشجع بكين على مواصلة وتصعيد سلوكها القسري.
من الضروري كذلك أن تطور الولايات المتحدة وحلفاؤها مفاهيم وقدرات عسكرية تمكنهم من الرد بسرعة وفعالية على أي اعتداء، بمعنى آخر يجب بذل كل جهد ممكن لمنع سيطرة الصين على أراضٍ جديدة والاستعداد للقتال والفوز في نزاع مع بكين إذا لزم الأمر رغم الظل النووي المتزايد للصين في المنطقة، كما ينبغي التفكير في كيفية توظيف القوة العسكرية المشتركة بما في ذلك الأسلحة النووية بأفضل شكل ممكن في مواجهة الصين.
أخيرًا يجب على واشنطن وحلفائها توقع تعميق العلاقات الأمنية بين بكين وموسكو في السنوات المقبلة، فالعلاقة بين الصين وروسيا تحمل تداعيات كبيرة لكل من منطقتي الهندو – باسيفيك والأطلسي الأوروبي، ومع تصاعد تعاونهما الدفاعي يتوجب على الولايات المتحدة وحلفائها في تلك المناطق تعزيز تعاونهم الأمني بالمثل، وإلا فقد يهدد ذلك استمرار الردع الموسع الأمريكي مع تداعيات واسعة النطاق على القوة والنفوذ الأمريكي.
* David Santoro, The End of Extended Deterrence in Asia? China Is Chipping Away at America’s Security Guarantees to Its Allies, FOREIGN AFFAIRS, May 22, 2025.