الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول

قراءة تحليلية في الأسباب والدلالات

المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول: قراءة تحليلية في الأسباب والدلالات

 بقلم: حنين محمد الوحيلي / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 بعد ثلاث سنوات من القتال المستمر والخسائر المتراكمة، جمعت إسطنبول الروس والأوكرانيين مجدداً في جولة مفاوضات مباشرة شكلت لحظة فارقة، لا من حيث نتائجها المحدودة، بل من حيث ما كشفت عنه من تحولات في أولويات الطرفين وحدود قدرتيهما على الاستمرار في الحرب بشروطها الحالية. لم تأتِ هذه المفاوضات من فراغ، بل جاءت على وقع تغيرات ميدانية وضغوط اقتصادية وتفاهمات دولية متبدلة، جعلت خيار الحوار وإن كان شكلياً، أداة ضرورية لكلا الجانبين، كل بحسب أهدافه.

في هذا السياق، لا يمكن قراءة هذه الجولة باعتبارها مؤشراً حتمياً نحو التسوية، كما لا يصح إغفال ما تحمله من إشارات على إرهاق متبادل أو تغير في قواعد الاشتباك. فبين واقعية الطرح الروسي ومحدودية الطموح الأوكراني، تبرز نقاط تقاطع وصدام يصعب حسمها بسرعة، لكنها تعكس جواً دولياً بات أكثر انفتاحاً على مقاربة سياسية للصراع.

أولاً: دوافع قبول الطرفين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات

  1. روسيا: رغم التقدم العسكري الروسي النسبي في بعض الجبهات، إلا أن موسكو تدرك أن النصر الكامل أصبح أمراً معقداً ومكلفاً أكثر من أي وقت مضى. العقوبات الاقتصادية بدأت تؤثر على المدى المتوسط، والقدرة على تجنيد الاحتياط وإبقاء الجبهة الداخلية مستقرة ليست بلا حدود. لذا، قد ترى القيادة الروسية أن فتح قناة تفاوضية يمنحها فرصة لانتزاع اعتراف سياسي بما حققته ميدانياً، خصوصاً في المناطق الأربع التي ضمتها، من دون اضطرار لتصعيد عسكري واسع قد يقابل بدعم غربي نوعي لكييف.

  2. أوكرانيا: في المقابل، لم يعد لدى كييف نفس الزخم الدولي الذي كانت تحظى به في بداية الحرب. الكونغرس الأمريكي تباطأ في تمرير المساعدات، والدعم الأوروبي أصبح أكثر ارتباطاً بالحسابات الداخلية للدول الكبرى. ومع تصاعد الضربات الروسية للبنية التحتية والطاقة، تواجه الحكومة الأوكرانية تحديات اقتصادية واجتماعية متزايدة، تجعل من المفاوضات وسيلة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق.

ثانياً: مخرجات المفاوضات ودلالاتها السياسية

رغم أن الجولة التي جرت في إسطنبول لم تفض إلى نتائج حاسمة على صعيد وقف إطلاق النار أو معالجة الملفات الجوهرية (كالوضع في دونباس أو شبه جزيرة القرم)، إلا أنها أسفرت عن تقدم في ملفات ثانوية، أبرزها تبادل الأسرى، إلى جانب تفاهمات مبدئية حول استمرار قنوات الاتصال. وبقدر ما تبدو هذه النتائج متواضعة، إلا أنها تحمل دلالات لا يستهان بها في السياق السياسي والعسكري الأوسع.

  1. 1. تبادل الأسرى: نجحت الوساطة التركية في دفع الطرفين للاتفاق على عملية تبادل أسرى شملت اعداد كبيرة من الجنود، وهو تطور مهم لأسباب عدة. منها أنه يشير إلى وجود حد أدنى من التواصل الفعال بين الطرفين رغم التصعيد الميداني. وأيضاً أنه يمثل استجابة لحاجة إنسانية ملحة تعكس ضغطاً شعبياً على الحكومتين. فضلاً عن أنهُ يستخدم في العادة كبادرة “حُسن نية” لتهيئة الأجواء نحو تفاهمات أوسع لاحقاً.

لكن في الوقت ذاته، من الخطأ المبالغة في تأويل هذه الخطوة على أنها مؤشر على استعداد استراتيجي لدى الطرفين للتنازل أو تقديم تنازلات جوهرية. إذ أن تبادل الأسرى يمكن أن يُستخدم أيضاً كورقة سياسية لتخفيف الضغط الدولي دون الالتزام الحقيقي بخريطة طريق للحل.

  1. 2. الجمود في الملفات الجوهرية: لم تُحرز المفاوضات أي تقدم في الملفات الكبرى، مثل مستقبل المناطق التي ضمتها روسيا، أو مسألة حياد أوكرانيا، أو رفع العقوبات الغربية. هذا الجمود لا يُعزى فقط إلى صعوبة الملفات، بل إلى واقع سياسي وعسكري يتمسك فيه كل طرف بسقفه الأعلى.

روسيا تعتبر أن أي تراجع عن ضم المناطق الأربع هو تراجع عن “إنجازات الحرب” ومساس بهيبتها الاستراتيجية، خصوصاً بعد إضفاء الطابع الدستوري على تلك المناطق داخل روسيا.

أوكرانيا، من جهتها، لا تستطيع سياسياً أو شعبياً الاعتراف بتلك الخسائر كأمر واقع، خشية أن يُنظر إلى القيادة كمن فرطت في السيادة الوطنية.

  1. دلالات التوقيت: يأتي استئناف الحوار في لحظة تبدو فيها الحرب قد دخلت مرحلة “الإنهاك الاستراتيجي”، حيث لا أحد قادر على الحسم، لكن الجميع متضرر من الاستمرار. ورغم هذا، تختلف حسابات الطرفين.

بالنسبة لروسيا، فإن فتح نافذة تفاوض قد يكون خطوة تهدف لإعطاء انطباع بالمرونة، لتحسين موقفها التفاوضي مع الغرب أو تحييد بعض الخصوم الإقليميين.

أما أوكرانيا، فقد تجد في الحوار وسيلة لضمان استمرار الدعم الغربي بحجة الانفتاح على الحلول، وحتى لتمرير الوقت بانتظار تغيير محتمل في الإدارة الأميركية أو في قواعد الدعم العسكري.

  1. 4. طبيعة الوفدين المفاوضين: أحد أهم المؤشرات التي ينبغي التوقف عندها في جولة إسطنبول هو تركيبة الوفدين المفاوضين، والتي تكشف بوضوح عن طبيعة هذه الجولة وما يمكن توقعه منها.

الوفد الروسي ضم مسؤولين سياسيين من وزارة الخارجية ومستشارين قانونيين، إلى جانب شخصيات من مجلس الدوما، دون مشاركة مباشرة من المؤسسة العسكرية أو الاستخبارات. هذا التكوين يُظهر أن موسكو لم تعتبر هذه الجولة مفاوضات مصيرية أو ذات طابع حاسم، بل أقرب إلى محادثات استطلاع نوايا وتبادل رسائل سياسية.

أما الوفد الأوكراني، فقد تميز بتركيبة أكثر تنوعاً، ضمت ممثلين عن الرئاسة ووزارة الدفاع وشخصيات قانونية ودبلوماسيين ذوي حضور دولي. وهذا يعكس رغبة كييف في الظهور بمظهر الجدية والانفتاح أمام الرأي العام الدولي، وكذلك في نقل صورة عن الدولة الحديثة القادرة على التفاوض بمهنية، رغم ظروف الحرب.

بالتالي، فإن تركيبة الوفدين عكست ليس فقط الفارق في المقاربة، بل أيضاً في الهدف من التفاوض، روسيا أرادت إرسال رسالة تكتيكية، أما أوكرانيا فسعت لتوظيف المناسبة سياسياً ودبلوماسياً على المستوى الدولي.

ثالثاً: دور تركيا في الوساطة ودوافعها السياسية

اختيار إسطنبول كموقع لهذه الجولة من المفاوضات لم يكن مجرد تفصيل لوجستي، بل يعكس مكانة تركيا المتفردة في المشهد الجيوسياسي للصراع الأوكراني–الروسي، وطموحاتها الإقليمية والدولية. فتركيا لم تكن فقط مضيفة، بل وسيطاً نشطاً حاول توظيف موقعه الجغرافي وعلاقاته المتوازنة مع الطرفين لصياغة دور سياسي نوعي.

  1. دوافع تركيا:

لطالما سعت أنقرة إلى تثبيت موقعها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات أمنية تخص البحر الأسود أو الأمن الأوروبي. ومن خلال رعاية هذه المفاوضات، تحاول تركيا تحسين صورتها الدولية كوسيط محايد وقادر على التأثير، خاصة أمام القوى الغربية التي تنظر أحياناً إلى السياسة التركية بشك وحذر.

توظيف الوساطة لغايات داخلية، عبر إبراز دور القيادة التركية في منع التصعيد والحد من تداعيات الحرب على الاقتصاد التركي، خصوصاً في ملف الطاقة والحبوب.

تعزيز علاقاتها مع كل من موسكو وكييف، إذ حافظت تركيا على توازن دقيق لم تشارك في العقوبات الغربية، لكنها زودت أوكرانيا بطائرات بيرقدار، واستمرت بالتنسيق الأمني مع روسيا.

  1. رمزية إسطنبول: نقطة توازن لا ترجيح

إن انعقاد المفاوضات في إسطنبول يعطي تركيا هامشاً مهماً للمناورة السياسية، فهي تنجح في الترويج لنفسها كـ “منطقة رمادية” مقبولة من الطرفين، يمكن استخدامها مستقبلاً في أي مباحثات أوسع، خصوصاً في ظل تآكل ثقة موسكو بالعواصم الغربية.

رابعاً: الأبعاد والدلالات الدولية للمفاوضات

المفاوضات الروسية-الأوكرانية في إسطنبول لم تكن منعزلة عن السياق الدولي، بل جاءت في ظل تنافسات دولية معقدة تشكل خلفية الحرب وتحدد مسارها. تحليل هذه الأبعاد يوضح كيف أثرت المصالح الدولية على شكل ومضمون المفاوضات.

  1. الدور الغربي والضغوط على كييف

الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يدعمون أوكرانيا عسكرياً وسياسياً، ولكنهم في الوقت ذاته يضغطون بشكل غير معلن على كييف لفتح قنوات تفاوضية. الهدف ليس فقط التهدئة الميدانية، بل تجنب تصعيد قد يتحول إلى مواجهة أوسع مع روسيا، خصوصاً مع التهديدات النووية التي ترددها موسكو.

  1. موسكو بين القوة والضغوط الدولية

روسيا تدخل المفاوضات من موقع قوة نسبية على الأرض، لكن تحت ضغوط متزايدة جراء العقوبات الغربية وتأثيرها على اقتصادها، إضافة إلى الاستنزاف العسكري. في هذه الظروف، تحاول موسكو استخدام المفاوضات لإظهار استعدادها للحوار.

  1. تركيا كهمزة وصل إقليمية

تركيا تمثل حلقة وصل بين الشرق والغرب، خاصة في البحر الأسود والمنطقة المحيطة. لذلك، تستفيد القوى الكبرى من دورها كوسيط يمكنه أن يفتح أبواباً للحوار، أو على الأقل يحافظ على قنوات اتصال مفتوحة، الأمر الذي يقلل من مخاطر التصعيد.

جولة المفاوضات في إسطنبول، رغم أهميتها الرمزية والدبلوماسية، لم تحدث قفزة نوعية في مسار الصراع بين روسيا وأوكرانيا. فهي تكشف عن تناقض جوهري، رغبة الطرفين في استكشاف حلول سياسية، مقابل تمسك كل منهما بمواقف متصلبة مرتبطة بتحقيق مكاسب ميدانية واستراتيجية.

تركيا استطاعت استثمار موقعها الجغرافي والسياسي لتكون منصة للحوار، لكنها لم تستطع أن تكون لاعباً حاسماً في الحسم النهائي، إذ ظل قرار الحرب والسلام بيد قوى دولية كبرى تتداخل مصالحها وتتقاطع حساباتها.

المفاوضات في إسطنبول تؤكد أن الحل السياسي لا يمكن أن ينبثق من المفاوضات نفسها، بل من تغيرات ميدانية ودولية أوسع، وهذا يعني استمرار حالة التوتر وعدم اليقين في المدى المنظور. في الوقت ذاته، فهي تعكس إصرار الأطراف على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة كجزء من لعبة استراتيجية معقدة، حيث التفاوض ليس نهاية بل وسيلة لإدارة الصراع.

في ضوء ذلك، يبقى السؤال الرئيس، هل ستنجح الدبلوماسية في اختراق جدار التعنت والجمود، أم ستظل المفاوضات مجرد مشاهد متكررة في مسرح حرب لا يلوح لها قرب انتهاء؟ .

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى