الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

البراجماتية الميكافيلية في السياسة الأميركية

زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى الخليج وتداعياتها الإقليمية

بقلم:  نور نبيه جميل/ باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

تُمثّل الزيارات الرئاسية الامريكية للمنطقة العربية دائمًا مؤشرات دالة على توجهات السياسة الخارجية الأميركية، ولا سيما حين تكون محملة برسائل رمزية وإستراتيجية كما في زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى دول الخليج. جاءت هذه الزيارة في سياق متغيرات إقليمية معقدة، تزامنت مع المفاوضات االامريكية الإيرانية حول البرنامج النووي، وتنامي ظاهرة التطبيع، وتقلص مركزية القضية الفلسطينية واهمال الابعاد الإنساني بشكل قطعي. ورغم الطابع الرسمي والدبلوماسي للزيارة، فإن خلفياتها الفكرية والتحليلية تكشف عن أبعاد عميقة تمس جوهر السلوك السياسي الأميركي، لا سيما عند مقاربته من خلال عدسة الفكر السياسي الميكافيلي، الذي يربط السياسة بالمصلحة الذاتية والمنفعة الخاصة ويُسقط الاعتبارات الأخلاقية والقيم لصالح القوة والنفوذ.

يسعى هذا المقال إلى تحليل زيارة ترامب الأخيرة لدول الخليج العربي في ضوء النظرية الميكافيلية، مع الأخذ بعين الاعتبار مفاهيم القوة الذكية والقوة الناعمة في العلاقات الدولية، وتأتي زيارة ترامب الأخيرة إلى دول الخليج في إطار تفاعلي معقد بين ضرورات الأمن القومي الأمريكي، والبحث عن فرص اقتصادية، وإعادة رسم التحالفات الإقليمية بما يخدم استراتيجية “أمريكا أولًا”.

وتحليل مواقف الأطراف الفاعلة في المنطقة مثل السعودية، وقطر، وتركيا، وسوريا، مع طرح تساؤل جوهري حول تغييب غزة عن الخطاب السياسي خلال تلك الزيارة في الوقت التي تدعم هذه الدول في العلن حقوق الانسان وتنادي بالحرية والعدالة في المؤسسات الدولية! فهل مايحصل هو الحقيقة وتلك الرواية التي تنادي بالمبادئ الإنسانية والقيم والمُثل في المجتمع الدولي خطابات لا أكثر! في ضوء ذلك يعتمد البحث على أدوات التحليل الواقعي والبراغماتي، لفهم الدوافع الحقيقية، واستشراف ما ترمز إليه تلك الزيارة من دلالات استراتيجية في بنية النظامين الدولي والإقليمي.

اولاً: الإطار النظري: مكيافيلي والنظرية الواقعية

يرتكز التحليل في هذا البحث على المزج بين النظرية الميكافيلية في الفلسفة السياسية، والنظرية الواقعية في العلاقات الدولية. كلاهما يشتركان في رؤية تشاؤمية للطبيعة الإنسانية، حيث تُفهم السياسة على أنها صراع دائم من أجل القوة، وأن القيم الأخلاقية ليست معيارًا حاسمًا في توجيه سلوك الفاعلين الدوليين.

ميكافيللي، المفكر الفلورنسي، لم يُعرف فقط ككاتب “الأمير”، بل كمؤسس لنزعة واقعية تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، وأنّ المصلحة والقوة هي المحركات الأساسية لسلوك الدولة. في هذا السياق، لا تُقاس السياسات بمقدار التزامها بالقيم، بل بمدى تحقيقها للمصلحة العليا للدولة،

كما شدد في أطروحاته السياسية، على أن القائد الناجح هو من يتقن استخدام القوة والخداع إذا تطلب الأمر، طالما أن ذلك يحقق مصلحة الدولة واستقرار الحكم. فالواقعية، فتفترض أن النظام الدولي فوضوي بطبيعته، وأن الدول تسعى لتعظيم قوتها في ظل غياب سلطة مركزية ضامنة. ومن هذا المنطلق، تكون الزيارة الرئاسية – مثل زيارة ترامب – تعبيرًا عن ممارسة القوة واستعراضها    سواء بصيغها الصلبة (التحالفات، الصفقات، التهديد) أو الناعمة (الخطاب، الرموز، النفوذ الثقافي). بمعنى ان النهج الأمريكي القائم يهتم بتعظيم مكاسبه كافة إزاء العالم اجمع

ثانياً: تحليل الزيارة في ضوء الفكر الميكافيلي

تظهر ميكافيلية ترامب بوضوح في طريقته بالخطاب والتفاوض. لم تكن زيارته محكومة بأطر قيمية أو توازنات حقوقية، بل جاءت في سياق توظيف الصفقات والتحالفات لخدمة مشروع “أميركا أولًا”، الذي يعيد ترتيب العلاقات الخارجية وفق معادلة الربح والخسارة.

ترامب لم يُخفِ في زيارته تركيزه على الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية؛ فقد تم توقيع صفقات تسليحية ضخمة مع السعودية، عكست تصورًا أميركيًا للمنطقة كمصدر للثروات يجب استثمارها، لا كشريك في صناعة القرار العالمي. هذا المنطق يستبطن رؤية ميكافيلية للسلطة: لا مكان فيها للعاطفة أو الأخلاق والإنسانية، بل الأهم هو تحصيل الفائدة وتعزيز السيطرة الكاملة، حتى ولو على حساب الاستقرار الإقليمي أو مصالح الشعوب.

تضمنت زيارة ترامب إلى الخليج جملة من الرسائل الصريحة والمبطّنة:

  1. تعزيز التحالف الأمني مع دول الخليج، في سياق مواجهة النفوذ الإيراني، وهو ما يُعبّر عن مقاربة واقعية ميكافيلية تسعى لضمان التفوق الاستراتيجي عبر دعم الحلفاء وتقييد الخصوم.

  2. توقيع صفقات تسليح بعشرات المليارات، لا باعتبارها تعزيزًا لأمن الحلفاء فحسب، بل كمصدر دعم للاقتصاد الأمريكي، في تطبيق مباشر لمبدأ “المصلحة قبل كل شيء”.

  3. تحميل الحلفاء مسؤوليات أكبر في الأمن الإقليمي، ما ينسجم مع مبدأ ميكافيلي القائل إن الأمير الذكي هو من يجعل الآخرين يقاتلون من أجله، دون أن يخسر هو قوته.

ثالثاً: الأطراف الإقليمية وتفاعلات المصالح

السعودية:

مثّلت الرياض مركز الثقل في زيارة ترامب، حيث سعى إلى تعزيز شراكته مع القيادة السعودية، خاصة في ظل صعود محمد بن سلمان، الذي يمثل في نظر الإدارة الأميركية نموذجًا لزعيم قادر على ترجمة رؤية “الإصلاح” بالشكل الذي يخدم المصالح الأميركية. وقد التقت براجماتية ترامب مع رغبة السعودية في فرض نفوذها الإقليمي، خصوصًا في مواجهة إيران وتطويق النفوذ القطري والتركي. بمعنى أن ترامب اختار الرياض كبوابة أولى في جولته الخارجية، فيما يمكن اعتباره رسالة دعم مباشرة لمحمد بن سلمان، الذي كان آنذاك في مرحلة تعزيز نفوذه داخل العائلة المالكة. ويُمكن من منظور ميكافيلي اعتبار هذه العلاقة بمثابة تحالف نفعـي بين أميرين:

  • ترامب يرى في محمد بن سلمان حليفًا مستعدًا للمجازفة ودفع أثمان باهظة لقاء الحماية والدعم الدولي.

  • ومحمد بن سلمان يرى في ترامب مصدّرًا للشرعية الدولية، خصوصًا في ظل طموحاته الداخلية والإقليمية.

هذا التحالف تجسّد في دعم غير مشروط تقريبًا للسعودية، حتى في ملفات مثيرة للجدل مثل حرب اليمن وقضية خاشقجي لاحقًا، ما يعكس واقعية تقوم على تبادل المنفعة بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية.

قطر:

رغم أنها كانت شريكًا أمنيًا للولايات المتحدة، فإنها وجدت نفسها تحت الضغط في أعقاب الزيارة، حيث شجعت واشنطن ضمنيًا حملة المقاطعة الخليجية ضد الدوحة. هنا برز التناقض في السياسة الأميركية، إذ تعاملت مع قطر كحليف عسكري (وجود قاعدة العديد)، لكنها ضحّت مؤقتًا بعلاقتها بها في إطار مساومات إقليمية أوسع.

تركيا:

لم تكن تركيا في صلب الخطاب العلني للزيارة، لكنها كانت حاضرة في خلفية التحالفات. فالعلاقات المتوترة بين واشنطن وأنقرة، خصوصًا بشأن الأكراد في سوريا والانقلاب الفاشل، جعلت ترامب يبحث عن شركاء آخرين يمكن التعويل عليهم في ترتيب المشهد الإقليمي دون الاعتماد الكلي على أنقرة.

سوريا:

مثلت سوريا فرصة كبيرة لتجسيد النفوذ الأمريكي السعودي الجديد وساحةً مركزية لتصفية الحسابات الجيوسياسية.  اذ لم يسعَ ترامب لحل الأزمة السورية، بل استثمر فيها كورقة ضغط، كما عمل على تثبيت النفوذ الأميركي شرق الفرات. من منظور ميكافيلي، فإن سوريا ليست قضية إنسانية بل أداة للمساومة السياسية، وساحةً لممارسة النفوذ الدولي.

يمكن ملاحظة أربعة أبعاد ميكافيلية في زيارة ترامب:

               1.الاستثمار في الخوف: خلق تهديد مشترك متمثل في إيران لتبرير الحشد العسكري والصفقات.

               2.استخدام الدين كأداة خطابية: رغم موقفه السلبي من الإسلام في حملته الانتخابية، اختار الرياض كوجهة أولى، وألقى خطابًا يُراعي الرمزية الدينية للتحالف، في توظيف براغماتي للأفكار.

               3.احتكار التعريف بالشرعية: تقديم نفسه كضامن للنظام الإقليمي، واعتبار من لا يتحالف مع أمريكا ضمن دائرة العداء.

               4.تسليع العلاقات الدولية: التعامل مع الحلفاء بمنطق الصفقة، أي من يدفع أكثر يحصل على حماية أكثر.

رابعاً: زيارة ترامب والقوة الذكية/الناعمة

رغم أن ترامب لا يُعد نموذجًا تقليديًا للسياسي الناعم، إلا أن زيارته وظّفت عناصر من القوة الذكية، التي تجمع بين الترغيب والترهيب. فخطابه في الرياض أمام قادة الدول الإسلامية جاء محمّلًا بلغة “الشراكة”، لكنه تضمن أيضًا رسائل ضغط وتحذير من “الخطر الإيراني” و”الإرهاب”، مما يبرز توازنًا محسوبًا بين الصلابة والانفتاح.

 أن هذا الاستخدام للقوة الناعمة لم ينطلق من منطلقات قِيَمية أو ثقافية عميقة، بل جاء مشروطًا بمدى خدمة المصالح الأميركية الاستراتيجية، خصوصًا في الملفات المتعلقة بالطاقة، ومكافحة النفوذ الإيراني، والتطبيع العربي–الإسرائيلي، وإعادة توزيع أعباء الأمن الإقليمي.

ويمكن القول إن التوظيف الأمريكي لمفاهيم الجذب والتأثير خلال الزيارة لم يتجاوز حدود “الأداة”، ولم يُشكّل تحولًا نوعيًا في البنية القيمية للسياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعكس ما يُعرف بـ”الوظيفة التكتيكية للقوة الناعمة”، حين تُستخدم كمُكمّل للقوة الصلبة، لا كبديلٍ عنها، في سياق إدارة التحالفات وإعادة ضبط التموضعات الإقليمية ضمن منطق الهيمنة المتوازنة.

وفي الوقت ذاته، استخدمت الإدارة الأميركية أدوات القوة الناعمة من خلال الترويج لصورة “الزعيم العالمي” الذي يعيد تشكيل النظام الدولي، ويرعى تحالفات ضد التطرف. لكنها لم تكن قوة ناعمة بالمفهوم التقليدي (القيم والثقافة)، بل كانت أداة دعم لسياسات الهيمنة، وهو ما يجعلها في التحليل أقرب إلى “القوة الذكية” ذات الطابع البراغماتي.

خامساً: لماذا غابت غزة؟ تحليل سياسي للصمت الأميركي

في ظل مشهد سياسي دولي واقليمي مشحون، زيارة ترامب بتجاهل كامل لقضية غزة، التي كانت ولا تزال بؤرة التوتر الأكثر اشتعالًا في الصراع العربي–الإسرائيلي. ويعود هذا التجاهل إلى عدة اعتبارات سياسية واستراتيجية:

  1. إعادة تعريف أولويات الصراع: سعت إدارة ترامب إلى استبدال مركزية الصراع العربي–الإسرائيلي بصراع آخر ضد إيران، مما جعل القضية الفلسطينية تُهمّش لصالح بناء تحالفات جديدة.

  2. التحضير لصفقة القرن: كان تغييب غزة جزءًا من استراتيجية تطويع الواقع السياسي، عبر إضعاف رمزية المقاومة، وتقسيم الجغرافيا الفلسطينية بين غزة والضفة.

  3. ميكافيلية التوقيت: بالنسبة لترامب، فإن ذكر غزة كان سيحرج حلفاءه في الخليج، خصوصًا مع تنامي موجات التطبيع، لذا فضّل الصمت، بما يتماشى مع منطق “السياسي الذكي” الذي يتفادى ما يضعف موقفه.

وهكذا، تحولت غزة من رمز نضالي إلى قضية “صامتة” تُعالج بالتجاهل، في ظل اصطفافات إقليمية جديدة تُعيد ترتيب الأولويات وفق منطق المصلحة لا المبادئ.

في ظل ما سبق تجسد البراغماتية الأميركية تكتيك التهميش وتُظهر السياسة الخارجية الأميركية، في عهد ترامب، ميلًا واضحًا نحو “إدارة النزاعات” لا حلّها، واحتواء الأزمات لا معالجتها جذريًا. اذ يندرج السكوت عن غزة في هذا الإطار: لا توجد إرادة سياسية لتحمّل كلفة فتح الملف، خاصة في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي، وغياب الضغط الإقليمي الفعّال. لذلك، وُضِعت غزة في خانة الملفات “منخفضة العائد السياسي”، مع استمرار التكيتك والتخطيط الاستراتيجي لحسم الملف.

تجسّد زيارة ترامب لدول الخليج نموذجًا صريحًا للبراجماتية السياسية المستندة إلى منطق ميكافيلي–واقعي، حيث تتحكم المصالح الذاتية في صياغة السياسات، وتُدار التحالفات وفق منطق المنفعة والتأثير. فالمعادلة التي فرضتها الزيارة كانت تقوم على استثمار ثروات الخليج، وتعميق الشراكات الأمنية، وتحييد الملفات الحساسة (كغزة) لصالح ترتيبات إقليمية جديدة.

يمكن في ضوء ما سبق استخلاص ملامح “الأمير الميكافيلي” في شخصية ترامب من خلال:

  • استخدام الحلفاء ضد بعضهم البعض لضبط توازن القوى.

  • التمييز بين الظهور الأخلاقي والسلوك الواقعي، إذ استخدم خطابًا تصالحيًا علنيًا، فيما مارس ضغوطًا اقتصادية وعسكرية خلف الكواليس.

  • تصعيد الأزمات ثم التراجع عنها لكسب تنازلات أكبر، كما في قضايا الحصار والمساعدات وملف إيران.

  • إعادة تعريف الشرعية ليس من خلال القيم، بل من خلال القدرة على دفع الأموال أو مواجهة إيران.

لقد كشفت الزيارة عن تحولات جوهرية في أدوات السياسة الأميركية، حيث لم تعد تكتفي بالقوة الصلبة، بل باتت توظف القوة الذكية، وتعيد تعريف النفوذ من خلال صفقات، ورموز، وخطابات، وأحيانًا… عبر تجاهل متعمد. ومع أن ترامب غادر البيت الأبيض، فإن أثر زيارته لا يزال حاضرًا في شكل التحالفات الحالية، وفي موازين القوى التي ترسم ملامح الشرق الأوسط القادم.

المصادر:

  1. Machiavelli, Niccolò. The Prince. Translated by Peter Bondanella, Oxford University Press, 2005.

  2. Nye, Joseph S. Soft Power: The Means to Success in World Politics. PublicAffairs, 2004.

  3. Morgenthau, Hans. Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace. McGraw-Hill, 2006.

  4. Gause, F. Gregory. “The Future of U.S.-Gulf Relations.” Brookings Doha Center, 2017
    Loader Loading...
    EAD Logo Taking too long?

    Reload Reload document
    | Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى