الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
ملامح القوة في الخطاب الصيني الجديد

بقلم: حنين محمد الوحيلي
باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
ثمة لحظات في التاريخ تبدل فيها الأمم طريقة حديثها عن نفسها، لا لأنها غيرت قاموسها بل لأنها غيرت موقعها في العالم. هذا تماماً ما فعلته الصين في السنوات الأخيرة إذ لم تعد تعبر بلسان الدولة التي تحسن الإصغاء بل بصوت يعرف أنه يصغي إليه. تحول خطابها من التماس الفهم إلى فرض السياق، ومن الحذر الدبلوماسي إلى الثقة المدروسة التي لا تعلن تحدياً لكنها تبطن يقيناً بأن الزمن بات زمنها.
لقد بنت بكين قوتها بهدوء متعمد كمن يختبر صلابتها في صمت طويل، ثم قررت أن تخرجها إلى الضوء حين أدركت أن العالم لم يعد قادراً على تجاهلها. لم تكن تطلب اعترافاً بمكانتها بل كانت تعيد تشكيل تلك المكانة بجهد تراكمي صبور حتى أصبحت هي من يعرف الآخرين بموازينهم. وحين تتحدث اليوم عن سيادتها وتقيس حضورها بمقياس القدرة لا الرأ، فإنها لا تستعرض القوة بل تمارسها لغوياً وسياسياً ومعنوياً في آن واحد.
إن ما يميز الصين في لحظتها الراهنة ليس وفرة السلاح أو فائض الاقتصاد بل قدرتها على أن تقول ما كانت القوى الكبرى وحدها تجرؤ على قوله: أن الشرعية في النظام الدولي لم تعد امتيازاً غربياً وأن القوة لم تعد حكراً على من يملكها بل لمن يعرف متى وكيف يعلنها. ومن هنا تغدو الصين اليوم أكثر من دولة صاعدة، إنها الفاعل الجديد في إعادة تعريف معنى الصعود ذاته.
القوة المادية كجوهر للتحول التعبيري
لم تتغير نغمة الصين من فراغ بل من واقع تراكمي رسخ قدرتها على الفعل المستقل. فالثقة السياسية مهما تنمقت لغتها لا تصمد ما لم تسندها معطيات القوة في الاقتصاد والتكنولوجيا والأمن.
-
الاقتصاد: من النمو إلى النفوذ: تمثل الصين اليوم ما يقارب خمس الناتج العالمي وتتصدر قائمة الشركاء التجاريين لأكثر من مئة دولة. هذا الثقل الاقتصادي منحها قدرة تفاوضية جديدة، فهي لم تعد تتأثر بالضغوط الأمريكية بقدر ما توازنها عبر توسيع أسواقها في آسيا وإفريقيا. مبادرة الحزام والطريق لم تعد مشروع بنية تحتية بل آلية لإعادة توزيع الاعتماد الدولي بحيث تصبح الصين محوراً في حركة التمويل والسلع لا مجرد طرف فيها.
-
التكنولوجيا: من الاتباع إلى الريادة: في العقد الأخير تحولت الصين إلى منتج للمعرفة التقنية لا مستورد لها. شركاتها في الذكاء الاصطناعي والسيارات الكهربائية والرقائق الدقيقة أصبحت تنافس نظيراتها الغربية.
وعندما فرضت واشنطن قيوداً على صادرات التكنولوجيا ردت بكين بإعادة تنظيم سلاسل الإمداد وفرض قيود على المعادن النادرة لتثبت أن قدرتها على التكيف لا تقل عن قدرة الغرب على المنع.
-
الردع العسكري: الصمت الذي يحسب له حساب: العرض العسكري عام 2025 كشف اكتمال منظومة الردع الثلاثي وامتلاك الصين لتقنيات فوق صوتية وطائرات مسيرة متقدمة. غير أن اللافت أنها لم تجعل من ذلك أداة تهديد بل ضمانة للسكينة الاستراتيجية، فالقوة هنا تعمل بصمت وتمنح الدبلوماسية ثقة لا تتأتى من الكلام.
-
خلاصة المعادلة: حين تتكامل هذه الأركان الثلاثة “الاقتصاد، التكنولوجيا، والردع” يصبح الخطاب الجديد نتاجاً طبيعياً لا افتعالاً. فالصين لم تعد تفسر قوتها بل تعيشها وأصبحت لغتها الخارجية انعكاساً لتوازن حقيقي بين ما تملك وما تقول. إنها قوة تعرف أن الصعود لا يعلن بل يقاس بقدرتها على فرض معانيه.
التحالفات والعلاقات الدولية كترجمة للثقة الصينية
حين تبلغ دولة ما درجة من الاطمئنان إلى قوتها فإنها لا ترفع صوتها بل توسع دوائر إنصاتها. هذا ما فعلته الصين في السنوات الأخيرة إذ أعادت هندسة علاقاتها الخارجية لتتحول من شبكة مصالح إلى هندسة نفوذ متعدد الطبقات، توازن بين الانفتاح الدبلوماسي والانكفاء الاستراتيجي، وبين الطموح إلى القيادة والرغبة في تجنب الهيمنة.
يلاحظ أن السياسة الخارجية الصينية باتت تدار وفق منطق “التجميع الهادئ للقوة الناعمة”، من خلال توسيع التحالفات لا لغايات رمزية بل لتأسيس واقع دولي جديد يعترف به بحكم الأمر الواقع.
فالصين اليوم ليست في سباق لإقامة تكتلات صلبة على الطريقة الغربية بل تبني شبكات مرنة من الشراكات تتقاطع مصالحها في مجالات التجارة والطاقة والتكنولوجيا والبنية التحتية.
تلك المرونة جعلت بكين شريكاً رئيسياً في منظومات متعددة مثل منظمة شنغهاي للتعاون، والبريكس الموسعة، ومبادرة الحزام والطريق، وهي أطر تمثل في مجموعها إعادة هندسة للنظام الدولي خارج مركز الغرب التقليدي.
وفي سلوكها الدبلوماسي تبدو الصين أكثر وعياً بدور “الرمز السياسي”. فاستقبالها المتكرر لقادة العالم من روسيا وإيران إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، ليس طقساً بروتوكولياً، بل رسالة ضمنية مفادها أن بكين أصبحت نقطة التقاء دولية جديدة وأن الحوار لم يعد يمر عبر العواصم الغربية وحدها.
حتى القمم التي ترعاها لم تعد تسعى إلى إنتاج بيانات مشتركة بقدر ما تهدف إلى تثبيت صورة مفادها أن العالم يتحدث لغات متعددة وأن للصين القدرة على جمعها من دون قسر أو وصاية.
وفي الوقت الذي تستثمر فيه واشنطن في خطاب الاصطفاف، تبني بكين خطاب “التقاطع”: فهي لا تبحث عن حلفاء بالمعنى العسكري بل عن فضاءات للتفاهم تقنع الدول بأن التعاون معها خيار عقلاني لا ولاء سياسي. هذه المقاربة جعلت نفوذها يمتد من موانئ إفريقيا إلى ممرات آسيا الوسطى دون أن تطلق رصاصة واحدة.
هذا التوازن بين الفاعلية والهدوء هو ما يمنح الدبلوماسية الصينية خصوصيتها في المرحلة الراهنة. فهي لا تدير التحالفات كأدوات ضغط بل كآليات لتكريس واقع جديد تصبح فيه العلاقات الدولية أقل تبعية لمركز واحد.
لقد نجحت بكين في تحويل حضورها الدولي إلى نظام تواصلي متكامل: تستخدم الاقتصاد بوصفه لغة، والاستثمار كوسيلة تفاوض، والعلاقات كمنصة لإعادة تعريف مفهوم الشراكة.
بهذا المعنى يمكن القول إن التحالفات الصينية ليست توسعاً جغرافياً بقدر ما هي تمدد في المعنى. إنها سياسة تتجنب الصدام المباشر مع الغرب لكنها تفرغ هيمنته من مضمونها وتمنح الدول الأخرى نموذجاً بديلاً في إدارة مصالحها دون الحاجة إلى مظلة غربية. وهكذا يتحول الفعل الدبلوماسي الصيني إلى أداة إعادة توازن حضاري أكثر منه مشروع نفوذ تقليدي، ويصبح الخطاب الجديد انعكاساً لهذا الوعي بأن العالم يتسع لأكثر من مركز واحد.
استشرافات مستقبلية
تدل ملامح السلوك الصيني الراهن على أن بكين تمضي نحو نموذج جديد في ممارسة القوة يقوم على مبدأ “التمكين الصامت” لا المواجهة المباشرة.
خلال العقد المقبل من المرجح أن تتجه الصين إلى تثبيت نفوذها في ثلاث دوائر مترابطة:
-
البيئة الإقليمية الآسيوية: حيث ستسعى إلى تحويل التوتر في بحر الصين الجنوبي وتايوان من ساحة اختبار عسكري إلى منصة توازن رادع يضمن حضورها الأمني من دون الانزلاق إلى الحرب، مستفيدة من تفوقها التكنولوجي والبحري المتنامي.
-
الاقتصاد العالمي: إذ يتوقع أن تعزز الصين موقعها كمركز للتجارة المتقدمة والطاقة النظيفة، عبر توسيع شبكات التمويل البديلة وصناديق التنمية في الجنوب العالمي، بما يخلق نظاماً موازياً للأسواق الغربية من دون إعلان قطيعة معها.
-
المجال الرمزي والثقافي: فبكين بدأت تدرك أن الصراع على النفوذ لا يحسم فقط في الموانئ والمصانع بل أيضاً في عقول النخب والرأي العام العالمي. ومن ثم ستزيد استثماراتها في الإعلام والتعليم والتبادل الثقافي لترسيخ “رؤية صينية للعولمة” تختلف عن النموذج الليبرالي الأمريكي في فلسفة القوة والنظام.
إن هذا المسار إن استمر على وتيرته الحالية سيجعل الصين في غضون عقد من الزمن قطباً مكتمل الملامح: قوة اقتصادية قادرة على الصمود أمام العقوبات، وقوة سياسية تمتلك مؤسسات موازية للنظام الغربي، وقوة ثقافية تنتج سرديتها الخاصة عن الحداثة.
لكن في المقابل سيواجه هذا الصعود سقفاً من التحديات البنيوية: شيخوخة السكان، تباطؤ النمو الصناعي، واحتمال استنزاف الموارد في مشاريع التوسع الطموحة.
وبين هذين الاتجاهين الارتقاء الهيكلي من جهة، وضغط الاستدامة من جهة أخرى ستتحدد ملامح الخطاب الصيني في المستقبل: هل يبقى خطاب الثقة المتوازنة، أم يتحول إلى لغة التثبيت والدفاع؟
في كل الأحوال، يبدو أن الصين دخلت مرحلة لم يعد فيها العالم ينتظر منها أن تبرر خطواتها بل أن تحدد شكل التفاعل مع خطواتها المقبلة. وهذا بحد ذاته إعلان غير مباشر عن أن موازين القوة لم تعد تدار من ضفة واحدة.



