الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
مدى دستورية قرار مجلس الوزراء حجب تقديم الخدمات العامة إلى المواطن في دوائر الدولة والقطاع العام وربطها باستيفاء فواتير الماء والكهرباء والهاتف

بقلم: د. مصدق عادل
كلية القانون – جامعة بغداد
في الوقت الذي يستعد فيه العراقيون للذهاب الى صناديق الاقتراع لانتخاب ممثليهم في مجلس النواب تمهيداً لاختيار الحكومة الجديدة القادمة، وفي وسط تصاعد المطالبات الجماهيرية والنيابية تجاه الحكومة الحالية بحل أزمة شحة المياه الداخلة للعراق وارتفاع نسبة المديونية المالية الداخلية والخارجية التي بلغت ما يقارب (151) مليار دولار، تفاجأ العراقيون بقيام مجلس الوزراء (حكومة الخدمات) بعقد جلسته الاعتيادية بتاريخ 21/تشرين الأول/2025 والتي تضمنت اصدار قرار حكومي بعدم ترويج المعاملات الرسمية في دوائر الدولة والقطاع العام الا بعد تقديم ما يؤيد تسديد المواطن أجور فواتير الماء والكهرباء والهاتف والمجاري، وقد استند هذا القرار إلى بعض نصوص قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية العراق رقم (13) لسنة 2023 التي تجيز للحكومة تعظيم الإيرادات المالية.
وبالنظر لكون هذا القرار قد تضمن العديد من المخالفات الدستورية، فضلاً عن ازدواجية المعايير المتبعة من مجلس الوزراء بشان تطبيق قانون الموازنة، فضلاً عن ارهاق كاهل المواطن في ظل ارتفاع نسبة العجز المالي للحكومة لذا سنتناول بيان هذه الاحكام في البنود الآتية:
اولاً: مدى مخالفة قرار مجلس الوزراء لنصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005:
بالرجوع الى دستور جمهورية العراق لسنة 2005 نجد انه لم يتضمن أي نص يجيز لمجلس الوزراء أو دوائر الدولة والقطاع العام حجب تقديم الخدمات العامة عن المواطنين، حيث اوجبت المادة (30) من الدستور على الدولة كفالة المقومات الأساسية للعيش في حياة حرة كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم.
وبهذا يتضح ان الحكومة لم تلتزم بواجبها الدستوري في تأمين السكن الملائم لجميع أبناء الشعب العراقي من اجل مطالبة جميع العراقيين غير المالكين للسكن بتسديد فواتير الماء والكهرباء قبل انجاز وتقديم الخدمة للمواطن، حيث ان استيفاء هذه المبالغ مشروطاً بوفاء الحكومة بالتزاماتها الدستورية تجاه المواطنين بتوفير السكن، والمعيشة اللائقة، فكيف سيتسنى للمواطن العاطل عن العمل أو المشمول بالرعاية الاجتماعية أو الذي لا يتوفر له السكن المسجل باسمه في الطابو بدفع فواتير الماء والكهرباء.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان المادة (33/اولاً) من الدستور تمنح لكل فرد حق العيش في ظروف بيئية سليمة، وهو الامر الذي لم تلتزم به الحكومة في جميع المحافظات العراقية، وبالأخص فيما يتعلق بتوفير الماء الصالح للشرب، سواء في البصرة أو غيرها من المحافظات الجنوبية، ومن ثم يثار التساؤل هل اوفت الحكومة بالتزاماتها بتوفير الظروف البيئية السليمة من اجل مطالبتها باستيفاء فواتير الماء في الوقت اذلي تعاني فيه غالبية هذه المحافظات من الجفاف؟
فضلاً عن ذلك فان اشتراط الحكومة عدم انجاز وترويج المعاملات الرسمية يشكل مخالفة دستورية صريحة لاحكام المادة (19/سادساً) من الدستور العراقي التي تنص (سادساً: لكل فرد الحق في ان يعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية).
وبتطبيق قرار مجلس الوزراء يتضح انه اهدر الحق في المعاملة العادلة في الإجراءات الإدارية في دوائر الدولة والقطاع العام، حيث لم يفرق قرار الحكومة بين المواطن الذي يمتلك الدار السكنية من عدمه في اشتراط جلب ما يؤيد دفعه فواتير الماء والكهرباء والمجاري والهاتف، مما يخل بالعدالة الاجتماعية.
يضاف لما تقدم فان المادة (5) من الدستور تنص على ان السيادة للقانون والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، وينصرف مفهوم القانون الى التشريع الصادر من مجلس النواب، ولا ينصرف الى القرار الصادر من مجلس الوزراء، حيث انه وفقاً لقواعد المشروعية أو تدرج القواعد القانونية فانه يتوجب تغليب نصوص الدستور على نصوص القانون، وتغليب نصوص القانون على نصوص القرارات الصادرة من مجلس الوزراء، وهو الامر الذي لم يتم الالتزام به في قرار مجلس الوزراء بشان اشتراط استيفاء مبالغ فواتير الماء والكهرباء والمجاري والهاتف قبل تقديم الخدمة أو انجاز المعاملة الرسمية في دوائر الدولة والقطاع العام.
وسندنا في ذلك هو ان المادة (80/ثالثاً) من الدستور حددت صلاحيات مجلس الوزراء في اصدار الأنظمة والتعليمات والقرارات بهدف تنفيذ القوانين، حيث أن عبارة تنفيذ القوانين تأتي بمعنى عام وهو (تنفيذ نصوص الدستور والقوانين النافذة)، وليس الاكتفاء بتطبيق القوانين فقط، ولم يتم اصدار قرار مجلس الوزراء بالاستناد الى نصوص الدستور والقوانين النافذة.
وما يدلل على ازدواجية الحكومة في قرارها بحجب تقديم الخدمات عن المواطن هو تنصل الحكومة عن التزامها الدستوري المفروض عليها بتقديم الحساب الختامي ومشروع قانون الموازنة العامة الاتحادية للسنة القادمة وفقاً لاحكام المادة (62) من الدستور التي تنص (اولاً: يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة والحساب الختامي الى مجلس النواب لاقراره).
وبهذا فان تنصل مجلس الوزراء عن التزاماته الدستورية المالية بتقديم الحساب الختامي للسنوات السابقة لعمل الحكومة الحالية، وعدم التزام الحكومة الحالية بتقديم مشروع قانون الموازنة العامة لجمهورية العراق لعام 2026، يضاف لذلك عدم التزام الحكومة بتقديم جداول النفقات والايرادات لمجلس النواب للعام 2025 كلها تعد أسباب تجعل الحكومة لم تلتزم بالواجبات الدستورية المفروضة عليها تجاه المواطن.
كما ان التطبيق العشوائي لقرار مجلس الوزراء يتضمن مخالفة صريحة لأحكام المادة (28/اولاً) من الدستور التي توجب فرض الرسوم والضرائب بقانون، وهو الامر الذي لم تلتزم به الحكومة بصورة دقيقة بقانون الموازنة العامة الاتحادية رقم (13) لسنة 2023 كما سنبين ذلك بالتفصيل.
ناهيك عن غياب السند الدستوري المباشر الذي يجيز للحكومة ممثلة بمجلس الوزراء الامتناع عن تقديم الخدمات العامة للمواطن الذي يمتنع عن تسديد فواتير الماء والكهرباء والهاتف في ظل عدم الالتزام الكامل للحكومة بتنفيذ الحقوق الممنوحة للمواطن وفقاً لنصوص الدستور.
فضلاً ما ورد في المادة (46) من الدستور العراقي التي تنص لا يكون تقييد ممارسة أي حق من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور او تحديدها الا بقانون او بناء عليه، على ان لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية”
فهل سيكون بإمكان الحكومة من المواطن من اجراء عملية جراحية في المستشفى الحكومي في حالة امتناعه عن تقديمه ما يؤيد دفعه لفواتير الماء والكهرباء؟
ثانياً: ازدواجية معايير قرار مجلس الوزراء بشأن حجب الخدمة العامة عن المواطن وفقاً لقانون الموازنة العامة الاتحادية والقوانين النافذة الأخرى.
بالرجوع الى قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية العراق رم (13) لسنة 2023 نجد انها اجازت للحكومة تعظيم الإيرادات من خلال منحها صلاحية فرض رسوم او أجور الخدمات المفروضة سابقاً (2016-2021) فقط، أو فرض رسوم أو أجور خدمات جديدة وفق المادة (21/اولاً) من القانون.
وأول ما يلاحظ على النص المذكور انه يخالف المادة (28/اولاً) من الدستور التي تنص “اولاً: لا تفرض الضرائب والرسوم ولا تعدل ولا تجبى ولا يعفى منها الا بقانون”
حيث ان الاستثناء الذي منحه قانون الموازنة جاء استثناء من المادة أعلاه، ويقتصر على السنوات المالية لغاية 2021، ومن ثم فلا يجوز للحكومة ان توسع هذا الاستثناء وتفرض رسوماً جديداً غير المحددة في النص أعلاه لتشمل السنوات (2021-2026).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان تطبيق البند (اولاً) من المادة (21) من قانون الموازنة مقترن بتطبيق البند (ثانياً) من المادة نفسها، فلا يجوز للحكومة ان تفرض استيفاء مبالغ هذه الفواتير على المواطنين الساكنين في المحافظات دون مواطني إقليم كوردستان، كونه يخل بمبدا المساواة امام القانون وفق المادة (14) من الدستور.
فضلا ًعن ذلك نجد ان قرار مجلس الوزراء بمنع دوائر الدولة والقطاع العام من تقديم الخدمات العامة الا بعد استيفاء فواتير الماء والكهرباء يصطدم بالعديد من نصوص قانون الموازنة العامة.
فمن جهة فان المادة (77/ثانياً) من قانون الموازنة اشترطت على مجلس الوزراء ارسال جداول الموازنة للسنتين الماليتين (2024) و(2025) قبل نهاية السنة المالية الى مجلس النواب للموافقة عليها، وهو الامر الذي لم تلتزم به الحكومة الحالية بشأن جداول موازنة العام 2025؟
كما خالف قرار مجلس الوزراء الطريق والإجراءات التي رسمتها المادة (60) من قانون الموازنة التي اجازت لمجلس الوزراء إضافة تخصيصات مالية لسد النقص الحاصل في حساب مستلزمات وزارة الكهرباء الاتحادية، وليس تحويل ونقل العبء المالي الناجم عن العجز المالي الحاصل في الموازنة العامة من كاهل الحكومة إلى كاهل المواطن طالب الخدمة العامة في دوائر الدولة والقطاع العام، وبالأخص اذا ما علمنا ان المادة (61) من قانون الموازنة استثنت العجز المخطط بالموازنة العامة من احكام النسبة الواردة في المادة (6/رابعاً) من قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019 المعدل.
بعبارة أخرى فلا يجوز للحكومة ممثلة بمجلس الوزراء نقل عبء العجز الفعلي بين النفقات العامة والايرادات العامة نتيجة سوء الإدارة المالية من عاتق وزارة المالية والوزارات المعنية وفرضه على كاهل المواطن، لعدم وجود سند دستوري أو قانوني يجيز حجب الخدمة العامة عن طالبها.
يضاف لما تقدم فان الخدمات العامة التي يطلبها المواطن من دوائر الدولة والقطاع العام قد حددت مبالغ الرسوم الواجب استيفائها من قبل المواطن بموجب قوانين خاصة، كقانون جوازات السفر رقم (32) لسنة 2015 وغيره من القوانين ذات العلاقة، ومن ثم فلا يجوز للدائرة المكلفة بتقديم الخدمة حجبها او تعليق منحها على استيفاء شرط جديد لم ينص عليه في هذا القانون، حيث ان وظيفة الحكومة هي بيع هذه الخدمة للمواطن مقابل مبلغ مالي.
ولهذا فان لجوء الحكومة الى طرق غير قانونية لاستيفاء المبالغ الأخرى المستحقة من المواطن كفواتير الماء والكهرباء والهاتف لا يكون بالتطبيق غير السليم لنصوص القوانين النافذة أو بصورة مخالفة للإجراءات والشروط المحددة في القوانين الخاصة، كما لا يجوز استخدام امتيازات السلطة العامة لغرض اشتراط استيفاء مبالغ فواتير الماء والكهرباء والهاتف، وذلك لتحديد القوانين النافذة طرق تحصيل هذه المبالغ باتباع الطريق المنصوص عليها في قانون تحصيل الديون الحكومية رقم (56) لسنة 1977 المعدل، وقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل ذات العلاقة، التي تكون من خلال توجيه انذار لذوي العلاقة، ومن ثم يصار بعدها الى قطع الخدمة من قبل الجهات المستفيدة من مبالغ الجباية.
وبناء على ما تقدم من أسباب وحيثيات نرى ان قرار مجلس الوزراء حول الحكومة الحالية من حكومة الخدمات الى حكومة اذعان المواطن، مما يؤشر حصول تحول خطير في مفهوم الحكومة التي يفترض سهرها على تطبيق نصوص الدستور وحماية حقوق المواطنين وتقديم الخدمات العامة لهم، وليس اجبارهم على دفع المبالغ المرهقة لهم على الرغم من عدم استنادها لاسس دستورية وقانونية سليمة وعلى الرغم من عدم كفالة الحكومة لجميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، مما يجعل قرار مجلس الوزراء متصفاً بالتعسف في استعمال السلطة، ويجوز الطعن بعدم صحة قرار مجلس الوزراء وطلب إلغائه من قبل كل ذي مصلحة أمام المحكمة الاتحادية العليا وفقاً لاحكام المادة (93/ثالثاً) من الدستور.
وفي الوقت نفسه بالإمكان الطعن بهذا القرار أمام محكمة القضاء الإداري لغرض المطالبة بالحكم بعدم مشروعيته والمطالبة بالغائه.
فضلاً عن ذلك فإننا ندعو مجلس النواب إلى ممارسة دورهم الرقابي على اعمال الحكومة، والمطالبة بإلغاء هذا القرار، كونه يرهق كاهل المواطن، ويزيد من أعباء المعيشة المفروضة عليه في ظل عدم التزام الحكومة بتوفير الخدمات الفضلى في قطاع الماء والكهرباء، وتكبد المواطن أعباء النفقات الإضافية المفروضة عليه في قطاع الكهرباء الخاصة من قبل أصحاب المولدات الأهلية.
كما نطالب الحكومة بسحب هذا القرار باثر رجعي من تاريخ صدوره لعدم وجود سند دستوري أو قانوني يجيز لها تغطية وتمويل العجز المالي الحاصل لديها بهذه الطريقة، حيث توجد بدائل أخرى لمعالجة ذلك، ولا نؤيد المعالجة الواردة في هذا القرار، كونها جاءت مخالفة للقوانين النافذة التي رسمت الإجراءات الواجب اتباعها من قبل دوائر الماء والكهرباء المعنية في استيفاء فواتير الماء والكهرباء بالاليات القانونية، وليس بحجب الخدمة العامة وفقاً لما جاء به قرار مجلس الوزراء.



