الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
من النقد إلى التشويه: تحولات الخطاب الانتخابي في عصر الإعلام الرقمي

بقلم: د. حيدر الخفاجي
يمثل النقد السياسي أحد الأعمدة الأساسية في البناء الديمقراطي الحديث، إذ يُعدّ وسيلة فكرية تحليلية تهدف إلى تقويم الأداء السياسي ومساءلة السلطة وكشف الأخطاء والانحرافات، فالنقد ليس عملية هدم أو خصومة، بل هو تعبير عن وعي مجتمعي يسعى إلى إصلاح السياسات العامة وتحسين إدارة الشأن العام.
غير أنّ هذا المفهوم النبيل تعرّض في السنوات الأخيرة لتحديات عميقة مع بروز الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي، حيث تداخلت مفاهيم النقد، والتشهير، والدعاية، والتضليل، في فضاء مفتوح بلا ضوابط واضحة ،بالتالي انتقل الخطاب السياسي، ولا سيما الانتخابي منه، من النقد البنّاء القائم على التحليل إلى النقد الهدّام الذي يعتمد على الإساءة والتشويه.
أولًا: مفهوم النقد السياسي وأهميته في النظام الديمقراطي
النقد السياسي هو نشاط فكري تحليلي يهدف إلى تقييم ممارسات الفاعلين السياسيين من أحزاب، أو حكومات، أو مؤسسات عامة من أجل الكشف عن الأخطاء والقصور وتقديم الحلول الممكنة، وهو يُعدّ شكلاً من أشكال الرقابة الشعبية التي تمنع احتكار السلطة وتحافظ على التوازن بين الحاكم والمحكوم.
وتكمن أهمية النقد السياسي في أنه: يحفّز التطوير المستمر للمؤسسات الحكومية والحزبية، و يمنع تراكم الأخطاء أو تحولها إلى أزمات سياسية، كما يرسّخ مبدأ المساءلة السياسية، وهو أحد أعمدة الحكم الرشيد، مما يعزز الثقة بين المواطن والدولة من خلال شفافية التواصل.
و يُنظر إلى النقد السياسي في المجتمعات الديمقراطية كحق للمواطن وواجب على النخب المثقفة والإعلامية، لأنه يُسهم في تصحيح مسار السياسات العامة وضمان التزامها بالمصلحة الوطنية.
ثانيًا: أهداف ووظائف النقد السياسي
يتجاوز النقد السياسي مجرد إبداء الرأي، فهو عملية فكرية لها أهداف واضحة، من أهمها:
-
التقويم والإصلاح: من خلال تحليل القرارات والسياسات ومقارنتها بالمعايير الدستورية والمجتمعية.
-
تعزيز الشفافية والمساءلة: إذ يُعد النقد وسيلة لرقابة الشعب على ممثليه في الحكم.
-
كشف الفساد والانحرافات: فالنقد الموضوعي يسهم في فضح الممارسات غير القانونية.
-
نشر الوعي السياسي: عبر تمكين الجمهور من فهم القضايا الوطنية والتمييز بين الحقيقة والدعاية.
-
ترسيخ المشاركة السياسية: فالنقد الواعي يشجع المواطن على الانخراط في الشأن العام بدلًا من اللامبالاة.
ثالثًا: أنواع النقد السياسي: يمكن التمييز بين نوعين أساسيين من النقد السياسي بحسب الغاية والوسيلة:
-
النقد البنّاء: هو النقد الذي يسعى إلى التطوير والإصلاح عبر التحليل الموضوعي وتقديم الحلول الواقعية. يعتمد على المعلومات الموثوقة ويبتعد عن التجريح الشخصي، مركزًا على السياسات لا الأشخاص، ويتسم النقد البنّاء بخصائص عدة، منها: الاعتماد على الأدلة والبيانات الدقيقة، مع احترام الرأي الآخر والحفاظ على الكرامة الإنسانية، اضافة الى طرح البدائل الممكنة بدل الاكتفاء بالاعتراض، والالتزام بروح المسؤولية الوطنية.
-
النقد الهدّام: وهو النقد الذي يهدف إلى التشويه وإسقاط الخصوم السياسيين دون نية للإصلاح، وغالبًا ما يقوم على الإشاعات والمعلومات المضللة، ويتصف هذا النوع من النقد بالتحريض، والتهجم، واستغلال العواطف الجماهيرية، مما يحوّل الخطاب السياسي إلى ساحة من الصراع الشخصي.
رابعاً: الإعلام الرقمي وتحولات الخطاب السياسي
أحدثت الثورة الرقمية انقلابًا في مفهوم الاتصال السياسي، فقد انتقل الخطاب السياسي من الوسائط التقليدية إلى فضاءات رقمية مفتوحة، وأصبح أي مواطن قادرًا على المشاركة في صياغة الرأي العام، فلم يعد السياسي يعتمد على المنابر الرسمية وحدها، بل بات يستخدم شبكات التواصل الاجتماعي مثل “إكس” و”فيسبوك” و”تيك توك” كقنوات للتواصل المباشر مع الجمهور.
وقد فرضت البيئة الرقمية لغة أكثر بساطة وسرعة وتفاعلًا. فالمستخدمون يفضلون الرسائل المختصرة والصور والفيديوهات القصيرة، ما جعل الخطاب السياسي يميل إلى العاطفة والشعبوية بدل التحليل العقلاني،كما لم يعد الجمهور متلقيًا سلبيًا، بل أصبح شريكًا في إنتاج الرسالة السياسية من خلال التعليق والمشاركة وإعادة النشر، مما حول الاتصال من نموذج عمودي إلى نموذج أفقي تفاعلي، مما ادى الى فقدان النخب السياسية والإعلامية قدرتها على احتكار المعلومة، وأصبح المجال العام أكثر ديمقراطية من حيث الوصول، لكنه أيضًا أكثر فوضوية من حيث المضمون.
خامساً: من النقد إلى التشويه في الخطاب الانتخابي:
في السياق الانتخابي، يتجلى التحول من النقد إلى التشويه بأوضح صوره. فبدل أن تكون الحملات الانتخابية ساحة لتقديم البرامج ومناقشة القضايا العامة، أصبحت منصات رقمية لنشر الشائعات والهجمات الشخصية، من خلال استخدام أدوات مثل الصور المعدلة والمقاطع المفبركة والحسابات الوهمية في تشويه سمعة المنافسين، بينما يتم التلاعب بالرأي العام عبر الإعلانات الموجهة وخوارزميات التفاعل، هذا الانحراف جعل الخطاب الانتخابي الرقمي أكثر انقسامًا، وأضعف ثقة المواطنين بالعملية الديمقراطية، وحوّل النقد إلى أداة لتصفية الحسابات بدلًا من الإصلاح السياسي.
لقد غيّر الإعلام الرقمي شكل الخطاب السياسي ومضمونه، وجعل المجال العام أكثر انفتاحًا وتفاعلية، إلا أن هذا الانفتاح، إذا لم يرافقه وعي نقدي وأخلاقي، يتحوّل إلى فوضى تضعف الحياة الديمقراطية وتشوّه الممارسة الانتخابية، وإنّ حماية النقد السياسي من التحول إلى تشويه تتطلب بناء وعي جماعي يقوم على التفكير النقدي، والتمحيص، والاحترام المتبادل ولمواجهة هذه التحولات، تبرز الحاجة إلى ثقافة نقدية رقمية ترتكز على الوعي والمسؤولية، وتتضمن ما يلي:
-
تعزيز التربية الإعلامية لدى الأفراد لتمييز المعلومات الصحيحة من المضللة.
-
فرض تشريعات تحمي حرية التعبير وتحد في الوقت نفسه من خطاب الكراهية والتشهير.
-
تطوير معايير مهنية للخطاب السياسي الرقمي توازن بين الحرية والمسؤولية.
-
دعم المبادرات الأكاديمية والمدنية التي تروّج للنقد البنّاء والحوار الرصين.



