منذ بداية القرن الحادي والعشرين، اتخذ النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها، وبتنسيق وثيق مع (إسرائيل)، منحىً تصاعديًا في تحييد وتصفية الأنظمة السياسية التي تبنت مواقف معادية للمشروع الصهيوني أو وقفت في وجه الترتيبات الجديدة للمنطقة.
فمن غزو العراق سنة 2003، إلى تفكيك سوريا وتحجيم حزب الله في لبنان، ثم الحصار العسكري والأمني لإيران، يُرصد نمط متصل من العمليات السياسية والعسكرية والإعلامية، هدفه الأساسي هو تفكيك بنية محور المقاومة.
في هذا السياق، تبدو الجزائر اليوم مرشحة للانتقال إلى واجهة الصراع، باعتبارها الدولة العربية الوحيدة التي لا تزال تُجاهر-على الأقل إعلاميا وداخل المنتديات الدولية – بعدائها (لإسرائيل)، وتُبقي على تقاربها مع إيران بل تسعى جاهدة لربط صنيعتها البوليساريو بالحرس الثوري الإيراني، وترفض الانخراط في مسار التهدئة مع (إسرائيل). فهل يأتي الدور عليها؟ وهل تتحول الجزائر إلى هدف جديد في استراتيجية “التحييد الناعم أو الخشن” التي عرفتها المنطقة؟
من العراق إلى إيران… نحو هندسة الشرق الأوسط الجديد
يرصد المتتبع لتطورات المشهد في (الشرق الأوسط) وشمال إفريقيا نسقًا متكرّرًا في استهداف الأنظمة التي تبنّت خطابًا معاديًا للهيمنة الغربية أو لوجود (إسرائيل) ،فالمتتبع لسياق الأحداث في المنطقة نجد أن أغلب الأنظمة المستهدفة هي تلك التي تعارض الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الغربية ومن بينها العراق المتهم بمعاداة (إسرائيل) والتعاون مع ايران وحلفائها، كما تفجّرت الأزمة السورية في سنة2011 بدفع خارجي وتحولت إلى حرب متعددة الأطراف، أضعفت الدولة المركزية في دمشق، وقبل ذلك دفعت الضغوط الدولية واغتيال الحريري إلى خروج القوات السورية من لبنان، وتحييد نفوذها الإقليمي، أما في لبنان /حزب الله وما بين 2006- 2025 ونجاحه في مناوشة (إسرائيل) وإبقاءها في حالة إشغال ورغم صموده الكبير، تعرض حزب الله لاستنزاف مستمر منذ حرب 2006،تمثل في حصار مالي، واغتيالات متتالية لقياداته بمن فيهم السيد حسن نصر الله، وصولًا إلى فرض وقف إطلاق النار في حربه ما بعد 7 تشرين الاول 2023، أما إيران نفسها فقد تعرضت لهجوم مباغت من (إسرائيل) في 13 حزيران 2025 وهجمات متكررة بطائرات مسيرة داخل أراضيها، واغتيالات علمية وقيادات عسكرية رفيعة ، في ظل حصار اقتصادي وتجاري خانق، وما تبعها من ردود وهجمات صاروخية على (إسرائيل) وكنتيجة لكل هذا تم التحييد التدريجي للفاعلين المعادين (لإسرائيل)، سياسيًا وعسكريًا.
الجزائر تحت المجهر أو “الحلقة الأخيرة”؟
بعد انخراط معظم الدول العربية في مسار التطبيع أو “الحياد الإيجابي”، تبقى الجزائر لحد الآن في خطابها العلني معادية (لإسرائيل) فهي ترفض التطبيع علنًا، وتصفه بـ”الخيانة” كما تظهر بمظهر الدفاع عن فلسطين في المحافل الدولية وتحتفظ بعلاقات متوازنة مع إيران، وتعارض العقوبات عليها وتعرقل مشروع النفوذ (الإسرائيلي) في إفريقيا، خاصة في الاتحاد الإفريقي وبهذا، تتحول الجزائر إلى صوت نشاز في أوركسترا التطبيع، وهو ما يضعها موضوعًا مرشحًا للتأديب الجيوسياسي أو الاستنزاف الممنهج، كما أن تحالف الجزائر مع إيران… عامل تفجير محتمل ، ورغم أن الجزائر ليست حليفًا عسكريًا واضحا لإيران، فقد أبانت عن دعمها السياسي غير المشروط لطهران في أزمات عدة ، ورفضها الانخراط في سياسة الحصار والعقوبات الاقتصادية ،كما خفضت من تمثليها في بعض القمم العربية بسبب المواقف من إيران، كل ذلك يجعل منها في نظر الغرب و(إسرائيل) عنصرًا غير منضبط، ويعزز فرضية التعامل معها لاحقًا بنفس آليات تفكيك الممانعة التي استُخدمت ضد غيرها.
أدوات تطويع النظام الجزائري المحتملة
إن استهداف النظام الجزائري قد لا يأخذ شكل غزو عسكري مباشر، لكنه قد يتجلى في تفعيل بعض أدوات الصراع والتدمير الداخلي عن طريق إعادة تفعيل ملف منطقة القبائل، بدعم خارجي إعلامي وحقوقي خاصة أن القبائل تملك وجود مادي في فرنسا عن طريق حكومة منفى.
ثم إذكاء الحدود الجنوبية عبر التوترات مع النيجر ومالي. وأيضا المساهمة في خلق “حراك ثانٍ” بأجندة أكثر راديكالية تتبنى خطاب قويا ضد النظام الجزائري، ثم لا ننسى العزلة الدبلوماسية باستخدام ملفات حقوق الإنسان و”الحريات” خاصة أمام القمع الذي يمارسه النظام ضد معارضيه أخرهم ” بوعلام صنصال ” ، كل هذه الأدوات تدخل ضمن ما يُعرف بـ”الاستنزاف الناعم”، دون الحاجة لمواجهة عسكرية مفتوحة، كما لا ننسى التحالف المغربي -الفرنسي ثم التطبيع مع (إسرائيل) الذي تراجع نوعا ما بسبب الحرب على غزة ،إذ لا يمكن إغفال التقارب الكبير بين المغرب وفرنسا ، بدعم أمريكي ، ومن تجلياته تقوية المغرب عسكريًا واستخباراتيًا.
وتوسيع نطاق التطبيع ليشمل الأمن، الزراعة، التكنولوجيا العسكرية، ودعم مشروع الحكم الذاتي في الصحراء المغربية على حساب المشروع الجزائري التوسعي، وبالتالي، يمكن اعتبار الجزائر في حالة تطويق جيوسياسي غير معلن، يهدف إلى الحد من حركتها الإقليمية.
في ضوء ما سبق، يبدو أن الجزائر مرشحة بقوة لأن تكون الملف التالي في “هندسة التوازنات” الجديدة في المنطقة، فرفض التطبيع، والتقارب مع إيران، ومعادة (إسرائيل)، كلها باتت عناصر مكلفة في النظام الإقليمي الجديد، ويبقى السؤال هل تملك الجزائر القدرة على الصمود بخطابها في زمن الاصطفاف؟ أم أنها ستلقى مصير من سبقوها في مسار الممانعة؟