الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

أوهام الهند في موقع القوة العظمى

كيف تُعيق الاستراتيجية الشاملة في نيودلهي تحقيق طموحاتها الكبرى

بقلم: آشلي ج. تيليس

ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

منذ بداية الألفية الجديدة سعت الولايات المتحدة إلى دعم صعود الهند كقوة عظمى، خلال فترة رئاسة جورج دبليو بوش وافقت واشنطن على صفقة كبيرة مع نيودلهي قدمت دعمًا لبرنامج الهند المدني للطاقة النووية رغم تطوير الهند المثير للجدل لأسلحة نووية. في عهد إدارة أوباما بدأت الولايات المتحدة والهند تعاونًا في المجال الدفاعي الصناعي بهدف تعزيز القدرات العسكرية للهند ومساعدتها على تعزيز نفوذها، خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب بدأت الولايات المتحدة بمشاركة معلومات استخباراتية حساسة مع الهند وجعلتها مؤهلة للحصول على تقنيات متقدمة كانت محصورة سابقًا على حلفائها فقط، وتحت إدارة جو بايدن قدمت واشنطن لنيودلهي تكنولوجيا محركات طائرات مقاتلة متطورة، عززت كل من هذه الإدارات التعاون الدبلوماسي والتكنولوجي والعسكري مع الهند متجسدة في وعد بوش “بمساعدة الهند على أن تصبح قوة عالمية كبرى في القرن الحادي والعشرين”.

كان الدافع وراء هذا الوعد بسيطًا أرادت واشنطن تجاوز الخلافات التي خلفتها حقبة الحرب الباردة التي قسمت بين أكبر ديمقراطيتين في العالم، مع انهيار الاتحاد السوفيتي لم يعد هناك سبب لأن تكون الهند والولايات المتحدة على طرفي نقيض، علاوة على ذلك تربطهما علاقات شعبية عميقة حيث لعب المهاجرون الهنود دورًا متزايدًا في تشكيل الاقتصاد الأميركي فيما فتحت إصلاحات نيودلهي الاقتصادية بعد الحرب الباردة أبوابها أمام الشركات ورؤوس الأموال الأميركية. وخلف هذه التحولات تكمن فرصة جيوسياسية أعمق، إذ أدرك مسؤولون من البلدين وجود مصالح مشتركة كثيرة بما في ذلك مكافحة الإرهاب الإسلامي، والأهم من ذلك التصدي لخطر صعود الصين مع الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي، واستنتجت واشنطن بشكل صحيح أن هندًا أقوى تعني الولايات المتحدة أقوى. لكن الهند والولايات المتحدة ليستا متوافقتين في كل القضايا، لا ترغب نيودلهي في عالم تكون فيه واشنطن القطب الأوحد والهيمنة الدائمة، بل تسعى إلى نظام دولي متعدد الأقطاب تكون فيه الهند قوة عظمى حقيقية، تهدف إلى تقييد ليس فقط الصين – التحدي القريب – بل وأي دولة تطمح إلى هيمنة أحادية بما في ذلك الولايات المتحدة.

تعتقد الهند أن تعدد الأقطاب هو مفتاح السلام العالمي وصعودها في الوقت ذاته، فهي تحرص بشدة على استقلالها الاستراتيجي متجنبة التحالفات الرسمية وتحافظ على علاقات مع خصوم الغرب مثل إيران وروسيا حتى مع تعمق قربها من الولايات المتحدة، ويهدف هذا السلوك إلى دعم نظام دولي متعدد الأقطاب لكن هذا النهج قد لا يكون فعالًا أو واقعيًا، فبالرغم من نمو الاقتصاد الهندي خلال العقدين الماضيين الا ان معدل نموه غير كافٍ لموازنة الصين ناهيك عن الولايات المتحدة حتى على المدى البعيد. من المتوقع أن تصبح الهند قوة كبرى من حيث الناتج المحلي الإجمالي النسبي بحلول منتصف القرن لكنها لن تصل إلى مرتبة قوة عظمى، من الناحية العسكرية تُعد الهند القوة التقليدية الأكثر أهمية في جنوب آسيا لكن ميزتها على منافسها المحلي ليست كبيرة، ففي القتال الذي دار في أيار استخدمت باكستان منظومات دفاعية صينية لإسقاط طائرات هندية، ومع وجود الصين على جانب واحد وباكستان الخصم على الجانب الآخر، يجب على الهند دائمًا أن تخشى احتمال خوض حرب على جبهتين غير مرغوب فيهما. وفي الداخل تخسر الهند أحد مصادر قوتها الرئيسية – ديمقراطيتها الليبرالية – بتبنيها القومية الهندوسية، وقد يُضعف هذا التحول صعود الهند من خلال تأجيج التوترات الطائفية وتفاقم المشاكل مع جيرانها ما قد يضطرها إلى إعادة توجيه الموارد الأمنية نحو الداخل على حساب قدرتها على إسقاط القوة خارجيًا، كما يقوّض التحول غير الليبرالي للنظام الهندي النظام الدولي القائم على القواعد الذي خدمها بشكل جيد.

ضعف الهند النسبي وتوقها إلى تعددية الأقطاب ومسارها غير الليبرالي تعني أنها ستمتلك نفوذًا عالميًا أقل مما تطمح إليه حتى عندما تصبح قوة كبرى بوجه حق، قد يُفترض أن تصبح الهند بصفتها الاقتصاد الرابع أو ربما الثالث عالميًا قوة مؤثرة بشكل كبير لكن هذا لن يتحقق فعليًا، وحتى بحلول عام 2047 – مئوية استقلالها – قد تضطر الهند إلى الاعتماد على شركاء خارجيين لمواجهة نفوذ الصين. وبسبب عدم ارتياحها المستمر للتحالفات أو حتى للشراكات الوثيقة قد يكون تأمين الدعم الخارجي أمرًا صعبًا خاصة مع تزايد طبيعة السياسة الخارجية الأميركية المعتمدة على المصالح والصفقات واحتمال تحول واشنطن إلى اعتبار نيودلهي منافسًا، في العقود القادمة ستصبح الهند بلا شك أقوى لكنها ستكون أقل قدرة على ترجمة هذه القوة إلى نفوذ فعّال مع تقليل تأثيرها العالمي.

التوقعات الكبرى

     خلال معظم فترة الحرب الباردة ظل أداء الاقتصاد الهندي أقل من إمكاناته الكامنة، فرغم تمكن الهند من تجاوز فترة الركود الاقتصادي التي صاحبت العقود التي سبقت استقلالها لم تتجاوز معدلات النمو السنوية 3.5% في الفترة ما بين 1950 و1980، وهو معدل ضعيف مقارنة بالدول النامية الأخرى، شهدت ثمانينيات القرن الماضي تحسناً نسبياً في معدل النمو ليصل إلى حوالي 5.5% نتيجة بداية تطبيق إصلاحات اقتصادية محدودة، إلا أن هذه الوتيرة ظلت متواضعة مقارنة بالدول الآسيوية المنافسة.

في عام 1991 أطلق رئيس وزراء الهند ناراسيما راو ووزير المالية مانموهان سينغ إصلاحات اقتصادية جذرية قضت على نظام “الرخصة راج” الذي كان يعيق النمو بسبب القيود التنظيمية المفرطة والسياسات الحمائية والأسواق المغلقة، هذه الإجراءات أسهمت في تعافي الاقتصاد الهندي بحلول منتصف التسعينيات حيث شهد الناتج المحلي الإجمالي معدلات نمو سنوية مستدامة بلغت نحو 6.5% وهو إنجاز طويل الأمد وغير مسبوق في تاريخ الهند الاقتصادي، وأسهم هذا النمو في رفع مستويات المعيشة ودمج الهند بشكل أعمق في الاقتصاد العالمي مما عزز من مكانتها كشريك اقتصادي مهم بالنسبة للولايات المتحدة التي تراها رافعة محتملة لموازنة القوة الإقليمية ضد الصين. رغم هذه الإنجازات لا تزال الهند متخلفة عن الصين التي شهدت تحولات اقتصادية ضخمة منذ انفتاحها الاقتصادي في أواخر السبعينيات حيث حقق اقتصادها معدلات نمو سنوية تقارب 9% مع تسجيل أرقام مزدوجة في النمو عدة مرات بين 1979 و2023، وفقًا لبيانات البنك الدولي، بالمقابل لم تحقق الهند نمواً بمعدلات مزدوجة مطلقاً مما أدى إلى توسع اقتصادي للصين يفوق الهند بحوالي خمسة أضعاف في الوقت الراهن. علاوة على ذلك استثمرت الصين ثروتها في تعزيز قوتها العسكرية وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في منطقة الهندو – باسيفيك مما منحها تأثيرًا إقليميًا وعالميًا يفوق بكثير نفوذ الهند، هذا الواقع يفسر تحفظ نيودلهي الحذر من المواجهة المباشرة مع بكين، حتى في ظل الدعم الأمريكي.

ويُعرب المسؤولون الهنود عن تطلعهم إلى مضاهاة الصين في المستقبل خاصة مع تباطؤ النمو الصيني خلال العقد الماضي ليصل إلى معدلات بين 4 و5% سنويًا مقابل استمرار النمو السكاني الهندي ما يمنحها ميزة ديموغرافية محتملة على المدى المتوسط، كما تواجه الصين تحديات هيكلية تشمل أزمة العقارات وارتفاع الديون وتزايد العقوبات الغربية، فضلاً عن الشيخوخة السريعة لسكانها التي تقلص من قوة عملها. غير أن هذه العوامل لا تضمن لحكومة نيودلهي تجاوز الصين اقتصاديًا، توقعات النمو الحالية تشير إلى استمرار الهند في تحقيق معدل نمو سنوي يبلغ حوالي 6% خلال العقدين المقبلين في حين قد تنمو الصين بمعدل 2% أو أكثر، لذا بحلول منتصف القرن قد يصل الناتج المحلي الإجمالي للهند إلى أكثر من نصف حجم نظيره الصيني لكن الصين ستظل متفوقة اقتصاديًا بشكل كبير، كما أن التحديات الهيكلية التي تواجهها الهند بما في ذلك ضعف قطاع التصنيع والسياسات الحمائية والاستثمار المحدود في البحث والتطوير ورأس المال البشري، قد تقيد من قدرتها على تسريع النمو. تتمتع الصين بمزايا تنافسية بارزة مثل عدد كبير من السكان المتعلمين والأصحاء وتقنيات متقدمة ورأسمال وفير واستثمارات ضخمة في مجالات حيوية كالذكاء الاصطناعي والروبوتات وتخزين الطاقة وتقنيات المعلومات والاتصالات ما قد يساعدها على تجاوز التحديات الديموغرافية والاقتصادية، في ضوء هذه المعطيات يتوقع أن تصبح الهند قوة عظمى بحلول منتصف القرن لكنها ستكون الأضعف ضمن مجموعة الدول الكبرى التي تضم الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولن تصل إلى مستوى المنافسة الاقتصادية الكاملة مع الصين أو الولايات المتحدة.

النهج الهندي

     إذا أرادت نيودلهي احتواء بكين فإنها ستحتاج بالتالي إلى واشنطن، لا توجد قوة في منطقة الهندو – باسيفيك حتى أستراليا أو اليابان ستكون قوية بما يكفي بحلول عام 2050 لتعويض غياب الولايات المتحدة، قد يمتلك الاتحاد الأوروبي القدرة الاقتصادية والعسكرية الجماعية لذلك، إلا أن أعضائه لا يشعرون بتهديد من الصين كما هي الحال مع دول الهندو – باسيفيك، لذلك يجب على نيودلهي وواشنطن أن تستمرا في التعاون في السنوات المقبلة. لكن من يتوقعون صداقة بلا حدود سيُخيب أملهم، فبالرغم من نقاط ضعفها لن ترضى الهند بأي تحالف رسمي مع الولايات المتحدة وسيكون هناك حدود لشراكتهما، ذلك لأن الهند لا ترغب في الانضمام إلى أي ترتيبات دفاعية جماعية بل تحرص على الحفاظ على وضعها المستقل وغير التابع لأي تحالف.

يرجع هذا الموقف جزئياً إلى الإرث الاستعماري للهند حيث تعهد أول رئيس وزراء جواهر لال نهرو بأن الهند لن تصبح “تابعة” لأي قوة كبرى نظراً لما عانته من حكم بريطاني استمر قروناً، لكن الأمر لا يقتصر على التاريخ فقط فنيودلهي تؤمن بأن القوة الصاعدة يجب ألا تقيد حرية تحركها بأي تنازلات أو قيود أثناء مراحل صعودها، يخشى صانعو القرار الهنود أن تقبل القيود المرتبطة بالتحالفات خصوصاً ضمن تكتلات تضم قوى أعظم قد تؤدي إلى إخضاع البلاد وتقيد قدرتها على المناورة بين الانقسامات الجيوسياسية العالمية، بوجه عام تعتمد نيودلهي على تصور واقعي للعلاقات الدولية لا تثق بأن الدول تتصرف إلا بدافع المصالح الذاتية وتتوقع أن تحصل على الدعم الخارجي فقط إذا كان له فائدة للجهة المانحة، وبناء عليه تتوقع الهند أن تدعمها الولايات المتحدة وأطراف أخرى في مواجهة الصين دون الحاجة إلى تقديم تنازلات كبيرة. في ضوء هذا التقييم ستواصل نيودلهي دفع النظام الدولي نحو تعددية الأقطاب حتى لو لم يكن ذلك مرغوباً من واشنطن، في 2004 أكد رئيس الوزراء أتّال بهاري فاجبايي هذا الطموح قائلاً “الهند لا تؤمن بأن الأحادية القطبية هي حالة توازن في عالم اليوم”، وأضاف أن الهند ستعمل على بناء “عالم تعاوني متعدد الأقطاب يستوعب الطموحات والمصالح المشروعة لجميع أقطابه”، تشارك قوى سياسية متعددة في الهند هذا التصور معتبرين تعددية الأقطاب هي الحالة الطبيعية للنظام الدولي وأن النظام الدولي في طريقه إلى ذلك وأن تعددية الأقطاب ضرورية للسلام العالمي لأنها تمنع دولة واحدة من فرض إرادتها على الآخرين.

يرى وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار في كتابه عام 2020 “النهج الهندي استراتيجيات لعالم غير مؤكد” أن نيودلهي ينبغي أن تعزز مصالحها الوطنية من خلال “تحديد واستغلال الفرص التي تخلقها التناقضات العالمية” لتحقيق أقصى استفادة “من أكبر عدد ممكن من العلاقات”، وهو يعتقد أن النظام الأحادي القطبية يقوض هذه الاستراتيجية لأنه يحرم الهند من فرصة استخدام قوى مختلفة ضد بعضها البعض، النظام الثنائي القطبية أكثر ملاءمة إذ خلال الحرب الباردة استغلت الهند التنافس بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة لصالحها، لكن تعددية الأقطاب هي الأفضل لأنها توفر المزيد من الانقسامات والتوافقات التي يمكن للهند استغلالها.

على أرض الواقع تسعى الهند إلى إقامة شراكات متنوعة مع دول ومنظمات مختلفة حتى لو كانت بعض هذه الشراكات مع جهات ذات أجندات معادية لأمريكا، غالباً ما تلعب نيودلهي دور القوة المعتدلة في هذه الأطر مما يعود بالنفع على الولايات المتحدة، لكن في الوقت نفسه وبالرغم من تعميق علاقاتها الثنائية مع واشنطن تمارس الهند أحياناً ضغوطاً للحد من النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية الكبرى، فقد رفضت الهند على سبيل المثال سياسات أمريكية في مجالات مثل المناخ والتجارة وخصوصية البيانات وقواعد التجارة الإلكترونية والحكم العالمي. وحتى في السياسة العليا عارضت العقوبات الأمريكية على دول حليفة وساندت دول الجنوب العالمي في حملتها ضد الهيمنة الغربية وحافظت على علاقاتها التقليدية مع دول مثل إيران وروسيا رغم الحرب المدمرة التي تشنها الأخيرة في أوكرانيا، كما حرصت على الحفاظ على علاقات مستقرة مع الصين متى ما أمكن التعاون للحفاظ على حد أدنى من السلم على الحدود المشتركة، وعلى عكس واشنطن لا تستطيع نيودلهي تحمل التقلبات العنيفة في علاقتها مع بكين وقد تقرب نفسها من الصين إذا ما استدعت الظروف ذلك.

حتى الآن لم تحقق هذه الجهود الهندية تقدمًا ملموسًا في جعل العالم أكثر تعددية أقطاب مما هو عليه، وإذا استمرت الاتجاهات الاقتصادية الحالية ستظل تعددية الأقطاب الحقيقية بعيدة المنال وسيظل العالم ثنائي القطبية مع بقاء الصين والولايات المتحدة في موقع الهيمنة بحلول منتصف القرن، في هذه الحالة قد تجد الهند نفسها في موقف صعب إذ ستثير استياء واشنطن عبر استمرار مشاركتها في منتديات غير غربية مثل “بريكس” ومنظمة شنغهاي للتعاون حيث تمتلك بكين نفوذاً أكبر من نيودلهي، وقد نجت الهند حتى الآن من هذا المأزق لأن إدارات أمريكية متعاقبة تجاهلت تلك المواقف لكن إدارة أكثر تحفظاً أو قومية مثل إدارة ترامب قد تعاقب الهند على ذلك، على سبيل المثال محاولة نيودلهي إجراء بعض تعاملاتها الثنائية بعملات محلية بدلاً من الدولار الأمريكي بهدف الحماية من العقوبات الأمريكية على دول ثالثة قد تؤدي إلى تقليص التعاون الأمريكي مع الهند. وعلى الرغم من ذلك ينبغي أن تحذر الهند من تعددية الأقطاب لأسباب أخرى أيضاً، ففي نظام متعدد الأقطاب حقيقي ستستفيد نيودلهي أقل من الخدمات الجماعية التي تقدمها الولايات المتحدة مثل حماية ممرات الملاحة البحرية في المحيط الهندي، ولتعويض ذلك سيتوجب على الهند تحمل أعباء مالية وأمنية أكبر مما هي مستعدة له حالياً، كما قد تفشل في موازنة القوة الصينية إذا قررت القوى الكبرى الأخرى (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) ترك الهند – الأضعف بينهما – تواجه تحدياتها بمفردها، في ظل تعددية الأقطاب قد تكون الهند في وضع أسوأ مما هي عليه تحت الهيمنة الأحادية الأمريكية أو الثنائية الأمريكية – الصينية، بناءً عليه فإن استراتيجية الهند الحالية – المتمثلة في السعي للحفاظ على دعم أمريكي مستمر في الوقت الذي تعزز فيه نظاماً متعدد الأقطاب يحد من قوة واشنطن – هي استراتيجية غير منتجة وغير حكيمة.

طغيان الأغلبية

     لن تتحدد مكانة الهند كقوة عظمى فقط من خلال تعاملها مع الدول الأخرى بل ستتبلور أيضاً من خلال سياساتها الداخلية وفي هذا الجانب تشهد البلاد تحولاً عميقاً وخطيراً، لعدة عقود كانت الهند مثالاً ناجحاً للديمقراطية، فمنذ نيل استقلالها عام 1947 أجرت البلاد 18 انتخابات وطنية بمعدل إقبال انتخابي بلغ نحو 60% وزاد مع مرور الزمن، وما يميز الديمقراطية الهندية أيضاً هو منح حق التصويت لجميع البالغين منذ البداية بغض النظر عن الجنس أو الطائفة أو الوضع الاقتصادي إضافة إلى التمتع بحقوق أساسية مثل الحرية والمساواة وحرية الدين مع إمكانية اللجوء للقضاء لفرض هذه الحقوق، رغم أن الحكومة علّقت هذه الحقوق مؤقتاً بين 1975 و1977 خلال إعلان حالة الطوارئ التي مكنت رئيسة الوزراء آنذاك إنديرا غاندي من الحكم استبدادياً وسجن المعارضين، فإن الشعب الهندي قاوم هذه الاستبداد وأطاح بها في الانتخابات التي أجريت بعد ذلك. ما جعل الديمقراطية الهندية أكثر استثنائية هو ازدهارها في ظروف غالباً ما تفشل فيها الديمقراطيات، إذ أظهرت الأبحاث أن نجاح الديمقراطية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى الدخل الفردي، وغالباً ما تحولت الدول الفقيرة في العالم الثالث إلى أنظمة استبدادية بعد الاستقلال، إلا أن الهند كاستثناء تمكنت من الاستمرار ديمقراطياً رغم فقرها بفضل إدارتها السياسية القائمة على المنافسة المفتوحة.

ويرجع هذا النجاح جزئياً إلى دستور الهند الذي يحتوي على عدة مواد تضمن احترام جميع المواطنين، فمثلاً لحماية الأقليات من طغيان الأغلبية عرف الدستور المواطنة على أساس “حق الأرض” (مكان الولادة) وليس على أساس الانتماءات الدينية أو العرقية أو الاقتصادية، كما وفر الدستور للأقليات حقوقاً قانونية مهمة منها حق إدارة مؤسساتها الدينية والخيرية بالإضافة إلى الحرية الدينية العامة، وأقام النظام الفيدرالي من خلال تقسيم الهند إلى ولايات لغوية متعددة ليحمي التنوع الثقافي، كما فرض الدستور ضوابط على السلطة التنفيذية عبر تقوية سلطات التشريع والقضاء على المستويين الفيدرالي والإقليمي وخلق مساحة للمجتمع المدني حيث يمكن للمواطنين ممارسة حقوقهم في التعبير والتجمع والتنظيم. هذا ما جعل النظام السياسي الهندي لا ديمقراطياً فحسب بل ليبرالياً أساسياً، كما قال نهرو كان مؤسسو الهند يسعون “لخلق مجتمع عادل باستخدام وسائل عادلة”، وأثبتوا أن دولة فقيرة يمكنها حماية الحقوق الفردية ورفض الاستبداد رغم الوعد الاقتصادي للنظم الاستبدادية.

لكن اليوم تبتعد الهند عن هذا الإرث، فبينما ظلت الهند في الحرب الباردة ليبرالية رغم أدائها الاقتصادي الضعيف فإنها اليوم رغم نجاحها الاقتصادي تشهد صعوداً لتيارات غير ليبرالية واستبدادية، فالتقاليد العلمانية التي طالما تميزت بها الهند تُستبدل الآن بالهندوسية القومية التي ترى الهند أرضاً للهندوس وتعتبر الأقليات الدينية مواطنين من الدرجة الثانية على أقل تقدير. هذه الأيديولوجيا المعروفة بـ”هندوتفا” التي رفضها مؤسسو الهند وتم تهميشها عادت للظهور في السياسة الهندية منذ التسعينيات وبرزت عبر حزب بهاراتيا جاناتا الذي وصل إلى السلطة لأول مرة أواخر التسعينيات ثم بقوة أكبر منذ 2014 مع تولي ناريندرا مودي، وقد أدى صعود هذا التيار إلى سياسات عزلت نحو 200 مليون مسلم و30 مليون مسيحي في الهند، وحاول الحزب توحيد الهندوس من الطوائف الأدنى سابقاً لتشكيل كتلة انتخابية موحدة يبلغ عددها نحو مليار نسمة في ظل محاولات لهندوس قوميين للترويج لفكرة أن العديد من الديانات الهندية الأخرى مثل البوذية والجاينية والسيخية هي في الأصل شكل من أشكال الهندوسية، كل ذلك يأتي ضمن رؤية ترى أن الأديان التي نشأت في شبه القارة الهندية فقط هي الأديان الهندية الحقيقية.

هذا الهجوم على المبادئ العلمانية للدستور الهندي رافقه تصاعد في الاتجاهات الاستبدادية لكن دون تعديل مباشر للدستور (رغم أن بعض الأصوات دعت لاستبداله)، بدلاً من ذلك تم تآكل الأعراف الأساسية المتعلقة بالانتماء الوطني من خلال تسيس مؤسسات كانت محايدة سابقاً، واستلهمت الحكومة الحالية من تجربة “حالة الطوارئ” في السبعينيات حيث استُخدمت هيئات مثل السلطات الضريبية وغيرها لقمع أحزاب المعارضة والمجتمع المدني والهيئات التنظيمية وحتى حكومات الولايات المعارضة. مع ذلك لم تمت الديمقراطية الهندية بعد فلا تزال الانتخابات تنافسية وهناك مؤشرات خفيفة على إمكانية عودة ليبرالية ما، فقد خسر حزب بهاراتيا جاناتا الأغلبية المطلقة في البرلمان في الانتخابات الأخيرة وأصبح مضطراً للحكم ضمن ائتلافات، والحزب لم يفز قط بالأغلبية الشعبية المباشرة بل بالأنظمة الانتخابية التي تمنحه ذلك. وعلى الرغم من الجهود لا تحظى هندوتفا بدعم غالبية الناخبين، ما زالت المعارضة تحكم ثلث الولايات الهندية ولا يزال الليبراليون الهنديون يصمدون في وجه المد القومي، وأحياناً ما زال القضاء والهيئات القضائية يردعون تجاوزات السلطة التنفيذية، لذا يبقى سؤال ما إذا كانت الهند ستتحول إلى قوة كبرى غير ليبرالية مفتوحاً.

لكن إذا لم تعكس السياسة الهندية مسارها فسيكون لذلك عواقب خطيرة على العالم، ستتوقف الهند عن كونها نموذجاً للديمقراطية الليبرالية في وقت يحتاجه العالم بشدة، لن تعزز النظام الدولي الليبرالي الذي يعد بالسلام والازدهار الاقتصادي والذي يتعرض لهجمات متزايدة، وإذا أصبحت الهند والولايات المتحدة ديمقراطيات غير ليبرالية على نحو مستمر فسينهار النظام العالمي الذي خدمهما جيداً رغم الشكاوى الحالية. وهذا من شأنه أن يقوي القوى السياسية المماثلة في بلدان أخرى، فقد قال الرئيس باراك أوباما في خطاب له بنيو دلهي عام 2015 “إذا أظهرت أمريكا نفسها كمثال على التنوع والقدرة على العيش والعمل معاً وإذا استطاعت الهند التي هي ضخمة ومتنوعة أن تؤكد ديمقراطيتها باستمرار فذلك سيكون مثالاً لكل دول العالم”، لكن اليوم يبدو أن كلتا الدولتين على وشك الفشل في هذا الاختبار.

الهند غير الليبرالية من المرجح أن تكون أقل قوة أيضاً، فقد أدت سياسات حزب بهاراتيا جاناتا إلى استقطاب البلاد أيديولوجياً ودينياً وتهديد القضايا العالقة المتعلقة بتمثيل التحولات الديموغرافية في البرلمان لتفاقم الانقسامات الإقليمية واللغوية، وهذا يجعل الهند تشبه الولايات المتحدة المنقسمة بشدة التي يعاني نظامها الديمقراطي من تآكل بسبب الاستقطاب، وهذا سيكون أسوأ بكثير في الهند حيث المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني أضعف. فالاستقطاب قد يزيد من التمردات المسلحة القائمة منذ فترة طويلة مما يوفر فرصة لقوى خارجية لنشر الفوضى داخل الهند، وقد تمتد هذه الصراعات إلى دول الجوار مثل بنغلاديش وباكستان بسبب التوترات المتزايدة ضد المسلمين، كما سيزيد الاستقطاب العبء الأمني الداخلي للهند مستنزفاً الموارد التي تحتاجها نيودلهي لممارسة نفوذها خارجياً، وحتى إذا لم تتسبب هذه الانقسامات في مشاكل داخلية إضافية فإنها ستعيق جهود الهند في تعبئة شعبها لتعزيز قوتها الوطنية.

فشل القوة

 يجمع الوضع الحالي في الهند بين نمو اقتصادي معتدل وسعي دائم لعلاقات شراكة مع جميع الدول دون منح أي منها مكانة مميزة وتصاعد الاتجاهات غير الليبرالية داخل البلاد مما يفضي إلى تأثير عالمي أقل مما توحي به قوتها المادية المتزايدة، على الرغم من أن الهند ستصبح ثالث أو رابع أكبر اقتصاد في العالم فإن مؤشرات التنمية المتواضعة تشير إلى أن سكانها الكثر لن يتمتعوا بمستوى معيشة يضاهي نظراءهم في الصين والولايات المتحدة وأوروبا ولن يساهموا بنسبة متناسبة في إنتاج القوة الوطنية، وحتى مع توسع اقتصادها ستواجه الهند تحديات كبيرة من الفقر والاستياء قد تهدد استقرارها الاجتماعي وقوتها الوطنية.

إذا ظل نمو الهند مرتبطًا إلى حد كبير بالتوسع في السوق المحلية وليس بالاندماج الدولي – على عكس الصين التي حققت نموها عبر دمجها في الاقتصاد العالمي – فإن قدرتها على تحقيق نمو أسرع ستكون محدودة حتمًا، بالإضافة إلى ذلك ستفقد الهند فرصة التأثير على قرارات دول جيرانها، يرى الباحثون أن من السمات الدنيا للقوى العظمى القدرة على التأثير الحاسم في منطقتها الجغرافية وما وراء حدودها المباشرة، الهند اليوم للأسف تفشل في هذا الاختبار في كل من شرق آسيا و(الشرق الأوسط) ومن المرجح ألا يتغير ذلك بشكل كبير في العقود المقبلة بسبب الأنشطة المتوقعة لكل من الصين والولايات المتحدة في تلك المناطق، لذلك يصبح ربط اقتصاد الهند بشكل أوثق بتحولات هذه المناطق أمراً لا مناص منه لا سيما وأن الهند تواجه بالفعل عقبات قوية تحول دون ترجمة هيمنتها الطبيعية في جنوب آسيا إلى زعامة محلية دائمة. حتى لو نمت الهند بمعدل 6% سنويًا على مدى العقدين المقبلين فإنها ستظل متأخرة أمام الصين في آسيا، لذلك ستحتاج إلى الاعتماد على التوازن الخارجي أي التعاون الشامل مع القوى الأجنبية لاحتواء الصين، والمرشح الأفضل لهذا الدور يبقى الولايات المتحدة التي من المرجح أن تظل الدولة الأقوى في النظام الدولي في العقود القادمة بغض النظر عن أزماتها الداخلية.

شهدت نيودلهي وواشنطن خطوات مهمة نحو موازنة القوة الصينية في السنوات الأخيرة لكن تردد الهند في إقامة شراكة وثيقة مع الولايات المتحدة يعيق هذا الهدف، العلاقات الاقتصادية بين البلدين ليست قوية كما يمكن أن تكون بالنظر إلى التكامل الطبيعي بينهما، وأكبر عائق هو انشغال الهند بتعزيز التعدد القطبي عبر سياسة الانحياز المتعدد التي تفترض أن الهند ستصبح قريبا نداً ذا شأن للصين والولايات المتحدة وأوروبا، وبالتالي قادرة على موازنة الصين بمفردها. هذه الاحتمالية ليست مرئية في الأفق القريب وهي تمنع أيضاً صياغة دفاع تعاوني حقيقي ضد الصين، ولو أن الهند قادرة على توسيع قدراتها العسكرية بما يكفي لتحييد التهديد الصيني بنفسها ومساعدة دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لكان هذا الوضع مقبولاً، لكن في المستقبل المنظور سيجد من الصعب تحقيق أي من هذين الهدفين، بسبب الفجوة الحالية والمتوقعة في الناتج المحلي الإجمالي مع الصين ستكافح الهند لمواكبة جارتها الشمالية في تحديث دفاعاتها، قدرات بكين العسكرية تتفوق على الهند ومع عبء دفاعي أقل (نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي) يمكن للصين زيادة إنفاقها الدفاعي دون الإضرار بنمو اقتصادها بنفس درجة الهند ما يوسع تفوقها العسكري. تردد الهند في تعزيز الشراكة الدفاعية مع الولايات المتحدة رغم تفهمه يصعب تحقيق التوازن مع الصين، والأسوأ من ذلك أن طموح الهند في التعدد القطبي يضعها في خلاف مع واشنطن في قضايا النظام الدولي رغم أن التعاون مع الولايات المتحدة يجب أن يكون أولوية أكثر إلحاحاً، يجب على الهند ألا توهم نفسها بأنها قادرة على احتواء الصين بمفردها لأنها غير قادرة على ذلك ولا ينبغي أن تطالب بعالم متعدد الأقطاب يقلل دور الولايات المتحدة.

لقد سمحت الولايات المتحدة سابقًا بسلوك الهند هذا جزئياً لأنها كانت في الأساس ديمقراطية ليبرالية، لكن مع تقدم كل منهما نحو اللاّليبرالية لن تربطهما القيم المشتركة بعد الآن وستهيمن العلاقات المصالحية وقد تطالب واشنطن نيودلهي بالمزيد مقابل الشراكة، وقد أشار نهج ترامب مع الهند في ولايته الثانية إلى هذا التطور. في الحقيقة سيكون من غير المريح للولايات المتحدة أن تواجه عدم قدرة الهند على مضاهاة الصين، والتزامها بالتعدد القطبي الذي يتعارض أساساً مع المصالح الأمريكية، يبدو أن الهند ستتعاون مع الولايات المتحدة في بعض القضايا المتعلقة بالصين لكنها من غير المرجح أن تكون شريكة كاملة معها في كل الساحات، حتى عندما يتعلق الأمر ببكين.

إذا عجزت نيودلهي عن تحقيق توازن فعال مع بكين في آسيا فستتساءل واشنطن حتماً عن مدى الموارد والثقة التي ينبغي أن تستثمرها في الهند، قد تستمر الولايات المتحدة الليبرالية بدعم الهند الليبرالية لأن ذلك سيكون مفيدًا بطبيعته (ما دام التكلفة ليست باهظة والنجاح الهندي يخدم بعض المصالح الأمريكية)، لكن إذا ظلت أي من الدولتين على مسار اللاّليبرالية فلن يكون هناك سبب أيديولوجي يدفع الولايات المتحدة لدعم الهند.

بالتأكيد علاقة أمريكية هندية أضيق تركز على المصالح بدلاً من القيم لن تكون كارثية لأي من البلدين لكنها ستعني طموحات أقل، فقد كان يُنظر إلى تحوّل العلاقات الثنائية بعد الحرب الباردة كوسيلة لتعزيز النظام الدولي الليبرالي، أما الآن فقد يقتصر هذا التعاون إلى حد كبير على محاولة احتواء منافس مشترك هو الصين، وإذا كان هذا هو الحال فلن تستفيد الهند ولا الولايات المتحدة ولا العالم ككل.

* Ashley J. Tellis, India’s Great-Power Delusions How New Delhi’s Grand Strategy Thwarts Its Grand Ambitions, FOREIGN AFFAIRS, July/August 2025 Published on June 17, 2025.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى