الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

الزعامة الأمريكية بين الداخل والخارج السياسة الخارجية في ظل صعود النموذج الإمبراطوري للرئاسة

 بقلم: إليزابيث ن. سوندرز
ترجمة: صفا مهدي عسكر

تحرير: د. عمار عباس شاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

     بعد بضعة أشهر فقط من بداية الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب تبدو الولايات المتحدة وقد طرأ عليها تحول جذري ربما لا رجعة فيه سواء على الصعيد الداخلي أو في علاقاتها الدولية، فاندفاع ترامب في تفكيك مؤسسات الحكومة الفيدرالية ألحق ضررًا بالغًا بقدرة الدولة على أداء وظائفها الأساسية، أما تقويضه للحقوق الدستورية وتبنيه سياسات مناهضة للهجرة فقد جعلا من الولايات المتحدة بيئة طاردة للزائرين والمهاجرين الذين طالما أسهموا في إثراء المجتمع الأميركي وتعزيز إنتاجيته وابتكاره، وإلى جانب ذلك أدت ممارساته المناهضة للأعراف القانونية والدبلوماسية إلى تآكل مصداقية الولايات المتحدة وجعلها شريكًا دوليًا غير موثوق بل مصدر تهديد حتى لدى بعض حلفائها التقليديين.

إن الأضرار التي ألحقها ترامب تتجاوز نطاق ولايته الرئاسية ومن أجل فهم هذه الآثار على نحو دقيق لا ينبغي التوقف عند سياساته وحدها بل لا بد من النظر في الإطار المؤسسي الذي أتاح له فرض تلك السياسات، فترامب يمارس سلطته اليوم في ظل تراجع شبه كامل للقيود المؤسسية المفروضة على السلطة التنفيذية ولا سيما في ميادين السياسة الخارجية والأمن القومي، فمنذ هجمات الحادي عشر من ايلول اتسعت صلاحيات الرئاسة تدريجياً إذ منح الكونغرس البيت الأبيض سلطات متزايدة في إدارة الشؤون الخارجية دون أن يبذل جهدًا لاستعادتها أو مراقبتها في حين أبدت المحكمة العليا عزوفًا عن فرض قيود قانونية فعالة، ونتيجة لذلك ورث ترامب جهازًا أمنيًا مترامي الصلاحيات يعمل خارج نطاق الرقابة المؤسسية الفاعلة.

وقد سعى ترامب خلال ولايته الأولى إلى توسيع نطاق صلاحياته من خلال استهداف المؤسسات الديمقراطية بينما عجز الكونغرس والمحكمة العليا لاحقًا عن استعادة التوازن الدستوري، واليوم يتمتع ترامب بحرية شبه مطلقة في إدارة أي ملف يتعلق – ولو بقدر يسير – بالسياسة الخارجية أو الأمن القومي، ومن بين مظاهر هذه السلطة المنفلتة ترحيل غير المواطنين إلى معسكرات احتجاز في دول أجنبية مثل السلفادور وفرض رسوم جمركية شاملة على مختلف دول العالم وتجميد مساعدات خارجية أقرها الكونغرس وابتزاز الحلفاء والتقرب من الأنظمة الاستبدادية وقبول الهدايا الفاخرة من الممالك، ونشر القوات العسكرية في شوارع المدن الأميركية بل وتنظيم عرض عسكري احتفالًا بعيد ميلاده.

ويُجمع الباحثون في العلوم السياسية المتخصصون في النظم السلطوية على أن هذا النمط يمثّل تجليًا واضحًا لما يمكن تسميته بـ “السياسة الخارجية للحاكم المستبد”، صحيح أن الولايات المتحدة لم تكن يومًا نموذجًا مثاليًا للأخلاق في سياستها الدولية غير أن ما يميز ولاية ترامب الثانية هو انعدام القيود المؤسسية التي قيّدت أسلافه، وفي غياب هذه القيود يغدو الرئيس فعليًا بمثابة حاكم أوتوقراطي فيما يخص الأمن القومي قادرًا على تحويل رغباته الفردية إلى قرارات نافذة دون رقيب.

ورغم أن ترامب لم يكن من بدأ عملية تفكيك الضوابط على السلطة التنفيذية فإنه دون شك المستفيد الأكبر من نتائجها، فقد ساهمت الإدارات السابقة بدعم من الكونغرس والمحكمة العليا في توسيع صلاحيات الرئاسة مع بقاء بعض الحواجز المؤسسية قائمة، لكن هذا التوازن الهش انهار تمامًا مع فشل الكونغرس في محاسبته على أحداث اقتحام الكونغرس في السادس من كانون الثاني وقرار المحكمة العليا في عام 2024 بمنح الرؤساء حصانة شبه مطلقة، لقد كانت الرئاسة الأميركية تميل إلى الطابع الإمبراطوري منذ عقود إلا أن ترامب – في ولايته الثانية – هو أول من جسّد هذا الميل بالكامل محاولًا أن يحكم ليس كرئيس منتخب بل كإمبراطور فعلي.

شاهد على الانهيار

     يصعب الإحاطة الكاملة بحجم الدمار الذي ألحقته الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب بجهاز السياسة الخارجية والأمن القومي الأميركي لكن يمكن تصنيفه ضمن ثلاث فئات رئيسية تُفضي جميعها إلى نتيجة واحدة ترامب أجهز على الدبلوماسية الأميركية، لقد قوّض ترامب قدرات الدولة بشكل منهجي، فمن خلال “وزارة كفاءة الحكومة” المعروفة اختصارًا بـ DOGE شن حملة تطهير واسعة ضد الجهاز البيروقراطي الفيدرالي شملت عمليات فصل جماعي والتنمر على من تبقى من الموظفين وفي بعض الحالات – كما حدث في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) – تفكيكًا كاملاً للمؤسسات. ورغم أن العديد من هذه الإجراءات كانت مخالفة للقانون فإنها غالبًا ما أصبحت غير قابلة للإلغاء بحلول الوقت الذي تدخلت فيه المحاكم، وقد وصف أستاذ العلوم السياسية دانيال دريزنر هذا المشهد بما أسماه “الدولة السطحية” في إشارة إلى جهاز حكومي مفرغ من الخبرة والكفاءة، ومن اللافت أن هذه السياسات لم تحقق وفورات في الميزانية الفيدرالية ما يشير إلى أن هدفها لم يكن الإصلاح المالي بل كان مدفوعًا بازدراء الخبرة والرغبة في الانتقام وإزالة الحواجز أمام الفساد.

وبعد القيود التي واجهها خلال ولايته الأولى من قبل بعض مستشاريه قام ترامب في ولايته الثانية بتعيين موالين غير مؤهلين في مواقع عليا مثل بيت هيغسيث وزيرًا للدفاع وتولسي غابارد مديرةً للاستخبارات الوطنية وفرضهم على مجلس الشيوخ بالقوة، وقد أبدى بعض المراقبين ارتياحًا مؤقتًا حين أعلن ترامب عن ترشيح السيناتور ماركو روبيو – المعروف سابقًا بميوله التقليدية في السياسة الخارجية – لمنصب وزير الخارجية، إلا أن روبيو سرعان ما تبنى دور المنفذ المخلص وأسهم في تسريع تفكيك USAID.

كما قوض ترامب صورة الولايات المتحدة وثقة العالم بها علنًا وفي بثٍّ مباشر، فقد استغل مؤتمراته الصحفية في المكتب البيضاوي لإهانة قادة دول حليفة، كالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا. أما الضربة الأقسى للدبلوماسية الأميركية فقد جاءت في الثاني من نيسان عندما فجّر ترامب أزمة جمركية عالمية بفرض رسوم تجارية واسعة النطاق، ورغم أن عددًا من المحاكم أقرت بعدم قانونية الكثير من هذه التعرفات ما يشير إلى بقاء بعض الضوابط الشكلية فإن ترامب استمر في البحث عن طرق لتجاوز القضاء وتنفيذ سياساته الجمركية، الأهم من ذلك أن الضرر الفعلي قد وقع بالفعل فقدان الثقة في مصداقية الولايات المتحدة. لقد قوّض ترامب اتفاقات تجارية قائمة وعلاقات تطلب بناؤها عقودًا وحتى لحظة كتابة هذا النص، لا تزال معظم الدول تواجه زيادات جمركية كبيرة، ما يدفع كثيرًا من القادة إلى التردد في الدخول بمفاوضات تجارية جادة مع واشنطن.

وكان ترامب قد بدأ تقويض مؤسسات السياسة الخارجية في ولايته الأولى إذ اتخذ موقفًا عدائيًا من وزارة الخارجية ما أدى إلى تراجع حاد في كوادرها وقام بتهميش أجهزة الاستخبارات وتسييس المؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من الأضرار فإن تلك المؤسسات بقيت قادرة على العمل وتمكنت إدارة بايدن لاحقًا من إعادة تنشيط بعضها، كما حدث مع أجهزة الاستخبارات قبل الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022.

لكن الولاية الثانية لترامب حملت هجومًا أكثر شمولًا، فالأمر لم يقتصر على خسارة عدد أكبر من الكفاءات بل شمل أيضًا مجالات كانت بمنأى عن عبث إدارته الأولى كالمؤسسات العلمية الحيوية للابتكار، الأخطر من ذلك أن الهجوم هذه المرة يستند إلى رؤية أيديولوجية ممنهجة تتجلى في برنامج اليمين المتطرف المعروف باسم “مشروع 2025″، الذي يسعى إلى إرهاق الموظفين الفيدراليين وتعطيلهم لدرجة تجعلهم غير قادرين أو غير راغبين في أداء مهامهم، وإعادة بناء البيروقراطية الأميركية واستعادة الخبرات المؤسسية ستكون مهمة جيلٍ كامل لا إدارة واحدة، وعندما تواجه الولايات المتحدة أزماتها القادمة – وهي حتمًا قادمة – فقد لا تمتلك حينها الأدوات أو الكفاءات أو القدرة المؤسسية على الاستجابة لها.

فراغ في المساءلة

     ما كشفته الأشهر الأولى من عودة ترامب إلى السلطة هو الفراغ الكامل في منظومة المساءلة الناتج عن التدمير شبه الكامل لآليات الضبط والتوازن داخل السلطة التنفيذية وخارجها، وفي ولايته الثانية أظهر ترامب مدى القدرة التي يمكن أن يراكمها الرئيس الأميركي، وما الذي يحدث عندما يتولى هذا المنصب شخص لا يعترف بأي حدود لتلك السلطة.

هذه الأزمة لم تنشأ بين ليلة وضحاها بل كانت نتيجة تراكمات استمرت لعقود، كما أوضح كل من عالِم السياسة جيمس غولدغاير وكاتب هذا المقال في مجلة فورين أفيرز فإن آليات الضبط على دور الرئيس في السياسة الخارجية كانت قد بدأت في التآكل بالفعل قبل فوز ترامب في انتخابات 2016، وهناك تطوران رئيسيان مهّدا للأزمة الحالية توسيع صلاحيات الرئيس بعد هجمات 11 ايلول 2001، وغياب المساءلة النخبوية عن فشلين تاريخيين حرب العراق والأزمة المالية العالمية عام 2008.

عندما منح الكونغرس الرئيس سلطات أوسع في مجال مكافحة الإرهاب جاءت هذه الصلاحيات ضمن منطق ذاتي التعزيز يجعل من الصعب التراجع عنها لاحقًا، فخشية من الظهور بمظهر المعرقل للحرب على الإرهاب تراجع الكونغرس عن دوره الرقابي ولم يسعَ لإلغاء تلك الصلاحيات، وعندما استخدم الرئيس جورج بوش تلك السلطات لغزو العراق عام 2003، استمر الكونغرس في الامتناع عن كبح جماحه حتى بعد أن اتضح فشل الحرب.

وفي المجال الاقتصادي ساهم برنامج “إنقاذ الأصول المتعثرة” (TARP) الذي أُقر لمواجهة الأزمة المالية والركود العميق الذي تلاها في تقويض الضوابط المؤسساتية، ورغم أن البرنامج – الذي بدأ في عهد بوش واستمر في عهد أوباما – كان ضروريًا لتفادي انهيار اقتصادي شامل، إلا أن إنقاذ البنوك الكبرى التي اعتُبرت “أكبر من أن تفشل” غذّى الانطباع بأن الرئيس يستطيع اتخاذ قرارات اقتصادية مصيرية دون مساءلة تُذكر، بينما بقي المسؤولون عن الأزمة في مأمن من العقاب بل واستفادوا من نتائجها.

ما يثير الدهشة هو أن الكونغرس لم يبذل جهدًا يُذكر لكبح السلطة التنفيذية بعد تلك الأزمات رغم أن الكوارث الكبرى غالبًا ما تُفضي إلى إصلاحات، فعلى سبيل المثال في نهاية حرب فيتنام أقرّ الكونغرس “قرار صلاحيات الحرب” رغم اعتراض الرئيس ريتشارد نيكسون وهو قانون يحد من قدرة الرئيس على نشر القوات دون تفويض من الكونغرس، وعلى الرغم من أن الرؤساء المتعاقبين – بدءًا بنيكسون – تحايلوا على القرار الا أنه رفع الكلفة السياسية لنشر القوات وثبّت حق السلطة التشريعية في أن تُستشار بشأن العمليات العسكرية.

من المحتمل أن الأزمة المالية قد استنزفت الطاقة السياسية التي كان يمكن توجيهها نحو محاسبة حقيقية لسياسات الحرب على الإرهاب، ونتيجة لذلك لا يزال الأميركيون يعيشون في ظل نظام سياسي داخلي صُمّم في مرحلة ما بعد 11 ايلول حيث يتمتع الرئيس بمنظومة أمن قومي شديدة العسكرة تُخوّله التصرف شبه المطلق طالما أشار إلى مبرر “الأمن القومي”، وقد همّش الكونغرس نفسه إلى حد كبير في هذه القضايا ولم يتمكن حتى من إلغاء تفويضات استخدام القوة في أفغانستان (2001) والعراق (2002).

نتيجة لذلك استغل الرؤساء المتعاقبون منذ 11 ايلول – بمن فيهم ترامب – هذه التفويضات لتوسيع سلطاتهم إلى ما هو أبعد من نطاقها الأصلي، فعلى سبيل المثال أطلق أوباما برنامجًا واسعًا من الضربات بالطائرات المسيّرة وقصف اليمن وسوريا، أما ترامب فاستمر في ممارسة هذه الانتهاكات “الروتينية” كما أصبحت تُعرف إذ قصف سوريا مرارًا، ومن أبرز قراراته المثيرة للجدل اغتيال القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني وهو تصعيد كاد أن يُشعل حربًا واسعة مع إيران، كما تمادى أكثر باستخدام القوات المسلحة في الداخل كما حدث خلال احتجاجات “حياة السود مهمة” عام 2020 في ساحة لافاييت في واشنطن العاصمة.

ومع ذلك فقد شكّلت شخصيات بارزة في إدارته الأولى – من وزراء ومستشارين يحظون باحترام الكونغرس – عوامل كبح لاندفاعاته الأكثر تطرفًا، أما الآن فقد اختفى معظم هؤلاء وتلاشت معهم آليات التوازن، لم تعد السلطات الأخرى في الدولة تحاول حتى كبح جماح سياسته الخارجية، وكان الكونغرس أول من وجه ضربة خطيرة لضبط السلطة التنفيذية حين فشل مجلس الشيوخ في إدانة ترامب خلال محاكمته الثانية في كانون الثاني 2021، على خلفية تحريضه على تمرد 6 كانون الثاني. إذ لم يكن هناك عدد كافٍ من الجمهوريين مستعدًا للتصويت ضده، ومثلما شكّل انشقاق الجمهوريين عن نيكسون نقطة تحول في فضيحة ووترغيت، فإن رفض الجمهوريين اليوم اتخاذ موقف مشابه مع ترامب يُظهر أن الحزب قد تخلّى عن دوره الرقابي.

ثم جاءت الضربة الثانية في تموز 2024 حين أصدرت المحكمة العليا حكمًا يقضي بمنح الرئيس حصانة شبه مطلقة من الملاحقة القضائية عن أي فعل مرتبط بمهامه الرسمية، لم يكن هذا الحكم مجرد حماية لترامب من المحاكمات الفيدرالية على دوره في حركة “أوقفوا السرقة” أو اقتحام الكابيتول أو سوء التعامل مع الوثائق السرية، بل كان أيضًا تكريسًا لوضع قانوني يجعل من شبه المستحيل محاسبة الرئيس عن انتهاكه للقانون والدستور وهو ما فعله ترامب مرارًا منذ بدء ولايته الثانية.

الشخصنة في البيت الأبيض

     لطالما ميّز علماء العلاقات الدولية بين الديمقراطيات وبقية الأنظمة، وكانت الفئة الأخيرة تضم أنظمة غير ديمقراطية متباينة مثل العراق تحت حكم صدام حسين والصين في تسعينيات وأوائل الألفية الثانية حين كان يتم تداول السلطة بشكل منتظم، غير أن الأدبيات الأكاديمية في العقد الأخير أوضحت وجود فروقات جوهرية بين الأنظمة السلطوية، مع ما يترتب على ذلك من تباين في خيارات السياسة الخارجية والأمن القومي.

فقد بيّنت الباحثة جيسيكا ويكس على سبيل المثال أن بعض الأنظمة السلطوية تفرض قيودًا حقيقية على القائد من قِبل النخبة سواء في إطار “آلة” حزبية مثل المكتب السياسي في الصين، أو من خلال مجالس عسكرية يمكن لأعضائها إزاحة الحاكم إذا أصبحت سلطته تهديدًا لبقائهم، أما في “الديكتاتوريات الشخصانية” فلا توجد حواجز حقيقية تحول دون اتخاذ القائد قرارات متهورة بما في ذلك إشعال حروب غير محسوبة، وتُظهر هذه الفروق أيضًا تحوّلات تطرأ داخل النظام ذاته مع الزمن كما في حالة الصين حيث قام شي جين بينغ بتركيز السلطة إلى درجة أنهى فيها التناوب المنتظم على القيادة.

ووفقًا لما طرحه ستيفن ليفيتسكي ولوكَن واي في فورين أفيرز فإن الولايات المتحدة تنزلق تدريجيًا نحو نموذج “السلطوية التنافسية” – وهو نظام لا يزال يُجري انتخابات (ولو غير عادلة) ويحتفظ ببعض مظاهر المعارضة (وإن كانت مخنوقة)، ورغم أن المحاكم الأميركية لا تزال تفرض بعض القيود على الرئيس في الشؤون الداخلية، إلا أن الرهان على فعالية هذه القيود يظل غير مضمون، خصوصًا وأن معظم الطعون ستُعرض على المحكمة العليا ذات التوجه المؤيد لترامب.

أما في السياسة الخارجية والأمن القومي فقد أصبح منصب الرئاسة يُشبه إلى حد كبير موقع الزعيم الشخصاني إذ تستمر المحاكم في منح الرئيس قدرًا كبيرًا من الحرية والتقدير في هذه المجالات، وقد استغلت إدارة ترامب الثانية هذا الواقع لتبرير عدد من الإجراءات المثيرة للجدل تحت غطاء السياسة الخارجية، فعلى سبيل المثال استند السيناتور ماركو روبيو إلى قانون صدر عام 1952 لترحيل طلاب أجانب شاركوا في احتجاجات جامعية عام 2023، بزعم أن وجودهم “قد يسبب عواقب سلبية خطيرة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة”. ورغم أن الكونغرس قيّد استخدام هذا القانون عام 1990، وأن قاضية اتحادية – وهي بالمناسبة شقيقة ترامب الراحلة – قد أبطلت القانون عام 1996 قبل أن يُعاد تفعيله تقنيًا لاحقًا، فإن الإدارة تستخدمه اليوم لتوسيع سلطتها بطريقة تتجاوز ما يسمح به القانون، بما في ذلك استهداف طلاب صينيين على نطاق أوسع.

كما أن الإدارة تمتثل لأوامر المحاكم بالحد الأدنى فقط وفي أحيان كثيرة تنتهك حقوق الإجراءات القانونية بسرعة تجعل من الصعب على القضاء احتواء الأضرار، واستناد ترامب المتكرر إلى مبررات السياسة الخارجية لتبرير هذا التوسع يعكس إدراكه الواعي للهوامش الواسعة المتاحة له، وتبقى أي أزمة أمن قومي حقيقية – مثل هجوم إرهابي – فرصة محتملة لتعميق هذا التغوّل الرئاسي نحو الداخل، ومع تقويض ترامب لبقايا آليات المساءلة فإن احترام القانون والدستور سيصبح مرهونًا بإرادة الرئيس القادم.

وتحمل هذه “الشخصنة” الرئاسية انعكاسات خطيرة على السياسة الخارجية الأميركية وعلى النظام العالمي ككل، فقد أظهرت الدراسات المتعلقة بالديكتاتوريات الشخصانية أن غياب القيود على القائد – حتى من المقربين منه – يؤدي إلى قرارات عسكرية طائشة، وسياسات متقلبة وإجراءات تؤدي إلى نتائج عكسية.

العدوانية الدولية من أبرز سمات هذه الأنظمة، إذ أظهرت العديد من الدراسات أن الديكتاتوريات الشخصانية أكثر ميلًا للتصعيد العسكري وتتبنى مواقف “تصحيحية” تهدف إلى تعزيز مكانة القائد داخليًا وخارجيًا، وكمثال على ذلك أبدى ترامب في ولايته الأولى اهتمامًا “بشراء” جزيرة غرينلاند بينما صرّح في ولايته الثانية باستعداده لاستخدام القوة العسكرية ضد الدنمارك حليفة الناتو لضمها.

كما أن تسييس المؤسسة العسكرية يُعد مصدر قلق متصاعد وهي ظاهرة بدأت قبل ترامب لكنه سرّع وتيرتها بشكل لافت، وكما تشير الباحثة كيتلين تالميدج في كتابها جيش الديكتاتور فإن الزعماء الشخصانيين غالبًا ما يخشون من جيوشهم ويفضلون ضمان ولائها على تعزيز كفاءتها القتالية، ورغم أن الجيش الأميركي لا يزال بعيدًا عن هذا النمط، إلا أن ترامب يسيء استغلال منصبه كقائد أعلى للقوات المسلحة كما فعل مؤخرًا حين أرسل الحرس الوطني ومشاة البحرية إلى لوس أنجلوس لقمع احتجاجات ضد سياساته الخاصة بالهجرة متجاوزًا اعتراض السلطات المحلية.

إن تآكل الضوابط الداخلية له تداعيات جسيمة على النظام العالمي، فقد شكّلت الولايات المتحدة – رغم عيوبها – العمود الفقري للنظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بفضل استعدادها للحد من نفوذها عبر الارتباط بمؤسسات دولية جديدة، وكما أوضح جون آيكنبيري فإن المؤسسات الديمقراطية الأميركية آنذاك هي ما منح هذا الالتزام المصداقية ما سمح بصياغة نظام عالمي يخدم مصالح واشنطن ويضمن استقرارها.

أما اليوم فإن إدارة ترامب الثانية لم تكتفِ بالانسحاب من الاتفاقيات والمؤسسات الدولية بل رسخت نظامًا سياسيًا أميركيًا يتسم باللاشرعية والفساد والغموض والقرارات الاعتباطية، من الصعب تصور عودة واشنطن إلى ما قبل حقبة ترامب، فلم يقتصر تأثيره على تقليص الالتزامات الدولية بل قوّض قدرة أميركا على لعب دور فعّال وموثوق عالميًا، وستكون استعادة هذه المكانة شبه مستحيلة في ظل غياب الكوادر المحترفة والمؤسسات التي كانت تُدير السياسة الخارجية اليومية.

لن تكون الحكومات الأجنبية بما فيها الحليفة مطمئنة حتى بعد مغادرة ترامب لمنصبه، إذ أن دولة تغير سياساتها يوميًا وتعامل موظفيها بقسوة وتقوم بأفعال متهورة تُعرض أسرارها وقدراتها للخطر لن تكون شريكًا يُعتد به، وإذا لم تكن المؤسسات الأميركية – خصوصًا الكونغرس – قادرة على التشريع والرقابة، فإن السياسة الخارجية الأميركية ستبقى رهينة نزوات كل رئيس جديد.

الحساب المنتظر

     إذا كان المواطنون الأميركيون والسياسيون والعاملون في المؤسسات الوطنية يأملون في تحقيق مواجهة حقيقية مع الأضرار التي خلّفها حكم ترامب بعد مغادرته للمنصب، فعليهم أن ينجزوا مهمتين أساسيتين:

أولاً: مواجهة الانتهاكات السابقة للقوانين والمعايير، يجب محاسبة المسؤولين في هذه الإدارة بمن فيهم أعضاء مجلس الوزراء على أفعالهم عبر المحاكم إذا ارتكبوا جرائم وعبر جلسات استماع تقيم أفعالهم وتمكّن المسؤولين المنتخبين والجمهور من الحكم على مدى خرقهم لعهودهم الدستورية، لكن من الضروري رسم حد واضح بين من تورط في سلوك غير قانوني أو غير أخلاقي أو مخالف للدستور وبين من اكتفى بتنفيذ أهداف السياسة الاعتيادية لإدارة ترامب، فغياب هذا التمييز قد يؤدي إلى تجريم الاختلافات السياسية ويعيق النقاش حول قضايا سياسية معقدة.

ثانيًا: إعادة إحياء وتجديد المؤسسات وآليات المساءلة، يجب أن يكون لدى الرؤساء الرغبة في ضمان وجود ضوابط على سلطتهم إذ ينبغي على القادة أن يفكروا كيف سيكون موقفهم لو تمكّن رئيس من حزب منافس من العمل بلا قيود، ويستطيع الكونغرس – ويجب عليه – أن يلعب دورًا فعالًا في تقييد السلطة التنفيذية، لكن في ظل الاستقطاب الحاد وتراجع الخبرات وامتناع كثير من المشرعين عن تحمل مسؤولياتهم من المرجح أن يظل الكونغرس مترددًا في مواجهة تجاوزات السلطة الرئاسية.

لذلك يتوجب على الهيئة التشريعية تطوير آليات تلقائية للرقابة والمساءلة تُلغي إلى حد بعيد المسألة السياسية حول ما إذا كان يجب على الكونغرس أن يقيد السلطة التنفيذية، على سبيل المثال يمكن توسيع آلية تقارير الكونغرس التي تتطلب من الجهاز التنفيذي تقديم تقارير مكتوبة منتظمة، كما يمكن للكونغرس أن يرسخ عقد جلسات استماع رفيعة المستوى تُلزِم كبار المسؤولين في الأمن القومي بالظهور بانتظام أمامه. إضافة إلى ذلك يمكن لأعضاء الكونغرس دعوة الرئيس لإلقاء أكثر من خطاب سنوي أمام المجلس أو الرد على أسئلة مباشرة منه، ولكي يستعيد الكونغرس تأثيره على البيت الأبيض يجب أن يُعاد إحياء التوقع السياسي بأن يطرح الكونغرس أسئلة سياسية، وأن يتحمّل الرئيس الرد عليها أو مواجهة عواقب سياسية.

إن تداعيات إدارة ترامب الثانية على سياسة الولايات المتحدة الخارجية المستقبلية – بغض النظر عن الحزب الحاكم – مقلقة للغاية بالفعل، فإذا لم يتم القيام بحساب جدي يسعى لإعادة بناء آليات مساءلة الرئاسة في السياسة الخارجية، فعلى الأميركيين توقع المزيد من العروض العسكرية الاستعراضية والمغامرات العسكرية غير المحسوبة والعلاقات التجارية المتقلبة وصنع السياسة الخارجية المتقطّع في مستقبل شديد الغموض.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى