الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

مناطق النفوذ ليست الحل الأمثل حتى وإن استطاعت القوى الكبرى تقسيم عالم تسوده الترابطات المعقدة فإن من غير المرجح أن تحقّق واشنطن النتائج التي تطمح إليها

بقلم: سارانغ شيدوري

ترجمة: صفا مهدي عسكر

تحرير: د. عمار عباس الشاهين

مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية

 

     الاشتباك الذي وقع في المكتب البيضاوي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام تغطية إعلامية واسعة وتصريح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن أوكرانيا ليست حربنا، إلى جانب قبول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الضمني لأي عملية ضم أميركية لغرينلاند كلها تطورات غذّت التكهنات بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة تتخلى عن النموذج التقليدي القائم منذ عقود، الذي يرتكز على التحالفات والشراكات لصالح تبنّي نهج جديد يقوم على مناطق النفوذ ضمن رؤيتها الاستراتيجية الكبرى. وقد تعززت هذه المؤشرات من خلال خطاب ترامب الأخير في السعودية، حيث عبّر عن رفضه لما اعتبره ميلاً لدى الرؤساء الأميركيين السابقين إلى “التأمل في نفوس القادة الأجانب واستخدام السياسة الأميركية كأداة لإحقاق العدالة على خطاياهم”.

الوعد الأساسي الذي يُطرَح في سياق الدعوة إلى تبنّي نظام مناطق النفوذ هو تقليص خطر اندلاع حرب عالمية وربما القضاء عليه كلياً، إذ يفترض أن تقاسم القوى الكبرى لمجالات النفوذ وتحديد كل طرف لمصالحه بوضوح واحترام كل طرف لما يُعتبر الحديقة الخلفية للطرف الآخر من شأنه أن يقلّل فرص الصدام ويحدّ من دوافع الدخول في مواجهات مباشرة، هذا على الأقل ما يروّج له المدافعون عن هذا النموذج.

ولا يمكن الاستخفاف بهذا الطرح ففي عصرنا النووي وما يشهده من تطور في الأسلحة الفرط صوتية تُعدّ الحروب بين القوى الكبرى من أخطر التهديدات الوجودية للبشرية، بل إن العالم اليوم من نواحٍ عديدة بات أكثر خطورة من مراحله المتأخرة في زمن الحرب الباردة، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تصاعداً في احتمالات اندلاع مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف الناتو في أوكرانيا وتدهوراً ملحوظاً في العلاقات الأمنية مع الصين بسبب ملفي تايوان وبحر الصين الجنوبي، فضلاً عن التوترات المتزايدة التي تتفاقم بتأثير مباشر أو غير مباشر من القوى الكبرى في مناطق مثل الساحل الأفريقي و(الشرق الأوسط)، كما أن منظومة الحد من التسلح أصبحت على شفا الانهيار فيما يثير تراجع الأحادية القطبية قلقاً بالغاً لدى واشنطن، وإذا كان من الممكن لنظام مناطق النفوذ أن يخفّض بشكل كبير من احتمال اندلاع حرب كبرى فإن ذلك لا شك يمثل هدفاً مشروعاً يستحق النظر.

ومع ذلك فإن تبنّي نظام قائم على مناطق النفوذ لا يمكن أن يشكّل حلاً واقعياً في عالمنا الراهن، فالرؤية الأميركية لمجال نفوذها تتسم باتساع مفرط لن تقبل به الصين كما أن محاولة تقسيم المصالح جغرافياً في عالم مترابط بشدة أصبحت مهمة شبه مستحيلة، أضف إلى ذلك أن دول الجنوب العالمي لم تعد كما كانت في السابق وهي مرشحة لأن تبدي مقاومة نشطة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر تجاه مثل هذا الترتيب العالمي.

تُعدّ مناطق النفوذ نموذجاً تقليدياً لتنظيم العلاقات بين القوى الكبرى يقوم على نوع من التقاسم الإقليمي غير المعلن مدعوماً بتفاهم ضمني حول آليات إدارة الخلافات والحفاظ على الاستقرار، والواقع أن هذا النموذج لا يتحدث عن نفوذ بالمعنى المرن بل عن ترسيم فعلي لمناطق هيمنة مما يجعل مصطلح “مناطق السيطرة” أكثر دقة في هذا السياق، ويعود الاستخدام الأول لهذا المفهوم إلى حقبة “اللعبة الكبرى” في القرن التاسع عشر وهي المواجهة الاستراتيجية بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية. ففي عام 1869، طمأن الدبلوماسي الروسي ألكسندر غورشاكوف وزير الخارجية البريطاني آنذاك اللورد كلارندون بأن أفغانستان تقع “خارج تماماً من نطاق النفوذ الذي قد تُدعى روسيا إلى ممارسته”، وقد سبقت ذلك مشاورات بين القوى الكبرى بدأت بمؤتمر فيينا (1814–1815)، وتبعه مؤتمر برلين الشهير (1884–1885) الذي قسم القارة الأفريقية بين القوى الأوروبية، وقد هدفت هذه الترتيبات إلى تحقيق توازن قوى داخل أوروبا مع ترسيم مناطق النفوذ خارجها وفق منطق السيطرة الإمبريالية.

في السياق الراهن يمكن تصور نظام تقسيم غير معلن بين القوى العظمى الثلاث – الولايات المتحدة وروسيا والصين – على النحو الآتي: تتبوأ واشنطن موقع الهيمنة في الأميركيتين وأوروبا وأجزاء من (الشرق الأوسط) واليابان وأستراليا، بينما تسيطر موسكو على ما يُعرف بـ”الخارج القريب” لروسيا، وقد تحظى بكين بالنفوذ في جزء من شرق آسيا ومعظم جنوب شرق آسيا، ومن الممكن أيضاً تخيّل ترتيبات أخرى مشابهة.

ولكي نكون دقيقين لا تتبنّى الولايات المتحدة رسمياً سياسة قائمة على “مناطق النفوذ” ومن غير المرجح أن يصدر إعلان صريح بذلك في المستقبل القريب إن صدر أصلاً، إلا أن هناك مؤشرات عديدة تدل على أن استراتيجية كبرى مختلفة كلياً يجري اختبارها مقارنةً بتلك التي سادت خلال عقود الأحادية القطبية، لقد سعت إدارة بايدن بشكل حثيث للحفاظ على الهيمنة الأميركية ورغم اعترافها الخطابي أحياناً بتعدد الأقطاب فإن سياساتها الفعلية كانت تهدف إلى الإبقاء على التفوق الأميركي على مستوى العالم وفي كافة أبعاد القوة العسكرية والاقتصادية والمؤسساتية، أما الإدارة الجديدة فقد أبدت اعترافاً أوضح بواقع تعدد الأقطاب وهو ما يمكن اعتباره نقطة انطلاق واعدة نحو إصلاح السياسة الخارجية الأميركية.

وعلى الرغم من غياب خطاب صريح فإن سياسات إدارة ترامب كانت منسجمة إلى حد كبير مع فهم لعالم متعدد الأقطاب، فقد تجلّى ذلك في تشككها إزاء التعددية والعمل الجماعي وتقليصها الكبير للمساعدات الخارجية وتبنّيها لفكرة التوسع الإقليمي في نصف الكرة الغربي واستعدادها لتنازل ضمني عن النفوذ في “الحديقة الخلفية” لروسيا – وهي كلها قطيعة واضحة مع نهج الإدارات السابقة، وبعد حرب تجارية قصيرة أعلنت الولايات المتحدة والصين عن اتفاق يبدو أنه يمثل اختراقاً في العلاقات. وكان ترامب قد أبدى من قبل تشككاً في الدفاع عن تايوان وأعرب عن رغبته في إبرام “صفقة كبرى” مع الرئيس الصيني شي جينبينغ، كما أبدى استعداداً للتفاوض بشأن اتفاق لخفض الأسلحة النووية مع كل من روسيا والصين يشمل تقليصاً متبادلاً للميزانيات الدفاعية بمقدار النصف، وعلى النقيض من الرئيس السابق جو بايدن الذي أحجم عن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران الذي أُبرم في عهد أوباما فقد بادرت إدارة ترامب إلى إجراء مفاوضات كبرى مع طهران يمكن أن تسهم في تجنّب شبح حرب إقليمية في (الشرق الأوسط)، وتُقر فعلياً بدور إيران كلاعب إقليمي.

وفي الوقت الذي تبدي فيه الإدارة الأميركية استعداداً لعقد صفقات كبرى في مناطق مختلفة من العالم فإن تركيزها على نصف الكرة الغربي بات أوضح من أي وقت مضى، فقد وصف السناتور ماركو روبيو الأميركيتين بأنهما “البيت المشترك” كما أبدت واشنطن رغبة صريحة في السيطرة على مناطق مثل قناة بنما وغرينلاند وحتى كندا وهو ما يعكس توجهاً متجدداً نحو إعادة تفعيل مبدأ مونرو وربما أيضاً النسخة الأكثر تدخلاً منه، أي “الملحق الروزفلتي” لعام 1904، الذي منح الولايات المتحدة حق التدخل في شؤون دول المنطقة. وفي هذا السياق بدت السياسات الجمركية الأميركية أقل قسوة تجاه دول أميركا اللاتينية مقارنة بغيرها، فيما يشير إلى تبنّي نموذج “قلعة الأميركيتين” الذي يفسح المجال أمام تلك الدول للعب دور داخل المنظومة، ويؤمّن في الوقت ذاته حاجزاً جغرافياً أمام التوغّل الصيني.

ولو اقتصر الطموح الأميركي على بسط هيمنته ضمن نطاق نفوذه التقليدي – أي في الأميركيتين إلى جانب مجموعة من الحلفاء والشركاء في أوروبا وآسيا – لربما وجد هذا الترتيب قبولاً من قبل كل من روسيا والصين، غير أن النظرة الأميركية تبدو أكثر اتساعاً بكثير من ذلك، فقد شكّل تدخل الرئيس ترامب في شؤون جنوب إفريقيا من خلال توبيخه العلني للرئيس سيريل رامافوزا على خلفية مزاعم زائفة عن إبادة جماعية للبيض انتهاكاً صارخاً لسيادة واحدة من أبرز القوى الأفريقية، كما استهدفت إدارة ترامب مجموعة “بريكس” وقررت مقاطعة قمة مجموعة العشرين المزمع عقدها في جوهانسبرغ، ومن المرجح أن تكون الاحتياطات الغنية من معدن الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية هي ما دفع واشنطن إلى إظهار اهتمام مفاجئ بالوساطة الدبلوماسية هناك.

وفي الآونة الأخيرة كثّفت الولايات المتحدة ضغوطها على عدد كبير من دول العالم لحثّها على استبعاد الصين من اقتصاداتها مستخدمة سياساتها الجمركية كأداة لتحقيق ذلك الهدف، وقد أبرزت زيارة وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث إلى الفلبين واليابان هذا التوجه الذي يشكّل استمراراً لاستراتيجية بايدن القائمة على مواجهة الصين في جوارها المباشر، وتُعدّ مانيلا اليوم نقطة ارتكاز متزايدة الأهمية ضمن هذه الاستراتيجية التي تشمل أيضاً ملف تايوان، ولا يقل أهمية عن ذلك إصرار واشنطن على فرض سيطرتها على حقوق التعدين في قاع البحار الدولية في تحدٍ صريح للأعراف الدولية وهو ما يشير إلى أنها قد تمضي أبعد من ذلك في سعيها إلى ترسيخ هيمنتها على “المشاعات العالمية” (global commons). من الواضح أن نطاق النفوذ الذي تسعى إليه الولايات المتحدة يتجاوز بكثير حدود نصف الكرة الغربي وتحالفاتها الجوهرية، ما نشهده ليس محاولة لتقسيم متوازن للعالم بين القوى العظمى بل تنازلات جغرافية محدودة وأخرى تتعلق بمجالات بعينها لصالح روسيا (وربما الصين، كما تشير التنازلات التي ظهرت في الاتفاق التجاري الأخير) وكل ذلك في إطار سعي واشنطن لتوسيع هيمنتها على المعادن الاستراتيجية وسلاسل الإمداد والمواقع الجغرافية الحيوية في الجنوب العالمي، إلى جانب تعزيز سيطرتها على “المشاعات العالمية” (global commons).

هل سترضى موسكو وبكين بهذا السيناريو؟ ربما تقبل موسكو طالما لم تتضرر مبيعاتها من الطاقة والتسليح وتم التوصل إلى تفاهم مع واشنطن بشأن القطب الشمالي إذ تُعد الأضعف بين القوى العظمى الثلاث ولديها أفق أمني محدود، أما الصين فقد أصبحت نداً للولايات المتحدة في معظم المجالات، فهي تمتلك اليوم نفوذاً عالمياً فعلياً في ميادين التجارة والاستثمار والتكنولوجيا وسلاسل الإمداد ومع صعودها السريع اتسع نطاق مصالحها الأمنية أيضاً، لطالما شعرت بكين بالضيق من محاولات واشنطن حصرها ضمن ما يُعرف بـ”سلسلة الجزر الأولى”، ومن غير المرجح أن تقبل بمخطط يحصر نطاق نفوذها في مياهها الساحلية فحسب.

لقد أدت المنافسة بين القوى العظمى التي تبنتها الولايات المتحدة صراحة منذ الولاية الأولى للرئيس ترامب إلى عسْكرة التجارة العالمية والاستثمار ما شكل رفضاً صريحاً لأطروحة “العالم المسطّح” التي سادت في تسعينيات القرن الماضي – ذروة الحقبة الأحادية القطبية، وقد بشّر منظّرون مثل توماس فريدمان بعالم يسوده انسياب السلع والأفكار والأشخاص وتصبح فيه الحدود أقل أهمية ويُحتكم فيه إلى الأسواق والتعاون الأمني الجماعي وتُبرر فيه التدخلات العسكرية الغربية باعتبارات إنسانية، لكن “عودة الجغرافيا” التي دشّنها صعود ترامب في 2017 أثبتت أن العالم ليس مسطحاً بل مليء بالتضاريس وأن الجغرافيا إلى جانب السيادة القومية والهوية الوطنية ما زالت عوامل حاسمة في السياسة الدولية.

لكن سيكون من الخطأ المبالغة في تصحيح أخطاء نظرية “العالم المسطح” بالذهاب إلى نقيضها أي الاعتقاد بأن الاعتماد المتبادل يمكن تفكيكه أو إعادة تشكيله بسهولة وبتكاليف منخفضة من قِبل الدول الكبرى، ففي القرن الحادي والعشرين أصبحت سلاسل الإمداد والتجارة والاستثمار عالمية بدرجة يصعب معها تصور إمكانية فصلها على أسس جيوسياسية بشكل منظم، لا توجد دولة مكتفية ذاتيًا فيما يتعلق بالموارد الحيوية أو المنتجات الصناعية.

إعادة تشكيل سلاسل الإمداد وفق خطوط تتماشى مع اعتبارات استراتيجية ستتطلب سنوات وربما عقودًا، وستكون لها تبعات اقتصادية كبيرة تشمل نقصًا في السلع وارتفاعًا في معدلات التضخم، كما أن جزءًا كبيرًا من هذه السلاسل يمرّ عبر بلدان الجنوب العالمي التي تغيّرت طبيعتها بشكل جوهري في العقود الأخيرة.

في القرن التاسع عشر جرى رسم خرائط “نطاقات النفوذ” فوق رؤوس شعوب الجنوب العالمي التي كانت حينها تحت نير الاستعمار دون أي دور لها في تحديد مصيرها، أما اليوم فإن محاولة القوى العظمى إعادة تقسيم العالم ستُواجه برفض واسع من قبل عدد كبير من الدول النامية الممتدة من مكسيكو سيتي إلى مانيلا، والفرق الجوهري هو أن بعض هذه الدول بات يمتلك من الوسائل ما يتيح له مقاومة هذا المشروع.

بعد أكثر من خمسين عامًا على نهاية الحقبة الاستعمارية أصبحت القوى المتوسطة في الجنوب العالمي تعتز باستقلالها السياسي الذي تحقق بشق الأنفس وازدادت حنكتها السياسية بفعل الانخراط في العولمة، كثير منها بات يتمتع بنفوذ إقليمي معتبر، صحيح أنها لا تملك القدرة على إعادة تشكيل النظام العالمي بمفردها لكنها قادرة على تعقيد أي مشروع لإحياء نظام نطاقات النفوذ، ومن المرجّح أن العديد من هذه الدول رغم ما قد تواجهه من صعوبات قصيرة الأمد بفعل التحول في الاستراتيجية الأميركية ستخرج أكثر صلابة على المدى الطويل. وعلى المدى القصير لا شك أن التحولات في السياسة الأميركية تمثل أخبارًا سيئة للجنوب العالمي حتى بالنسبة إلى أكثر مناطقه ديناميكية، فالرابطة الاقتصادية لدول جنوب شرق آسيا (آسيان) قد تخسر نحو ربع نموها المتوقع خلال الأعوام المقبلة نتيجة الحواجز التجارية الأميركية الجديدة، أما الدول الأقل نمواً ومعظمها في أفريقيا فقد تواجه أزمات إنسانية أكبر وتوترات متزايدة.

وعلى السطح يبدو أن دول الجنوب العالمي من المكسيك إلى فيتنام تتعامل مع تراجع واشنطن عن العولمة بشكل فردي لا جماعي، إلا أن تسابق الوفود الرسمية إلى واشنطن لا يعكس خضوعًا بقدر ما يعبر عن براغماتية متأصلة لدى دول الجنوب العالمي، التي تسعى إلى تقليل الأضرار الناجمة عن هذه النزعة الحمائية الجديدة.

ومع ذلك فإن النظام التجاري العالمي أصبح اليوم أكثر تعددية مما كان عليه في التسعينيات وبالتالي أكثر قدرة على التكيف مع “ثورة الحماية” الأميركية، فعلى سبيل المثال انخفضت نسبة صادرات دول آسيان إلى الولايات المتحدة من نحو 24% عام 2000 إلى أقل من 15% حاليًا، أما في أفريقيا فإن نسبة صادراتها إلى الولايات المتحدة تبقى محدودة مقارنة بحجم وارداتها. وباتت واشنطن تُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها شريكًا غير موثوق وهو ما غيّر بشكل جذري حسابات الكلفة والعائد طويلة الأمد في دول الجنوب العالمي، وهذا الشعور بعدم الاستقرار يدفع بقوة نحو تبني استراتيجيات تنويع الشركاء ما زاد من جاذبية أقطاب اقتصادية جديدة مثل آسيان والهند وتركيا ودول الخليج، في وقت ما تزال فيه قوى متوسطة راسخة مثل الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان تمثل عناصر توازن واستقرار في النظام التجاري العالمي.

لا تميل دول الجنوب العالمي إلى تأييد حرب باردة جديدة بين القوى العظمى كما لا تفضل إعادة تقاسم العالم وفق خطوط نطاقات النفوذ التقليدي، وعلى مدار عقود كانت الاستراتيجية المُفضلة لهذه الدول هي سياسة “الموازنة الحذرة” (hedging) ، التي تهدف إلى تجنّب الانحياز الكامل لأي من القوى الكبرى، غير أن واشنطن بدأت مؤخراً في استخدام الرسوم الجمركية كأداة ضغط لإجبار الدول على استبعاد الصين من شراكاتها الاقتصادية. وأحد الردود المنطقية على هذا التحدي هو تبنّي استراتيجية “الالتحاق بالمُهيمن” (bandwagoning)، حيث تختار دول الجنوب العالمي الولايات المتحدة أو الصين (وربما روسيا في بعض الحالات) بوصفها مرساتها الجيوسياسية الأساسية، وإذا أصبحت هذه الاستراتيجية سمة غالبة في الجنوب العالمي فإن ذلك سيمنح زخماً لفكرة العودة إلى عالم مقسّم إلى نطاقات نفوذ تقليدية، ومع ذلك قد لا تكون واشنطن هي المستفيد النهائي، فرغم تحفظ بعض الدول خصوصاً في آسيا تجاه بكين فإن كثيراً منها قد يختار الصين كخيار أقل خطورة في حال فُرض عليه الاختيار، إذ تُعد الصين بالفعل من أكبر شركاء هذه الدول اقتصادياً ويمكنها تقديم نفسها الآن كجهة أكثر استقراراً واعتمادية من الولايات المتحدة.

في المقابل هناك احتمال أكثر إثارة للاهتمام يتمثل في أن تتجنب دول الجنوب العالمي الارتهان لقوة عظمى واحدة وتسعى بدلاً من ذلك إلى تعميق الروابط فيما بينها، قد يتجسد هذا الاتجاه في تعزيز البُنى الإقليمية، في أمريكا اللاتينية تقود كل من تشيلي والبرازيل هذا المسار غير أن آسيا تبدو البيئة الأخصب لازدهار الإقليمية حيث تمثل رابطة “آسيان” نموذجاً ناجحاً. ففي الأسابيع الأخيرة أعلنت آسيان إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية عن تعزيز آلية الاستقرار المالي الإقليمي المعروفة بـ”مبادرة تشيانغ ماي”، أما الفلبين التي تواجه انتهاكات صينية غير قانونية في مياهها فلا تزال ترى في الولايات المتحدة حليفاً أساسياً، لكنها في الوقت نفسه تعزز شراكاتها الأمنية مع قوى آسيوية أخرى كضمانة طويلة الأجل ضد التقلبات الأميركية.

وقد يشهد التكامل العابر للأقاليم والذي لا يزال ضعيفاً حتى الآن دفعة جديدة نحو التفعيل، فمجموعة “بريكس” التي تتوسع بسرعة وتشكل تحالفاً قائمًا على المصالح بين الصين وروسيا وعدد من دول الجنوب العالمي يمكن أن تمثل ركيزة لهذا النوع من التكامل، جاذبية بريكس المتزايدة تعكس حاجة ماسة إلى سدّ الثغرات العميقة في النظام الدولي القائم، ورغم أن “بريكس” ليست ولن تتحول إلى تحالف أمني فإن تنامي مشاعر عدم الثقة تجاه الولايات المتحدة يدفع نحو تعاون جيوسياسي أوسع يتجاوز الجوانب الاقتصادية التقليدية. صحيح أن نظام نطاقات النفوذ حافظ على قدر من الاستقرار في أوروبا خلال القرن التاسع عشر لكنه لم يكن دائماً طويل الأمد، فمع صعود دول جديدة تتوسع مصالحها بطبيعة الحال، وحينما صعدت ألمانيا وسعت إلى لعب دور القوة العظمى لم تحتمل بريطانيا وفرنسا ذلك ما أدى إلى نزاعات شديدة خاصة في المستعمرات كانت من بين العوامل الرئيسية في زعزعة الاستقرار، وقد أسهمت صفقات مشبوهة مثل “مؤتمر برلين” في تأجيل الانفجار لكنها لم تمنعه لتنهار التفاهمات القائمة وتندلع حرب عالمية مدمرة في 1914.

وإذا ما أُعيد تعريف القوة والنجاح من خلال السيطرة الإقليمية والتقسيم الصريح فإن أي تفاهمات مسبقة بين القوى العظمى الراهنة قد تكون عابرة، فهناك اليوم عدد من القوى المتوسطة التي تنمو طموحاتها بشكل طبيعي مع صعود مكانتها وقد تسعى بعضها مستقبلاً إلى الحصول على نطاق نفوذ موسّع خاص بها، وهكذا فإن الوعد باستقرار دائم في عالم تحكمه نطاقات النفوذ التقليدية قد يكون في النهاية وهماً أكثر منه واقعاً.
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى