الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

أمننة القضايا وتشابك البُنى الأمنية الإقليمية في القضية اليمنية

أمننة القضايا وتشابك البُنى الأمنية الإقليمية في القضية اليمنية

 بقلم: نور نبيه جميل / باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

        يمثّل مفهوم “الأمننة” أحد أهم الإسهامات النظرية التي قدمتها مدرسة كوبنهاغن في دراسات الأمن، حيث يركّز على الكيفية التي تُحوَّل بها القضايا إلى “مهددات وجودية” عبر خطاب سياسي وأمني يجعل من الممكن اتخاذ إجراءات استثنائية خارجة عن الأطر العادية للسياسة. بحسب باري بوزان وأولي ويفر، فإن “الأمننة” ليست مجرد استجابة لتهديد موضوعي، بل عملية خطابية تُنتج التهديد وتمنحه شرعية داخل المجال السياسي. في السياق الإقليمي (للشرق الأوسط)، تتجلى هذه الدينامية بوضوح في الحالة اليمنية، حيث تحوّلت الأزمة الداخلية إلى عقدة أمنية إقليمية ودولية، نتيجة تداخل المصالح والتهديدات بين أطراف عدة، أبرزها الولايات المتحدة، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، السعودية، الإمارات، الكيان الصهيوني.

في هذا المقال، نسلّط الضوء على اليمن بوصفه نموذجًا حيًا لفهم كيف تؤدي أمننة القضايا إلى إعادة إنتاج الصراع وتعقيده، وذلك من خلال تحليل التطورات السياسية والعسكرية والإنسانية التي شهدتها البلاد لاسيما خلال شهر أيار 2025، باعتبارها لحظة مفصلية في تشكّل بنية أمنية إقليمية جديدة تربط بين قضايا محلية وملفات إقليمية أوسع، في ظل تصاعد المواجهة بين محور المقاومة من جهة، والتحالف الأميركي–(الإسرائيلي) من جهة أخرى.

أمننة اليمن وتشابك البنى الأمنية في أيار 2025

تُظهر التطورات الأخيرة أن اليمن لم يعد يُنظر إليه باعتباره حالة داخلية قابلة للحل عبر الوساطة، بل بات محورًا مؤثرًا في شبكة أمنية إقليمية. ففي أيار 2025، قامت إسرائيل بشنّ ضربات جوية مباشرة على مواقع متعددة في الحديدة وباجل، طالت ميناء الحديدة ومصنعًا للأسمنت ومرافق أخرى قالت إنها تُستخدم في دعم الهجمات على السفن (الإسرائيلية) في البحر الأحمر. جاءت هذه الضربات بالتنسيق مع الولايات المتحدة، التي كانت قد أطلقت منذ آذار عملية “الراكب الخشن” مستهدفة مواقع أنصار الله الحوثيين، ما يعني تحوّل الأزمة اليمنية إلى ملف أمني من الطراز الأول.

وقد استُخدم الخطاب الأمني من الطرفين لتبرير هذه الإجراءات: فمن جانب (إسرائيل ) والولايات المتحدة، اعتُبر الحوثيون جزءًا من “محور تهديد إقليمي” يتزعم الهجمات ضد الملاحة الدولية ويُسهم في زعزعة أمن البحر الأحمر، بينما من جانب جماعة الحوثي، استُخدمت هذه الهجمات لتعزيز خطاب “الحق والانسانية” والمقاومة، وتكريس دورها كطرف إقليمي في معادلة الردع ضد إسرائيل، خاصة بعد السابع من تشرين الأول 2023، تاريخ اندلاع المواجهة الكبرى في غزة ومانتج عنها من قتل وتدمير وتهجير السكان المدنيين فضلاً عن ممارسة القمع والعنف الوحشي ضد الإنسانية.

بهذا المعنى، تصبح اليمن منصة متقدمة لاشتباك المشاريع الأمنية الكبرى في الإقليم، وليس مجرد “مسرحًا” للصراع. فتشابك البنى الأمنية يظهر من خلال تداخل أهداف الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب – كما في الغارة على تنظيم القاعدة في محافظة أبين في الرابع والعشرين من أيار – مع أهدافها في الوقوف امام محور المقاومة، وهو ما يجعل من كل ضربة، وكل تصريح، جزءًا من معمار أمني إقليمي بالغ التشابك بحسب مصطلح امننة القضايا لباري بوزان.

في موازاة التصعيد العسكري الإقليمي والدولي، حاول المجلس الرئاسي اليمني، في الأول من أيار، توجيه خطاب سياسي يطالب جماعة أنصار الله بالانخراط في عملية سلام وإلقاء السلاح، محذرًا من أن عسكرة الموانئ والمياه الإقليمية تُهدد الأمن القومي اليمني. إلا أن هذا الخطاب لم يكن كافيًا لتغيير مجريات الأمور، لأن ما يحدث بالنسبة لهم هي قضية وجودية حقيقية من الصعب التخلي عنها في ظل وجود أطماع دولية كبيرة في المنطقة ولاسيما القوى الكبرى والعظمى. لاسيما وان المستوى الإنساني، الذي تفاقم مستوى الكارثة فيه بشكل كبير. فقد أعلنت منظمات الأمم المتحدة أن أكثر من 19.5 مليون يمني بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، فيما يعاني الملايين من انعدام الأمن الغذائي. كما أن استمرار الغارات، وتراجع تدفق المساعدات بسبب ضعف استقرار الموانئ، زاد من معاناة المدنيين، خاصة في المناطق الساحلية والغربية. ويُلاحظ أن الأمننة لم تقتصر على الجوانب العسكرية فقط، بل طالت المجال الإنساني، حيث باتت عمليات الإغاثة نفسها محكومة بحسابات أمنية.

تكشف الحالة اليمنية في أيار 2025 عن مثال حيّ لكيفية تحوّل قضية داخلية إلى ملف أمني إقليمي بفعل خطاب الأمننة وتشابك البنى الأمنية. فمن خلال ربط الأزمة اليمنية بملفات أخرى كأمن البحر الأحمر، والمواجهة مع إيران، وصراع النفوذ في الخليج، أصبحت البلاد عالقة في دائرة مغلقة من التصعيد والعنف والخطاب الاستثنائي. إن فهم هذا التشابك لا يتطلب فقط تحليل التحركات العسكرية، بل أيضًا تتبّع كيف تُنتج السياسات الأمنية وتصنع سرديات التهديد وتُبرّر التدخلات. وبالتالي، فإن أي أفق لحل سياسي يتطلب تفكيك خطاب الأمننة، وتحويل اليمن من “تهديد إقليمي” إلى “قضية سياسية داخلية قابلة للحل”، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى