بقلم: جون هالتيوانغر ترجمة: صفا مهدي عسكر/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
تحرير: د. عمار عباس الشاهين/ مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
شهدت المواجهة العسكرية الأخيرة بين الهند وباكستان، والتي اعتُبرت الأعنف بين الخصمين الإقليميين منذ عقود، استخدام الطائرات المُسيّرة للمرة الأولى في صراع مباشر بين القوتين النوويتين. ويأتي هذا ضمن توجه عالمي متصاعد، إذ باتت الدول والجهات غير الحكومية تعتمد بشكل متزايد على الطائرات المُسيّرة في مهام المراقبة والتخريب والاغتيالات المحددة وغيرها، فمن ميادين المعارك في أوكرانيا إلى الاشتباكات في البحر الأحمر، تشهد الاستخدامات العسكرية للطائرات المُسيّرة انتشاراً واسعاً حول العالم.
لكن إدخال الطائرات المُسيّرة في جولة الصراع الأخيرة بين الهند وباكستان يُمثّل نقطة تحول في تاريخ التوترات بين البلدين، وقد تكون له تداعيات كبيرة على أي مواجهات مستقبلية، وفقاً لخبراء. وقالت رابعہ أختَر الزميلة الزائرة في مشروع إدارة الذرة في مركز بلفر التابع لكلية كينيدي بجامعة هارفارد “إن استخدام الطائرات المُسيّرة في هذه المواجهة العسكرية يُمثل تحولاً مهماً في طبيعة الحروب في جنوب آسيا”، وأضافت “لقد استُخدمت الطائرات المُسيّرة المسلحة من قبل الطرفين في ساحة معركة متنازع عليها، ما يُشير إلى تطبيع أداة كانت تُعتبر في السابق هامشية في سياق النزاع الهندي – الباكستاني، رغم أنها لم تكن غائبة عن ترسانة الطرفين”.
وقد أعاد هذا الاستخدام إثارة الجدل حول ما إذا كانت الطائرات المُسيّرة كما يرى بعض الخبراء تُعد وسيلة أقل تصعيداً من الأسلحة الأخرى كالصواريخ لا سيما في صراعات تشمل قوى نووية، ورغم أن الكثير من تفاصيل المواجهة لا تزال غامضة وما زال المحللون يحاولون فهم مجرياتها فإن ما يبدو واضحاً هو أن الطائرات المُسيّرة – وخصوصاً الذخائر الجوالة – ستلعب دوراً كبيراً في أي صراع مستقبلي في جنوب آسيا، نظراً إلى انخفاض كلفتها النسبية وقدرتها على تنفيذ ضربات دقيقة وإمكانية استخدامها كأداة لإيصال رسائل سياسية دون تصعيد الصراع إلى حرب شاملة.
ومع استمرار الهدنة الهشة لا تزال المعلومات حول أنواع الأسلحة المستخدمة وتفاصيل استخدامها محدودة، لكن يُعتقد أن كلا الجانبين استخدم طائرات انتحارية مُسيّرة تُعرف أيضاً بـ”الذخائر الجوالة” أو “الدرون الانتحاري”، وهو نوع من الأسلحة أحادية الاستخدام شائع في الحرب الروسية – الأوكرانية.
وقالت ستايسي بيتيجون الزميلة البارزة ومديرة برنامج الدفاع في “مركز الأمن الأميركي الجديد” “من اللافت أن كلا الطرفين استخدما على ما يبدو طائرات انتحارية مُسيّرة أو طائرات هجوم أحادية الاتجاه، وهو اتجاه متصاعد عالمياً”، وأضافت أن إيران ووكلاءها ومنهم الحوثيون في اليمن، استخدموا هذا النوع من الطائرات “لبث الرعب في السفن في البحر الأحمر، ولشن هجمات على قواعد أميركية في سوريا والعراق وعلى (إسرائيل)** أيضاً”. ورغم أن هذه الطائرات تُسقط كثيراً أثناء الهجمات، فإنها أثبتت فعاليتها كجزء من استراتيجية إكراه أوسع تقوم على الضغط المستمر منخفض الكثافة، الذي يستنزف الدفاعات الجوية للخصم ويزيد من احتمال ارتكابه للأخطاء وفقاً لبيتيجون.
وتشير تقارير إلى أن الهند استخدمت طائرات مُسيّرة (إسرائيلية) من بينها ذخائر جوالة من طراز IAI Harop للضربات الدقيقة، وطائرات Heron لأغراض الاستطلاع، أما باكستان فيُرجّح أنها استخدمت مزيجاً من الطائرات التركية من طراز Bayraktar TB2 وAkinci، إلى جانب طائرات صينية من نوع Wing Loong II وCH-4 بحسب جهارا ماتيسيك الأستاذ في كلية الحرب البحرية الأميركية (مؤكداً أن الآراء التي عبّر عنها لا تمثل الحكومة الأميركية أو وزارة الدفاع).
واستخدمت الهند ذخائر Harop لضرب ما وصفته بالبنية التحتية للمسلحين داخل الأراضي الباكستانية، وهو ما ينسجم مع “عقيدة الضربات الدقيقة الجراحية” التي تتبعها نيودلهي بحسب ماتيسيك، أما باكستان فقد اعتمدت على “أنظمة منخفضة التكلفة نسبياً” تُوفر ضربات سريعة ومرنة وتساعدها على تعويض التفوق العسكري التقليدي للهند. وتُشكل هذه المواجهات دليلاً إضافياً على أن الطائرات المُسيّرة باتت السلاح المفضل في النزاعات المسلحة حول العالم، فقد جعلت الطائرات المُسيّرة المدفعية أكثر دقة وفتكاً، وأثبتت أسراب الطائرات المُسيّرة فعاليتها الكبيرة في اختبار واختراق الدفاعات الجوية للعدو. وبينما احتكرت الولايات المتحدة استخدام الطائرات المُسيّرة خلال العقد الأول من “الحرب العالمية على الإرهاب”، إلا أن بقية العالم لحقت بها سريعاً إذ يشهد ميدان الحرب باستخدام الطائرات المُسيّرة تطوراً سريعاً، والدول تُسرع في بناء ترسانات من الطائرات المُسيّرة بأحجام وأشكال متعددة.
ساهمت التجربة العسكرية الغنية في أوكرانيا التي أظهرت الأثر العميق للطائرات المُسيّرة على ميدان المعركة، في تحفيز جيوش العالم – ولا سيما الجيش الأميركي – على تكثيف الاستثمار في الأنظمة غير المأهولة وتطوير مهارات استخدامها، وعلى الرغم من أن الاشتباكات الأخيرة بين الهند وباكستان كانت محدودة زمنياً واستراتيجياً مقارنة بالحرب في أوكرانيا، فإنها أظهرت بوضوح أن استخدام الطائرات المُسيّرة بات محط اهتمام عالمي سواء من قِبل الدول أو الفاعلين من غير الدول.
يرى الباحث في الكلية الحربية البحرية الأميركية الدكتور جهارا ماتيسيك أن الطائرات المُسيّرة أدّت دوراً محورياً في تحديد إيقاع وتكتيكات النزاع الأخير بين القوتين النوويتين، واصفاً ما جرى بأنه يشكّل “فصلاً جديداً في كيفية إدارة النزاعات بين الخصمين النوويين”. ويضيف ماتيسيك أن دلالة هذا التحوّل تتجاوز البعد التقني، إذ اكتسبت الطائرات المُسيّرة وظيفة رمزية أيضاً إذ باتت أداة للإشارات الاستراتيجية، تعكس امتلاك الطرفين شكلاً مستداماً ودقيقاً ومنخفض التكلفة سياسياً من القوة الجوية.
وفي السياق ذاته يرى الدكتور جيمس باتون روجرز الخبير في شؤون الطائرات المُسيّرة بجامعة كورنيل، أن استخدام هذه الطائرات منح كلاً من الهند وباكستان القدرة على توجيه ضربات محدودة للأهداف العسكرية، واختبار قدرات الدفاع الجوي لدى الطرف الآخر، مع الحفاظ على مستوى منخفض من التصعيد. ويُرجّح أن الاعتماد الواسع على الطائرات المُسيّرة خلال النزاع الذي استمر لأربعة أيام أسهم في الحؤول دون اندلاع حرب شاملة، فرغم تضمن العمليات العسكرية لأسلحة تقليدية أخرى كالصواريخ والمدفعية والغارات الجوية، أتاحت الطائرات المُسيّرة للطرفين وسيلة منخفضة الكلفة وسريعة التأثير للردع المتبادل وتشكيل معالم ساحة المعركة.
ويشير ماتيسيك إلى أن استخدام الطائرات المُسيّرة جاء ضمن نهج “محسوب وغير متهور” ما يعكس تصور الطرفين لها كأداة لإدارة التصعيد لا كوسيلة لحسم المعركة، ويُبرز أن ما يميز هذا النزاع هو أن الطرفين استخدما الطائرات المُسيّرة للمرة الأولى ليس فقط في أغراض الاستطلاع بل أيضاً لتنفيذ ضربات مباشرة وهو ما أتاح تنفيذ هجمات دقيقة من مسافات آمنة دون تعريض الطائرات المأهولة والأطقم البشرية للخطر، مما خفف من الضغوط السياسية الداخلية لتوسيع الرد الانتقامي.
وتُعزز الباحثة ستايسي بيتيجون هذا الطرح بقولها إن الطائرات المُسيّرة تُقلّص من مخاطر التصعيد نظراً لعدم تسببها بخسائر بشرية في حال إسقاطها مما يُقلّل من دوافع الانتقام، ورغم أنها تشير إلى أن هذه الميزة قد تُشجع على تنفيذ مهام محفوفة بالمخاطر فإن خسارة المعدات تبقى أقل تكلفة سياسياً من فقدان الطواقم البشرية، وتوضح بيتيجون أن إسقاط باكستان لطائرات (إسرائيلية) مُسيّرة من طراز هيرون رغم تكلفتها العالية لم يُحدث صدمة استراتيجية مماثلة لفقدان طائرات مأهولة.
ومع ذلك يُحذر بعض الباحثين من المبالغة في اعتبار الطائرات المُسيّرة أدوات منخفضة التصعيد، ففي رأي روجرز فإن استخدامها يُمكن أن يُفسَّر أيضاً كهجمات استكشافية تهدف لاختبار الدفاعات الجوية تمهيداً لتصعيد أكبر، محذّراً من أن نجاح هذه الطائرات في إلحاق أضرار جسيمة قد يدفع النزاعات إلى حافة الانفجار.
وتؤكد الدكتورة رابعة أختَر الزميلة الزائرة في مركز بيلفر بجامعة هارفارد خطورة هذا النهج في السياق الجنوب آسيوي الذي يتسم بقابلية عالية للتصعيد عبر مجالات متعددة، وترى أن تصوّر الطائرات المُسيّرة كخيار منخفض الكلفة ومنخفض التصعيد يُنتج إحساساً زائفاً بالعزل الاستراتيجي، ما يُمكن أن يُشجع على اتخاذ قرارات سريعة للرد العسكري، خصوصاً في ظل غياب آليات فعالة للتواصل وإدارة الأزمات. وتُضيف أختَر أن تطبيع استخدام الطائرات المُسيّرة في هذا السياق قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في استقرار الردع، ويزيد من احتمالات التصعيد غير المقصود، لا سيما مع تطور هذه التكنولوجيا باتجاه مزيد من الدقة والاستقلالية.
وتختم بالقول إن الدرس الأهم من هذه الأزمة هو أن الطائرات المُسيّرة لم تعد أدوات تكتيكية فحسب، بل أصبحت وسيلة استراتيجية للإشارة إلى النوايا والقدرات العسكرية، ويجب النظر إليها ضمن تحول أوسع نحو منافسة متعددة المجالات تتقلص فيها هوامش الخطأ بسرعة.
* John Haltiwanger, Drones Are Transforming South Asian Warfare, FOREIGN POLICY, May 15, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.