الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

الذكاء الاصطناعي كفاعل ناشئ في النظام الدولي: هل يُعيد رسم قواعد اللعبة؟

الذكاء الاصطناعي كفاعل ناشئ في النظام الدولي: هل يُعيد رسم قواعد اللعبة؟

بقلم: احمد مجباس العيساوي

الذكاء الاصطناعي والتحولات في النظام الدولي

         يشهد العالم في العصر الراهن طفرة تقنية متسارعة، تعيد تشكيل مختلف المجالات عبر الابتكارات الرقمية، ويبرز الذكاء الاصطناعي كقوة متنامية ذات تأثير واسع، يتجاوز أبعادهِ الاقتصادية والتقنية ليشمل قطاعات الأمن والسياسة والدبلوماسية الدولية في هذا الإطار، يطرح سؤال جوهري: هل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي فاعلاً جديداً قادراً على تغيير قواعد اللعبة داخل النظام الدولي؟

لفهم هذا الطرح، لا بد من التوقف عند مفهوم “الفاعل الناشئ” في الدراسات الدولية، حيث أن النظريات التقليدية كانت تركز على الدولة كوحدة أساسية، لكن واقع العولمة وتعقيد العلاقات بين الدول كشف عن ظهور فواعل أخرى لها تأثير متزايد، مثل الشركات الكبرى والمنظمات غير الحكومية وأحياناً الأفراد المؤثرين هذه الفواعل تغير من طبيعة التأثير في النظام الدولي رغم عدم امتلاكها للصفة الرسمية للدول وبناءً عليه، يمكن النظر إلى الذكاء الاصطناعي كفاعل ناشئ، نظراً لقدرته المتزايدة على اتخاذ قرارات ذات أثر دولي، مما يدعو إلى التساؤل حول مدى تأثيره على قواعد اللعبة الدولية..

أضحى الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من السياسات الوطنية والدولية، مدعوماَ من قبل الحكومات والقطاع الخاص، ما جعله يتعدى دوره كأداة تقنية ليصبح لاعباً مؤثراً في مجالات الأمن والاقتصاد والحكم وتتنافس القوى الكبرى على حيازة التفوق في هذه التكنولوجيا نظراً لأهميتها الاستراتيجية، ورغم افتقاره للوعي والإرادة السياسية، يتميز الذكاء الاصطناعي بقدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة، واتخاذ قرارات معقدة بشكل ذاتي نسبياً، ما يمنحه تأثيراً مباشراً على مسارات السياسة الدولية,  وما يزيد من أثره هو تركيز هذه التكنولوجيا في أيدي مجموعة محدودة من الدول والشركات، مما يعزز الفوارق في القوة والنفوذ على الساحة الدولية.

أبعاد تأثير الذكاء الاصطناعي:

اولا: الامن والدفاع

تتعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، حيث يشمل ذلك التكنولوجيا الدفاعية والدفاع السيبراني، وجمع وتحليل المعلومات الاستخبارية. وتُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطبيقات متعددة، مثل أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل، وتحسين الدفاعات السيبرانية، وتحليل البيانات الاستخبارية، مما يساهم في تعزيز اكتشاف التهديدات، وتسريع وتيرة العمليات العسكرية، وتحسين عملية اتخاذ القرار، يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً حاسماً في ميدان الأمن السيبراني، سواء على صعيد الهجوم أو الدفاع، كما أن تسليحه يثير العديد من المخاوف المتعلقة بتصعيد النزاعات، واندلاع الحروب العرضية، واحتمال نشوب سباق تسلح عالمي في هذا المجال وتطرح أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل على وجه الخصوص، تساؤلات أخلاقية وقانونية معقدة بشأن المساءلة والامتثال لمبادئ القانون الدولي الإنساني ويُلاحظ هنا أن دمج الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية لا يقتصر فقط على تعزيز القدرات القائمة، بل يحتمل أن يؤدي إلى تغييرات جوهرية في طبيعة الحروب وفي معادلات الاستقرار الاستراتيجي، إن تطوير أسلحة مستقلة وقدرات سيبرانية تعتمد على الذكاء الاصطناعي يشير إلى تحول متسارع نحو أنماط جديدة من الصراع، قد تتسم بسرعة التصعيد وتقليص التحكم البشري في مجريات الحرب.

ثانيا: الاقتصاد العالمي والتجارة:

يؤثر الذكاء الاصطناعي بشكل تحويلي على أنماط التجارة الدولية، وسلاسل التوريد العالمية، والقدرة التنافسية الاقتصادية، وإمكانية تحقيق النمو الاقتصادي والاضطراب وله تأثير تحويلي على التجارة الدولية من خلال تقليل الحواجز وزيادة الإنتاجية ويمكنه أتمتة العمليات، وتحسين إدارة سلسلة التوريد وتعزيز المفاوضات التجارية ويمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي أيضا إلى فقدان الوظائف وتفاقم أوجه عدم المساواة الاقتصادية بين البلدان وداخلها ويتطلب تطوير ونشر الذكاء الاصطناعي الوصول إلى البيانات، مما يثير قضايا تتعلق بتدفقات البيانات عبر الحدود وحوكمة البيانات ويُلاحظ هنا أن التأثير الاقتصادي للذكاء الاصطناعي ذو شقين: فهو يوفر فرصاً كبيرة للنمو والكفاءة ولكنه يطرح أيضا مخاطر لتوسيع الفجوة بين الدول المتقدمة تكنولوجيا والدول النامية، حيث تبرز  كلاً من الفوائد الاقتصادية المحتملة ومخاطر زيادة عدم المساواة بسبب تبني الذكاء الاصطناعي، مما يشير إلى تأثير معقد وربما مزعزع للاستقرار على الاقتصاد العالمي.

ثالثا: الدبلوماسية

تزايد أهمية دور الذكاء الاصطناعي في العمليات الدبلوماسية، بما في ذلك تحليل البيانات للمفاوضات والترجمة الفورية، وإمكانية الحصول على رؤى مدفوعة بالذكاء الاصطناعي في حل النزاعات ويمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي مساعدة الدبلوماسيين في تحليل البيانات والترجمة وصياغة الاستراتيجيات ويمكن استخدامه للتنبؤ بالنزاعات، ومراقبة وقف إطلاق النار، وحتى صياغة اتفاقيات السلام يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية تساؤلات حول موثوقية الرؤى التي يقدمها وإمكانية إساءة استخدامه ويُلاحظ هنا أن دور الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية يتطور من كونه أداة داعمة للمهام الروتينية إلى مساعد محتمل في اتخاذ القرارات رفيعة المستوى وحل النزاعات، على الرغم من استمرار المخاوف الأخلاقية ومخاوف الموثوقية، كما ورد في إلى اعتماد متزايد عليه في جوانب أكثر تعقيداً من العلاقات الدولية.

رابعا: التحديات الأخلاقية والأمنية

يثير انتشار الذكاء الاصطناعي تساؤلات جدية بشأن العدالة، الشفافية، وحماية الحقوق الإنسانية فقد تحمل الأنظمة المبرمجة تحيزات مسبقة، في حين تظل بعض خوارزميات الذكاء الاصطناعي غير شفافة، ما يعقد إمكانية محاسبة المسؤولين عند وقوع أخطاء، وعلاوة على ذلك، يشكل استخدام هذه التكنولوجيا في الأسلحة وأنظمة المراقبة تهديداً لحقوق الإنسان، ويزيد من تعقيد الأمن الدولي، خاصة مع تطور تقنيات التزييف العميق التي يمكن أن تخلق وقائع مزيفة تضر بالمصداقية والثقة.

تحولات في ديناميكيات القوة في عصر الذكاء الاصطناعي

يعتبر الذكاء الاصطناعي عاملا رئيسياً في إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي بين الدول , حيث تخوض الولايات المتحدة والصين منافسة استراتيجية للهيمنة على مجال الذكاء الاصطناعي ويمكن للذكاء الاصطناعي تمكين الدول الصغيرة المتقدمة تكنولوجيا والجهات الفاعلة غير الحكومية. وقد يؤدي تمركز موارد الذكاء الاصطناعي في دول معينة إلى توسيع فجوة القوة بينها وبين غيرها ويُلاحظ هنا أن تطوير الذكاء الاصطناعي والسيطرة عليه يبرزان كمحددين حاسمين للقوة العالمية، مما قد يؤدي إلى إعادة ترتيب التسلسل الهرمي الدولي، حيث تنص صراحة على أن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل ميزان القوى العالمي، مما يؤكد على الأهمية الاستراتيجية لهذه التكنولوجيا، وصف التنافس على الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي بأنه “سباق تسلح الذكاء الاصطناعي”. ويمكن أن يؤدي هذا السباق إلى زيادة عدم الاستقرار وانعدام الثقة بين الدول وتوجد مخاوف بشأن معايير سلامة الذكاء الاصطناعي حيث تعطي الدول الأولوية للميزة العسكرية  ايضاً يُلاحظ هنا أن السعي لتحقيق التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى حلقة خطيرة من التطوير والنشر التنافسيين، مما يزيد من خطر نشوب صراع حيث يرسم تشبيه “سباق تسلح الذكاء الاصطناعي” في تشابهاً مباشراً مع سباقات التسلح التاريخية، مما يشير إلى مخاطر مماثلة للتصعيد، يمكن للجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك الجماعات الإرهابية، الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لأغراض خبيثة ويجعل انتشار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من الصعب السيطرة عليها وتنظيمها ويمكن للأفراد ذوي النفوذ الهائل أيضا ممارسة تأثير كبير من خلال الذكاء الاصطناعي، أن إمكانية الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي وانتشارها قد يمكّن مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة بخلاف الدول، مما قد يعطل ديناميكيات القوة التقليدية التي تتمحور حول الدولة حيث تبرز إمكانية حصول الجهات الفاعلة غير الحكومية والأفراد على نفوذ كبير من خلال الذكاء الاصطناعي، مما يتحدى الهيمنة التقليدية للدول.

دراسات حالة: الذكاء الاصطناعي في العمل على الساحة العالمية

برز الذكاء الاصطناعي كعنصر حاسم في الحرب الروسية الأوكرانية من خلال استخدام أوكرانيا لطائرات مسيرة مدعمة بخوارزميات ذكاء اصطناعي لاستهداف القوات الروسية بدقة، كما أثار استخدام إسرائيل لنظام “لافندر” الذكي في تحديد الأهداف خلال حربها على غزة تساؤلات أخلاقية وقانونية حول مدى شرعية تفويض الخوارزميات باتخاذ قرارات القتل وفي الوقت ذاته، أصبحت الحروب السيبرانية أكثر تعقيداً وخطورة مع إدخال الذكاء الاصطناعي في شن الهجمات الإلكترونية ، أما على صعيد الدبلوماسية، فقد بدأت بعض الجهات البحثية باختبار إمكانيات الذكاء الاصطناعي في نمذجة سيناريوهات اتفاقات السلام، كما هو الحال في أوكرانيا كما تستخدم الصين أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل البيئة الدولية وصياغة قرارات سياستها الخارجية، بينما تبنت كندا في استراتيجيتها الآسيوية مقاربة توظف الذكاء الاصطناعي لتعزيز التعاون الإقليمي، اما  في المجال الاقتصادي أظهرت تجربة شركة eBay أن أدوات الترجمة الآلية القائمة على الذكاء الاصطناعي ساهمت في رفع نسبة الصادرات نحو أمريكا اللاتينية، في حين استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراقبة المحاصيل الزراعية وتحسين القدرة على التكيف مع تغير المناخ، مما يدل على أثره في التنمية المستدامة

من جهة أخرى، يحتدم التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين للهيمنة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يُعد امتداداً لصراع النفوذ في العصر الرقمي، بينما تركز روسيا على تعزيز الاستخدام العسكري لهذه التقنية في المقابل، بدأت المؤسسات الدولية محاولة تنظيم هذا المجال المتسارع من خلال أطر قانونية وأخلاقية، مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، والاتفاقية الإطارية لمجلس أوروبا، إلى جانب مبادرات الأمم المتحدة لضمان استخدام مسؤول وآمن لهذه التكنولوجيا من خلال هذه التطورات، يتضح أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح فاعلاً مؤثرًا في إعادة تشكيل بنية النظام الدولي.

يُلاحظ هنا أن دراسات الحالة هذه تُظهر التأثير الملموس والمتزايد للذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات العلاقات الدولية، من الصراع والدبلوماسية إلى التنمية الاقتصادية والحوكمة حيث تُظهر الأمثلة الواردة في المقتطفات الطرق المتنوعة التي يشكل بها الذكاء الاصطناعي بالفعل الأحداث والسياسات الدولية.

الذكاء الاصطناعي وإعادة تعريف قواعد النظام الدولي

يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي قوة محورية تعيد رسم ملامح العلاقات الدولية، فهو يوفر فرصاً لتعزيز الأمن والاقتصاد والدبلوماسية، لكنه يطرح أيضاً تحديات جوهرية تتعلق بالقيم والسيادة والحقوق، ويمتاز الذكاء الاصطناعي بطابع مزدوج، إذ يعزز من قوة الدول الكبرى في الوقت الذي يمكّن فيه فواعل جديدة من المشاركة الفاعلة في السياسة الدولية لذلك لا يغير الذكاء الاصطناعي قواعد اللعبة فحسب، بل يعيد تشكيل هوية الفاعلين وطبيعة العلاقات ضمن النظام الدولي بأسره.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى