ابحاث ودراساتسلايدر

نقد التنوير في الفكر السياسي لمدرسة فرانكفورت

بقلم: د. سماح نجم كاظم

نقد التنوير في الفكر السياسي لمدرسة فرانكفورت

“يجب علينا -يا رفاق- أن نلبس جلداً جديداً أن ننشئ فكراً جديداً، أن

نحاول خلق إنسان جديد “فرانز فانون، المعذبون في الأرض([1]).

بقلم: د. سماح نجم كاظم

أولاً: تعريف التنوير في البردايغم السياسي الغربي

جسد التنوير وفقاً لـ(تزفيتان تودوروف) (حركة فكرية قائمة على العقل والعلم والحرية والتقدم “حركة امتصاص لآراء كانت فيما مضى متناحرة… تتسم بالعقلانية والتجريبية… هي وريثة ديكارت… ولوك… احتضنت القدامى والمحدثين أصحاب التوجيهات الكونية… والمحلية… شغوفة بالتاريخ… والطبيعة والفن والحرية… والمساواة… عصر الانوار كان عصر مناضرة أكثر مما كان عصر إجماع، هي أذن تعددية ذهنية من الأفكار… (أما) مشروع التنوير فقام بالأصل على ثلاثة أفكار… الاستقلالية والغائية الإنسانية لأفعالنا والكونية)([2])، ليمثل عصر التنوير وفقاً لـ (أرنست كاسيرر) بـ (القرن الثامن عشر)” أخصب العصور؛ من ناحية تقدم الفكر السياسي، ولم يسبق على الاطلاق أنَ قامت فلسفة سياسية بمثل هذا الدور… فهي لم تعدَ مجرد فرع من فروع الفكر، بل أصبحت المركز الذي تدور حوله كل أفعال الفكر- وأصبحت كل الاهتمامات النظرية تتجه إلى هذه الغاية وتتركز حولها”([3]).

يعدَ مؤلف (كانط) (ما التنوير؟) من المؤلفات المؤسسة لمفهوم التنوير مركزه وجوهره العقل مستهدفاً تحريره ليعد التنوير “تحرر الإنسان من قصوره الذي أحدثه هو بحق نفسه… لافتقاره للعزم والشجاعة على ممارسة عملية التفكير من دون توجيه شخص أخر، إذاَ (تشجع على التفكير بنفسك) ذلك شعار التنوير”، وعليه ارتبط التنوير بالخروج من قصور العقل الراجع إلى حالة الوصاية المفروضة من رجال الدين والقواعد والمثل…الخ([4])، ليقترن (التنوير بالعقل) و (الخروج من حالة الوصاية بالنقد) لتنشأ صلة التنوير بالنقد فهو الأداة لخروج الجمهور من حالة القصور، فقرن التنوير هو قرن النقد، لينشأ (كانط) فلسفته النقدية التي يتجه النقد ضمنها لا للكتب والنظريات والمذاهب، وإنما نقد سلطة العقل ليمثل العقل محكمة لا يستثني نقدها شيئاً كالدين والدولة” إذ يتعين على كل شيء أن يخضع لمحكمة النقد”، ليحتفظ (كانط) للعقل بطابعه القانوني ليقوم بدور القاضي والوكيل والمحامي، نقداً واستخداماً يحددهم بالممارسة العمومية، أي محكمة نقد يمارسها الجمهور لا الفرد ليعدهم اسس التنوير وتحقيق هدفه فلا يتمثل بالثورة([5]).

وبين الحداثة والتنوير جاء تحديد (هابرماس) للحداثة فيعدَها انعكاساً لوعي بحقبة ما، وعي يتمظهر في ذاته كما لو أنَه نتيجة لحركة انتقال من القديم إلى الحديث، ويمثل التوجه الفلسفي للتنوير  بتقدير (هابرماس) لحظة تحول الوعي في حركته وانخراطه بمسار الحداثة؛ فأصبحت ديناميكية الوعي وممارسته النقدية هي السندات التي تؤسس للفكر والممارسة في عصر الحداثة، هذه الحركة الديناميكية للوعي تأسست مع (كانط)، كما أكد (هيجل)، فقد جعل العقل” صنماً يعبد”، وإذ ما مثل (كانط) مرآة وعلامة على الحداثة، فإن (هيجل) مؤسسها، فالحداثة نمت وتطورت وتبلورت مع (هيجل)([6])، فطرحت الحداثة معه مشكلة العثور على مشروعيتها الخاصة، أو أن تستمد بلغة (هابرماس) ضماناتها من ذاتها، إشكالية لم تطرح إلا في نهاية القرن الميلادي الثامن عشر، لتبلغ من الحدة ما حمل(هيجل) إلى عدها مسألة فلسفية بل أساس فلسفته. وترتكز الحداثة على الذاتية فتعد أولى أسسه تقترن بالحرية، فالذاتية تتجسد بـ”حرية الذات هي بشكل عام مبدأ العالم الحديث”، ومبدأ “تنمو كل الجوانب الأساسية المعطاة داخل كلية الروحي للحصول على حقوقها”، وهكذا شرح (هيجل) من منظور (هابرماس) الذاتية بالحرية والتفكير قائلاً: “أن ما يصنع عظمة عصرنا يقوم على الاعتراف بالحرية بوصفها خاصة الروح حقيقة كونها بذاتها“، ويستقرئ (هابرماس) من ذلك أربعة دلالات للذاتية وهي: الفردية، حق النقد، واستقلالية العمل، والفلسفة المثالية التي تبلورت بأحداثها التاريخية مبدأ الذاتية والمتمثلة بالإصلاح الديني والأنوار والثورة الفرنسية فقد عززوا الفردية والحرية([7]).

وتأسيساً عليه مثلت الذاتية العمود الفقري للحداثة لتنتقل من مركزية (الله) إلى مركزية او تعالي الذاتية، لتمثل- وفقاً لـ(ديكارت)- خارج الشك وأساس المعرفة بقولهِ” أنا أفكر أذا أنا موجود”([8]). أما (كانط) فعزز الذاتية بحصره مصادر المعرفة بالذات قائلاً: “تتولد معارفنا من مصدرين رئيسين في الذهن الأول: استقبال التصورات… والثاني: القدرة على معرفة الموضوع… ليشكل الحدس والافاهيم أذن كل معرفة”([9])، ولتشكل الذاتية جوهر ثورته الكوبرنيكية القائمة على جدلية الذات والموضوع نحو مركزية الذات؛ إذ يستبدل فكرة الانسجام بين الذات والموضوع إلى خضوع ضروري من الموضوع إلى الذات، فالشيء الوحيد الذي تعلمنا إياه الثورة الكوبرنيكية أننا نأمر ونقود، وهنا يظهر الطابع الثوري للنقد والتنوير الكانطي لينصب اهتمامها على الذات وملكها المعرفة يسير بها العقل لثورته النقدية([10])، كما ترتكز الحداثة على العقلانية التي أسس لها (لابينتز) عبر مقولته: (لكل شيء سبب معقول)، جوهرها أنَ الإنسان محور الكون ومصدر المعرفة، لتنتج العقلانية أنماط التفكير والوعد بالتحرر من عقلانية الخرافة والدين والاستخدام المتعسف للسلطة والانعتاق، ليسير فكر الحداثة من العقلانية ومركزية الذات وسيطرته على العالم إلى فكرة التقدم([11])، لتمثل الاساس الثالث للتنوير حملت وعداً بالتحرر والخلاص والانعتاق، وباسم التحرر الفردي والتقدم الإنساني رحب مفكرو التنوير بدوام التغيير ورأوا بالانتقال وسرعة الزوال والتشذر شرطاً ضرورياً لإنجاز الحداثة، وتعددت مذاهب المساواة والحرية والأيمان بالذكاء البشري والعقل الكوني([12]).

ثانياً: نقد التنوير من منظور أدورنو وهوركهايمر

انتقد (أدورنو وهوركهايمر) بمؤلفهما (جدل التنوير) التنوير منطلقين من نقد عقل التنوير، فالتنوير الذي عبر عن: “فكرة التقدم، هدفه تحرير الإنسان من الخوف وجعله سيداً… يهدف إلى فك السحر عن العالم… والتحرر من الأساطير”، تحول لأسطورة بما فيها كل مقولاته وبمقدمتها العقل([13])، إذ “لا يمكن للعقل أن يثق بخلودهِ”([14])، فكرس أشكالا جديدة من العبودية التي تتم باسم العقلانية الأداتية، فمشروع التنوير حتى وإن أدعى تحرير المجتمعات الغربية من السيطرة، فإنه بنهاية الأمر قد أصابته انتكاسة وتراجع وتحول لمشروع لا أنساني فانجب العقل التنويري نقيضه وعمل على تقويض مُثُله، عقل المجتمعات الصناعية المتقدمة، عقل التكنو-علمية الممثل بالعقل الأداتي، عقلاً فاقداً للخاصية الثورية التي كانت له في عصر التنوير عندما كان أداةً للتحرر من السلطة الدينية والاساطير ليتحول لنقيضه ليجسد الاسطورة والشمولية وأداة تسلط وإخضاع للجماهير([15])، بل وسقط بالبربرية بدل تحقيق التقدم، بربرية تجسدت بالاستعمار والنظم الشمولية، وهكذا ارتبط جدل العقل بالهدم الذاتي للعقل بدلاً من تحقيقه للتحرر والانعتاق، فلم يحرر الناس من الخوف وأن يجعلهم أسياد أنفسهم، بل انتقل التنوير إلى الكارثة الكلية؛ ذلك أن العقل الأداتي في محاولته السيطرة على الطبيعة والإنسان أدى للانحطاط الكامل، وأن هذه الكارثة حصلت بفعل الهيمنة والسيطرة ليس فقط العقل الأداتي بل كذلك الاسطورة، وعليه وقع التنوير بالأسطورة، بل خلق أساطيره الخاصة والمتمثلة بأسطورة التقدم التقني، وأسطورة السيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان([16]).

والنتيجة الشمولية فالعقل والقدرة العلمية التي بلغها الغرب في (القرن العشرين) بدلاً من أن تخلصهم من المجاعة والحرب والقهر والمرض وكل ما من شأنه أن يعرقل التقدم البشري، فأنَها سقطت في فيما هو أسوأ وهي البربرية المتمثلة بالاستعمار والنظم الشمولية، كما فقد عقل الانوار خاصيته الثورية وأصبح أداةَ تسلط وإخضاع للجماهير وتوحيد الممارسات، وهذا ما تمثله الشمولية. وبضوء هذا الانحطاط تصبح مقولة التقدم محلاً للشك، مما ولد ضرورة للتفكير في التقدم بمرحلة الانهيار والكارثة([17])، فتطور العقل الإنساني لم يخدم الإنسانية بشكل كبير وإنما ادخله بالبربرية؛ فالتنوير والعقلانية وما انتجاه من اختراعات علمية كالأسلحة النازية أدت إلى تحول العقلانية إلى أداة عنف وتدمير وقادت إلى الحرب العالمية وإبادة جماعية، وهذا ما يمثل إشكالية فكرة التقدم بالإضافة لسقوط التنوير بالشمولية وانتصار مشروع المساواة القمعية الهتلرية، بدلاً من التحرر والتقدم ليجسد حالة خسوف او اختفاء العقل([18]).

التطور التقني وانعكاسه السلبي على العقل ينشأ نقداً أخر للتنوير عنوانه التشيؤ المستمد من (لوكاش)- معالجته الماركسية لإشكالية الثورة والوعي الطبقي- فيشير(ادورنو وهوركهايمر) إلى وجود ضرورة من “وكالات إنتاج الجمهور والحضارة… بسلوكيات مبرمجة كما لو كانت هذه السلوكيات وحدها الطبيعة… والعقلانية، والإنسان لا يتحدد إلا بوصفه شيئاً، أو عنصراً احصائياً ينجح ويفشل”، والسبب الرئيس للتشيؤ هو التقنية المنتجة للأداتية والمختزلة للعقل الانواري، لتشكل كلاً من التقنية والميتافيزيقيا المتمثلة بالأسطورة التي تتجه بالعقل إلى الخرافات واللاعقلانية سبباً لمشكلة العقل الأداتي والاستلاب المتمثلة بفقدان العقل عنصر التأمل المعول عليه بالخلاص من استحواذ هيمنة التقنية، وهكذا كشفا التواطؤ السري بين التنوير والاسطورة ليتحول التنوير لسلطة مطلقة، والسبب بانعطافه المهول وعدم قدرته على تحقيق هدفه المتمثل بالخروج من قصور العقل هو التضخم والانفجار التقني وتحولها من الخدمة إلى السيادة([19])، وهكذا جرى التمييز في عقل التنوير بين نوعين للعقل: (العقل الاجرائي: وهو العقل الأداتي يرتبط بالوسائل والأشياء، معبراً عن أزمة العقل التنويري بوصفه عقلاً شمولياً وكلياً)، و(العقل الغائي: ملكة فهم الغايات ومهتم بالغايات)، ومفارقة هذا التمييز جعل العقل موجه للعقلانية والتحرر تارة، ووسيلة للهيمنة والسيطرة تارة أخرى، أنه يحرر ويستعبد في الوقت نفسه؛ محرر بأهدافه وعقلانيته، ومستعبد بالوسائل التي يبتدعها لأنها تمكن من السيطرة التقنية والهيمنة الأداتية والبيروقراطية، لينشأ نقد العقل التنويري فتنمية التفكير عبر سيطرته على العالم والطبيعة لم يحقق التقدم للإنسان بل أنَ الإنسانية وصلت للكارثة؛ وهذا ما يجسد حالة الهدم الذاتي للعقل ليعلن (هركهايمر وأدورنو) فشل مشروع التنوير بدلالة الحرب العالمية الثانية، فهي شاهد على فشله، والاثر السلبي للتطور التقني ومحاولة الإنسان للسيطرة على الطبيعة والعالم، ومحرقة اليهود دليل مادي على الكارثة العظمى([20])، فنشأ نقد التنوير بأثر مباشر وناقد لخطابات (هتلر) وسياساته ضد اليهود، فإذا كانت وسائل الاتصال مكنت (هتلر) من أداء “دور الله في أن يكون في كل مكان في خطاباته وأفكاره”، فكان ذلك سبباً لنقد النظرية النقدية للتقنية لاستلابها ثقافة الجمهور التي ترجع لوسائل الاتصال الحديثة، والانتاج الصناعي، وتكنولوجيا صناعة الصوت والصورة. أما عمليات الإبادة التي ارتكبتها النازية فمثلت تركيباً بين الأسطورة (معاداة السامية)، و(التنوير: الإدارة العقلانية والبيروقراطية للمجزرة الجماعية)، أما العلوم الحديثة، وتحديداً الوضعية المنطقية، فتخلت عن المعرفة النظرية لمصلحة التقنية، وكذلك بعض المفكرين كعدمية (نيتشه) الناشئة في القرن الميلادي التاسع عشر، فأخرجت العقل من نطاق الأخلاق والعدالة، مما سبب الكارثة الكلية التي انتقل لها واقع التنوير([21]). وتأسيساً عليه، العقل والعلم أداتان منفصلتان عن الفلسفة، أساسهما براجماتي لتحقيق الممكن بشتى الوسائل، يفتقر للقيم الاخلاقية مما ولد المجازر والمذابح، وهذا ما يشكل واقع المجتمعات الرأسمالية الحديثة التي يقيم (ادورنو وهوركهايمر) بينها وبين التنوير الصلة لتحقيق المصلحة البرجوازية([22])، لينتهي إلى عد التنوير اسطورة انتهت بالبربرية وأداة للبرجوازية ونظريتها الليبرالية فإن “كان التنوير على حق ضد الكثلكة، فالتنوير قد اختار الليبرالية”، فالحفاظ على الذات صار حفاظاً على البرجوازية واقتصادها وجماعاتها الضاغطة، فالعقل صار قوة طبيعة هدامة لذاتها، و”العقل المحض صار لاعقلاً “([23]).

ثالثاً: الخروج من أزمة الحداثة وتحقيق التحرر

   يختم (ماركيوز) كتابه: (الإنسان ذا البعد الواحد) بعبارته: (ولد الأمل ممن هم دون أمل)([24])، ويبدأ(هابرماس) مؤلفه: (المشروع الفلسفي للحداثة) بعبارة: (الحداثة مشروع لم ينجز بعد)([25])، لمعالجة إشكالية الحداثة عبر (نظرية العقل التواصلي) لـ(هابرماس) القائمة على الحوار بمنعرج بنذاتي، توجه انتقده مؤسس اتجاه ما بعد الحداثة (ليوتار) بقولهِ: “مشروع ما بعد الحداثة… مختلف عن مشروع الحداثة التي هي وليدة عصر النهضة والأنوار التي يجب مجاوزتها واستنفذت أغراضها”([26]). واستهدف (هابرماس) استعادة روح الحداثة وإعادة بناء نظرية موحدة عن العقل، وهذا ما ولد نقده لما بعد الحداثيين: (ليوتار، دريدا، فوكو… وغيرهم)، الذين انطلقوا من (كانط) و(هيجل) و(الهيجليين الشباب) بمن فيهم (ماركس)، ثم (نيتشه) بنقدِه للعقلانية ليتبلور معه اتجاهان: تمثل الأول بنظرية السلطة لـ(فوكو)، والثاني نقد الميتافيزيقا الذي قاده (هايدجر، ودريدا)، فانطلقوا من نقد شمولي للعقل، نقد يكشف (هابرماس) جذوره في الحداثة، وتحديداً تمييز (كانط) بين الفهم والعقل، ليظهر فيما بعد نقد التصور الذاتي للعقل المحض، ونقد العقل الأداتي، ونقد الأوجه القمعية للعقل ببعده القاضي بالسيطرة والهيمنة على الذات والطبيعة، نقداً جذوره حداثية فلا صحة لجذوره النيتشوية([27]).

الخروج من أزمة الحداثة الكامنة بإشكالية العقل الأداتي له ثلاثة مسارات: أولها لـ (أدورنو وهوركهايمر) فيعول على الفن والمخيال والجمال لتحقيق التحرر وإعادة قدرة السلب للذات مشيراً “الخيال… يقدم صور الوعي بالواقع التي تتجاوز المكبوت والمقموع… والفن هو رجوع ما كان مكبوتاً بأحلى صورة… لأن التخيل الفني يعطي للتذكير اللاشعوري صورة التحرر الذي قمعته قوانين الواقع”([28])، الثاني (ماركيوز) فيحدد البعد الجمالي فيعده المخرج الوحيد للعقلانية الأداتية التي ولدتها الثورة العلمية والتقنية، وظيفتها نقد المؤسسات السياسية المكرسة للسيطرة، والهدف تجاوز الوضع اللا-إنساني للمجتمعات الصناعية المتقدمة وخلق وضع جديد تتحقق فيه الحرية والسعادة([29])، بالإضافة للتكنولوجيا إذ يشير إلى أن عملية الخروج من أزمة حضارتنا الحالية يتم في اكتمال النمو الطبيعي للاعقلانية التكنولوجية بقولهِ: عند هذه المرحلة من المكننة الشاملة ستكون العقلانية العلمية… قد أدركت غايتها ووصلت إلى منتهاها، وأي تقدم فيما وراء هذا الحد سيكون بمثابة قطيعة تكرس انقلاب ملكوت الكم إلى ملكوت الكيف… أن الشرط الضروري المسبق لتجاوز الواقع التكنولوجي هو تحقيق هذا الواقع واكتمال سيرورته”([30]). وأخيراً التمرد الاخلاقي ومرجعه (فرويد) بفكرته بأنه بظهور الحضارة تم استبدال مبدأ اللذة بالواقع، ويتمثل مبدأ الواقع عند (ماركيوز) بالمجتمعات الصناعية، بـ”مبدأ الإنتاج”، بمعنى انَه مجتمع متجه إلى تحقيق الربح والمزاحمة والتوسع المستمر، وبهذا تكون هذه الحضارة هي حضارة اضطهاد وقمع في مبدأها ذاته، ويرى (ماركيوز) ضرورة استرجاع مبدأ اللذة ضد مبدأ الواقع، فتحرير (الايروس) من شأنه أن يعمل بصفته قوة هدامة وكنفي مطلق للمبدأ الذي يهيمن على الواقع([31])، والمسار الثالث لنظرية الفعل التواصلي لـ(هابرماس) التي تستند لمقولة التواصل، موجه نحو التفاهم الذي يستهدف البحث عن شروط لمجتمع ممكن بشكل منطقي، ومحور تحليلها السياسي ما يتنج داخل التفاعلات الاجتماعية بين الافراد، ويتم عبره التخلص من الفعل الاستراتيجي الأداتي الغائي لحقيق الفعل التواصلي وفيه المخرج من أزمة الحداثة ببعد تذاوتي قائم على التفاعل العقلاني للتواصل المجتمعي([32]).

وأخيراً إذا كان لنا كلمة تقييم فلابد من الإشارة لعقلانية النقد وواقعيته بدلاً من الانطلاق من دوافع إيديولوجية لا عقلانية أو أفكار شمولية لرفض ونقد التنوير، بل جعله مشروعاً لم يكتمل لمعالجة إشكاليته المحددة بالعقل الأداتي وفعله الاستراتيجي وما يرتبط به من مسببات كالتطور التقني وصناعة ثقافة الجمهور ورسم السلوكيات، بالإضافة نفعية العلم والنظريات، وما ينتج عنه من شمولية وحالة الحرب والمجازر والبربرية والوقوع في الاسطورة بدل الخلاص منها لتحقيق التحرر، وبالتالي تحقيق اخفاقات العقل الإنساني ومعالجته، فالعقل كالفارماكون هو السم والدواء هو التحرر والاستعباد.

قائمة الهوامش والمراجع :

([1]) نقلاً عن: عبد السلام حيدوري، فوكو وأنطولوجيا الحاضر، ط1،مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2017، ص1.

([2]) تزفيتان تودوروف، روح الأنوار، ترجمة: حافظ فويعة، ط1، دار توبقال وأخرون، المغرب،2007، ص ص 9-10.

([3]) أرنست كاسيرر، الاسطورة والدولة، ترجمة: أحمد حمدي محمود، ط1،الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة،1975، ص 236.

([4]) ايمانويل كانط، الأجابة على سؤال: ما التنوير؟، في كانط وفوكو من تعالي العقل إلى انطولوجيا الحاضر نصوص في التنوير والثورة والسلطة، ترجمة: كريم الجاف، د ط، مطبعة زاكي، بغداد، 2018، ص ص 13-14.

([5]) الزواوي بغورة، مدخل إلى فلسفة ميشيل فوكو، ط1، دار الطليعة، بيروت، 2013، ص ص 59-60.

([6]) عبد السلام حيدوري، فوكو وانطولوجيا الحاضر من الاشتغال الانتربولوجي إلى الاضطلاع الإتيقي السياسي، ط1، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2017، ص ص 74-75.

([7])  يورغان هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995، ص ص 29 – 30.

([8]) رينيه ديكارت، مقال في المنهج، ترجمة: محمود محمد الخضري، ط2، دار الكتاب العربي، مصر، 1968، ص194.

([9]) عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة: موسى وهبة، د. ط، مركز نماء القومي، بيروت، د ت، ص 75.

([10]) نقلاً عن: جيل دولوز، فلسفة كانط النقدية، ترجمة: أسامة الحاج، ط1، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، 1997، ص 25، والزواوي بغورة، مصدر سبق ذكره، ص ص 56 و58.

([11]) ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة: بحث في أصول التغيير الثقافي، ترجمة: محمد شيا، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2005، ص ص 30-31.

([12]) المصدر نفسه، ص 31.

([13]) ماكس هوركهايمر وثيودور ف. أدورنو، جدل التنوير، ترجمة: جورج كتورة، ط1، دار أويا، طرابلس،2006، ص ص 19و 23.

([14])ماكس هوركهايمر، بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية، ترجمة: محمد علي اليوسفي، ط1، دار التنوير، بيروت،2006، ص62.

([15]) جان فرانسوا دوريتي، فلسفات عصرنا تياراتها، مذاهبها، أعلامها وقضاياها، ترجمة: إبراهيم صحراوي، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2009، ص 172.

([16]) الزواوي بغورة، مصدر سبق ذكره، ص ص 76-77.

([17])المصدر السابق، ص ص 76-77.

([18])شريف بوعلام، النقد الاجتماعي في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ط1، مركز الكتاب الاكاديمي، ص ص20و22.

([19]) علي عبود المحمداوي، الانعطاف النقدي عند مدرسة فرانكفورت جدل النظرية والممارسة، في الماركسية الغربية التأسيس والانعطاف، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2014، ص 159.

([20]) الزواوي بغورة، ما بعد الحداثة والتنوير، ط1دار الطليعة، بيروت، 2009، ص ص 227-227.

([21]) عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، ط1، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر،2015، ص ص722و 725 .

([22]) المصدر السابق، ص 722.

([23])ماكس هوركهايمر وثيودور ف. أدورنو، جدل التنوير، مصدر سبق ذكره، ص 110.

([24]) هبربرت ماركيوز، الإنسان ذا البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، ط3، دار الآداب، القاهرة، 1988،ص 268 .

([25]) يورغان هابرماس، مصدر سبق ذكره، ص 5.

([26])نقلاً عن: علي محمد اليوسف، أفكار وشذرات فلسفية، ط1، دار غيداء للنشر، دم، 2018، ص 113.

([27]) عبد السلام حيدوري، مصدر سبق ذكره، ص ص 78و 79.

([28]) علي عبود المحمداوي، مصدر سبق ذكره، ص ص160-161.

([29])  كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى اكسل هونيث، ط1،منشورات الاختلاف، الجزائر،2010، ص 67.

 ([30])هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، ص 243 .

  ([31])توم بوتومور، مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، ط2، دار أويا، ليبيا،2004، ص 88 .

 ([32])محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة/ أنموذج هابرماس، ط2، دار افريقيا الشرق، المغرب، 1998، ص 180.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق