الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف
إشارات تفاوضية أم مناورة استراتيجية؟ قراءة في الحسابات الروسية – الأميركية بشأن الحرب الأوكرانية

بقلم: نور نبيه جميل
باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
المقدّمة
تدخل الحرب الروسية–الأوكرانية مرحلة جديدة تتّسم بتزايد الإشارات الدبلوماسية المتبادلة تمثل لحظة غموض استراتيجي في حرب طويلة، دون أن ترقى إلى مستوى “مسار تفاوضي” مكتمل أو إرادة سياسية جدّية لإنهاء الصراع. في المقابل، تُظهر مواقف روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية تباينًا حادًا بين اللغة الرمزية المستخدمة في التصريحات، والحقائق الهيكلية التي تحكم مصالح الطرفين. ورغم أن بعض التصريحات الأخيرة قد توحي بإمكانية فتح نافذة للحوار، إلا أن القراءة السياسية الاستراتيجية تكشف أن ما يجري أقرب إلى مناورات استباقية لإدارة ميزان القوى، وليس بحثًا فعليًا عن تسوية.
إن فهم هذا التحوّل الظاهر يتطلب قراءة معمّقة لمعادلات القوة، وتوازنات التكلفة، والتعليمات الاستراتيجية التي تحكم مواقف الكرملين والبيت الأبيض، فضلًا عن السياق الدولي الأوسع الذي يضغط على طرفي الصراع: من أوروبا المتوترة اقتصاديًا وأمنيًا، إلى الصين التي توازن بين دعم روسيا واستقرار النظام الدولي، وصولًا إلى الانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة قبيل الاستحقاقات السياسية.
هذا المقال يقدّم تحليلًا تفسيريًا لطبيعة هذه الإشارات، ويفكّك دوافعها، ويقدّم استشرافًا للسيناريوهات المحتملة، استنادًا إلى مقاربات علم السياسة، ومفاهيم الواقعية السياسية، وتوازن التهديد، وتبدّل حسابات تكلفة الحرب.
اولًا: السياق العام – لماذا تظهر “إشارات تفاوضية” الآن؟
1. الإرهاق الاستراتيجي للطرفين
بعد ما يقارب ثلاث سنوات من الحرب، بات واضحًا أن طرفي الصراع يواجهان حالة إرهاق استراتيجي فروسيا تستنزف قدراتها الاقتصادية واللوجستية رغم تكيفها مع العقوبات. بينما الولايات المتحدة تواجه ضغطًا من الكونغرس والداخل الأميركي بشأن كلفة دعم كييف. اما أوروبا في حالة إنهاك اقتصادي واحتقان داخلي يهدد تماسك الدعم لأوكرانيا. في ضوء ما سبق هذا الإرهاق لا يعني قرب التسوية، لكنه يُفسّر ظهور إشارات سياسية محسوبة تهدف إلى إدارة الحرب سياسيًا بدل تركها مفتوحة بالكامل.
2. الجمود العسكري
لم تعد خطوط الجبهة تشهد تغيّرات جذرية، ما يجعل الأطراف تلجأ إلى استخدام الدبلوماسية أداةً لتعزيز الموقف العسكري، وليس لإنهاء الحرب. في ضوء ذلك يمثّل الجمود العسكري السمة المركزية للمرحلة الراهنة من الحرب الروسية–الأوكرانية، إذ لم تعد خطوط الجبهة تشهد تغيرًا جوهريًا منذ منتصف عام 2023، بينما تقتصر التحركات على تقدّمات تكتيكية محدودة لا ترقى إلى مستوى الاختراق الاستراتيجي. ويعود هذا الجمود إلى مجموعة من العوامل البنيوية؛ أبرزها استنزاف القدرات الهجومية للطرفين، إذ باتت روسيا تمتلك تفوقًا ناريًا دون قدرة على تنفيذ عمليات حسم واسعة، في حين تعاني أوكرانيا من نقص متزايد في الذخيرة واعتماد كامل على الدعم الغربي الذي تراجع بفعل الضغوط السياسية والقصور الصناعي في أوروبا والولايات المتحدة. كما أدّى التطور الكبير في التحصينات والدفاعات من الألغام والخنادق إلى الطائرات المسيّرة وأنظمة الاستطلاع إلى ارتفاع كلفة الهجوم مقارنة بجدواه، ما حوّل الحرب من حرب مناورة إلى حرب استنزاف طويلة. وفي ضوء هذا الواقع، بات كل طرف قادرًا على منع هزيمته، لكنه غير قادر على تحقيق نصر حاسم، ما خلق حالة توازن سلبي للقوة تمنع التحول الميداني وتطيل أمد الصراع. ونتيجة لذلك، أصبحت الإشارات التفاوضية الصادرة عن روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية انعكاسًا مباشرًا لهذا الجمود، لا دليلًا على وجود مسار تسوية فعلي، بل تعبيرًا عن إدراك الأطراف بأن ميزان القوة لا يسمح بتغيير جوهري عبر السلاح في المدى المنظور.
3. تغير المزاج الدولي
القوى الدولية خصوصًا في الجنوب العالمي بدأت تعبر عن ضيقها من استمرار الحرب وتأثيرها على الغذاء والطاقة، ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا لإظهار قدر من “المرونة الخطابية” حفاظًا على حلفائهما. بذلك يمثّل تغيّر المزاج الدولي أحد أبرز التحولات المحيطة بالحرب الروسية–الأوكرانية، إذ باتت غالبية الدول تنظر إلى استمرار الصراع باعتباره عبئًا استراتيجيًا واقتصاديًا أكثر من كونه صراعًا مبدئيًا بين القوى الكبرى. فقد دخلت أوروبا مرحلة إرهاق استراتيجي نتيجة الضغوط الاقتصادية وارتفاع أسعار الطاقة، ما أدى إلى تراجع الحماس الشعبي والسياسي لاستمرار الدعم غير المشروط لأوكرانيا، وظهور تيارات سياسية مشككة في جدوى المواجهة المفتوحة مع روسيا. وفي الولايات المتحدة، يتزايد الانقسام الداخلي حول كلفة الحرب في ظل أولويات متصاعدة تجاه آسيا، ما جعل واشنطن أقل استعدادًا لتحمل الأعباء اللامحدودة. كما أبدت دول الجنوب العالمي التي تتحمل الجزء الأكبر من تداعيات أزمة الغذاء والطاقة ميلًا متزايدًا إلى الحياد وعدم الاندماج في الاصطفافات الغربية، مع انتقاد غير معلن لطول أمد الصراع . وإلى جانب ذلك، تنظر القوى الكبرى الأخرى وفي مقدمتها الصين وتركيا إلى الحرب بوصفها مصدر اضطراب للنظام الاقتصادي العالمي، لا كفرصة جيوسياسية. نتيجة لهذه العوامل مجتمعة، أصبح المزاج الدولي العام يميل إلى تقليل التصعيد وإلى البحث عن صيغ تمنع تمدد الحرب، دون أن يصل بعد إلى درجة فرض تسوية حقيقية، ما يعكس بيئة دولية ضاغطة لكنها غير قادرة على إنتاج حل نهائي.
4. الحاجة إلى اختبار النوايا
كل طرف يريد معرفة الخطوط الحمراء للطرف الآخر قبل الدخول في أي تفاوض جدي، ما يجعل الإشارات الدبلوماسية جزءًا من عملية جسّ نبض استراتيجية. اذ تمثّل الحاجة إلى اختبار النوايا إحدى أكثر الإشارات حساسية في إدارة الصراع الروسي–الأميركي، سواء في ساحات القتال الأوكرانية أو في فضاء التفاعلات الدبلوماسية غير المعلنة. فبعد ما يقارب أربع سنوات من الحرب، بات واضحًا أن الطرفين يملكان من أدوات المناورة ما يسمح بإرسال رسائل “مرقّطة” لا يمكن قراءتها بوصفها مؤشرات مباشرة على تغيير استراتيجي. لذلك، تلجأ كل من موسكو وواشنطن إلى ما يمكن تسميته بسياسة جسّ النبض، أي وضع الطرف الآخر في اختبارات صغيرة ومدروسة لقياس مدى استعداده لتغيير السلوك أو الانفتاح على مسارات تفاوضية محتملة. ففي الجانب الروسي، يظهر هذا الاختبار عبر إبداء مرونة خطابية غير مُلزِمة، أو الإيحاء بإمكانية القبول بصيغ جزئية مثل “تجميد خطوط التماس” أو “وقف إطلاق نار مؤقت”، من دون تقديم تنازلات جوهرية تمسّ المكاسب الميدانية. أمّا الجانب الأميركي، فيعبّر عن اختبار النوايا عبر مراقبة حدود ما يمكن لروسيا قبوله دون أن تُعدّ الخطوة انتصارًا سياسيًا لها، وكذلك عبر تقييم مدى قدرة كييف على الالتزام بما قد يُطرح على الطاولة مستقبلًا. هذه الاختبارات المتبادلة لا تعني وجود استعداد فعلي لتسوية شاملة، بقدر ما تعبّر عن رغبة كل طرف في معرفة ما إذا كان الآخر يمتلك إرادة التفاوض أم أنه يسعى فقط إلى شراء الوقت وتصحيح الوضع الميداني. وبذلك يصبح اختبار النوايا جزءًا من إدارة الصراع لا من حله، ومحورًا لقياس “حدود الانحناء” قبل العودة إلى التصعيد، مما يكرّس حالة سيولة استراتيجية تُبقي شكل المخرجات النهائية معلقًا بين التسوية والمواجهة.

ثانيًا: الحسابات الروسية: مناورة أم استعداد مشروط؟
تتعامل موسكو مع الحرب بوصفها معركة وجودية تتجاوز حدود أوكرانيا لتصل إلى جوهر النظام الأمني الأوروبي ومنع تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا، ما يجعل منطقها أقرب إلى الواقعية البنيوية التي تربط الأمن بموقع الدولة داخل بنية النظام الدولي. وفي هذا السياق، لا تبحث روسيا عن “سلام” بقدر ما تسعى إلى صيغة استقرار جديدة تُكرّس الاعتراف بالوقائع التي فرضتها عسكريًا، وتضمن لها اعترافًا ضمنيًا بالمناطق التي ضمتها، إضافة إلى الحصول على ضمانات مكتوبة تمنع تغير ميزان القوى ضدها مستقبلاً. وتستخدم موسكو الخطاب الدبلوماسي كأداة ضغط في لحظة تشهد فيها أوكرانيا نقصًا واضحًا في الذخيرة، ويتزايد فيها الإرهاق السياسي داخل الدول الغربية بشأن استمرار الدعم، بما يسمح للكرملين بمحاولة تقسيم المواقف داخل المعسكر الغربي وتعظيم الضغوط على العواصم الأوروبية. ومن خلال تبنيها ما يشبه “استراتيجية الأبواب المفتوحة نظريًا”، تحافظ روسيا على خطاب تفاوضي فضفاض لتفادي الظهور كطرف يرفض السلام، وهو ما يمنحها مساحة للمناورة الدولية وكسب الوقت وتحسين صورتها لدى الدول غير الغربية. ومع ذلك، يبقى الثابت الوحيد في الحسابات الروسية هو رفض تقديم أي تنازل يتعلق بالمكاسب الميدانية، الأمر الذي يجعل أي مسار تفاوضي فعلي شبه مستحيل في المرحلة الراهنة، نظرًا لتمسّك واشنطن وكييف برفض الاعتراف بشرعية التغييرات الإقليمية التي فرضتها موسكو بالقوة.
ثالثًا: الحسابات الأميركية: إدارة الصراع لا تسويته
تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب الأوكرانية باعتبارها جزءًا من إدارة توازن القوى مع روسيا حيث لا تضع التسوية الشاملة ضمن أولوياتها بقدر ما تركّز على منع روسيا من تحقيق نصر استراتيجي يعيد تشكيل ملامح النظام الدولي بصورة تتعارض مع المصالح الأميركية. لذلك تتبنى الإدارة الأميركية مقاربة تقوم على “تعطيل الانتصار الروسي” بدل “الحسم العسكري”، عبر الإبقاء على أوكرانيا ضمن المدار الغربي، واستثمار الحرب في تعزيز موقع حلف شمال الأطلسي وتوحيد المواقف الأوروبية. وتواجه واشنطن في الوقت نفسه ضغوطًا داخلية متصاعدة، سواء من الانقسام داخل الكونغرس أو من فتور الرأي العام تجاه استمرار الدعم المالي والعسكري المُكلِف، وهو ما يدفع إدارة الرئيس الأميركي إلى البحث عن تقليل الكلفة دون الانسحاب من المشهد. وفي هذا الإطار، لا تمثّل الإشارات الأميركية “المنفتحة” تجاه التفاوض تنازلاً بقدر ما تعكس محاولة لصياغة إطار تفاوضي ملائم يحافظ على صورة واشنطن كطرف مسؤول، ويحمّل موسكو تبعات رفض أي مسار سياسي، إضافة إلى تحسين موقع كييف في أي مفاوضات مستقبلية واختبار استعداد روسيا للقبول بضمانات أمنية محدودة. كما ترتبط حسابات الولايات المتحدة بسياق أوسع من الحرب الأوكرانية ذاتها، يشمل التنافس مع جمهورية الصين الشعبية، ومستقبل تماسك الناتو، والاستحقاقات الانتخابية الأميركية، مما يجعلها أكثر حذرًا من الدخول في تسوية قد تُفسَّر داخليًا وخارجيًا على أنها تنازل استراتيجي لصالح موسكو.
رابعًا: هل هناك فعلًا مفاوضات أم مجرد مسرح سياسي؟
عند تفحّص المشهد بدقة، يتضح أن ما يجري ليس مفاوضات، ولا يمكن حتى تصنيفه ضمن التفاوض غير المباشر، بل يندرج في إطار ما يمكن تسميته “إدارة الصراع عبر الإشارات الاستراتيجية”؛ حيث تعتمد الأطراف—موسكو وواشنطن وكييف—على توظيف التصريحات الإعلامية، والاجتماعات الدبلوماسية منخفضة المستوى، والرسائل غير المباشرة، والإيحاءات السياسية لإنتاج انطباع بوجود حراك تفاوضي، بينما تبقى المواقف الجوهرية مغلقة بالكامل. وهذا النمط من السلوك ينتمي إلى ما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـالدبلوماسية الرمزية (Symbolic Diplomacy)، التي تُستخدم لإدارة الصورة والموقع السياسي أكثر مما تُستخدم لفتح مسارات تسوية فعلية. ويعود غياب التفاوض الحقيقي إلى ثلاثة عوامل دقيقة: أولها أنّ حدود التنازل السياسي لدى الأطراف الرئيسة شبه معدومة، فلا موسكو مستعدة للتراجع عن مكاسبها الميدانية، ولا كييف قادرة على قبول صيغ تنتقص من سيادتها، ولا واشنطن راغبة في منح روسيا أي اعتراف يُعدّ مكسبًا استراتيجيًا. ثانيها أنّ البيئة العسكرية ما زالت غير حاسمة؛ فلم تصل الحرب إلى مرحلة “استحالة الاستمرار” التي تُجبر المتحاربين عادةً على الذهاب إلى الطاولة. وثالثها غياب ضامن دولي قوي قادر على فرض إطار تسوية أو توفير ضمانات توقف انهيار أي اتفاق مستقبلي. ونتيجة ذلك كله، يبقى الحديث عن المفاوضات أقرب إلى مسرح سياسي تُستخدم فيه الرموز والإشارات لضبط الإيقاع الاستراتيجي، لا لإنهاء الحرب.

خامسًا: السيناريوهات الاستشرافية المحتملة
1. سيناريو استمرار الحرب الطويلة (الأعلى احتمالًا)
يُرجَّح أن تستمر الحرب الأوكرانية كصراع طويل الأمد، مدفوعًا بحالة الجمود الميداني وصعوبة تحقيق اختراقات استراتيجية في ظل التحصينات الثقيلة ونقص الذخيرة وتباطؤ الصناعات العسكرية للطرفين. ويقابل ذلك إرهاق سياسي متزايد في الدول الداعمة لكييف، مقابل قدرة موسكو على إدارة حرب استنزاف منخفضة الوتيرة تراهن فيها على الزمن لتآكل الدعم الغربي. وفي غياب ضامن دولي قادر على فرض تسوية، ورفض الأطراف تقديم تنازلات جوهرية، يتجه الصراع نحو “تعايش نزاعي” يستمر فيه القتال المحدود وتتعاظم فيه أهمية القدرة الصناعية على إنتاج الذخيرة. وينتج عن هذا المسار تبعات سياسية واقتصادية ممتدة، من ضغط اقتصادي على أوروبا إلى تفاقم الأعباء الإنسانية على أوكرانيا، ما يجعل نهاية الحرب—إن حدثت—مرجّحة عبر هدنة أو تسوية جزئية لا عبر حسم عسكري حقيقي.
2. سيناريو هدنة غير رسمية
قد تُنتج الإشارات الحالية “تهدئة مؤقته” دون اتفاق مكتوب، مشابهة لحروب كوريا أو جنوب القوقاز.يمثّل سيناريو “الهدنة غير الرسمية” حالة وسطية لا تصل إلى تسوية سياسية ولا تبقى في دائرة الحرب المفتوحة، بل تنتج عن وصول الأطراف إلى مستوى عالٍ من الإرهاق الميداني والاقتصادي يدفعها إلى تقليل وتيرة العمليات دون إعلان وقف إطلاق نار رسمي. وفي هذا السيناريو، تُبقي موسكو وكييف على خطوط التماس ثابتة نسبيًا، مع خفضٍ محسوب للضربات واسعة النطاق، بينما يُدار الصراع عبر اشتباكات محدودة، ورسائل ردع متبادلة، وضبط للنيران في مناطق معينة بما يخدم احتياجات كل طرف لإعادة الترميم وإعادة التموضع. وتستند هذه الهدنة غير المعلنة إلى تفاهمات ضمنية بوساطات متفرقة أو من خلال الإشارات السياسية المتبادلة، حيث يسعى الغرب إلى تخفيف الكلفة المالية والسياسية للدعم، فيما تحاول روسيا تثبيت المكاسب الميدانية من دون الدخول في جولات استنزاف جديدة. ورغم أن هذا المسار يخفف الضغط العسكري مؤقتًا، إلا أنه لا يعالج جذور الصراع، ويُبقي احتمالات العودة إلى التصعيد قائمة في أي لحظة، ما يجعل “الهدنة غير الرسمية” مجرد استراحة استراتيجية مؤقتة أكثر من كونها خطوة حقيقية نحو تسوية مستدامة.
3. سيناريو مفاوضات شكلية برعاية دولية
يفترض هذا السيناريو نشوء مسار تفاوضي ترعاه جهات دولية مثل الأمم المتحدة أو قوى وسيطة كتركيا أو الصين عندما يصل الصراع إلى مرحلة يتعذّر فيها على الأطراف تحمّل كلفته السياسية والاقتصادية والعسكرية. وفي هذا المسار، لا تذهب موسكو وكييف وواشنطن إلى طاولة التفاوض بدافع الرغبة، بل تحت ضغط الضرورة: تآكل القدرات الأوكرانية، تصاعد أعباء الدعم الغربي، ورغبة روسيا في تثبيت مكاسبها دون الانخراط في حرب مفتوحة تستنزف مواردها. وتأتي الوساطة الدولية هنا لتوفير “مظلّة شرعية” تسمح لكل طرف بالاحتفاظ بمكاسبه دون الظهور بمظهر المتراجع، عبر صياغة إطار أولي يشمل مبادئ عامة مثل وقف إطلاق النار، ترتيبات أمنية انتقالية، أو ممرات إنسانية، مع تأجيل القضايا الجوهرية كالحدود والاعتراف السياسي إلى مراحل لاحقة. ويستند هذا السيناريو إلى قدرة الوسيط على ممارسة ضغط متوازن، وإلى استعداد الأطراف الكبرى خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتوفير ضمانات تقي من انهيار الاتفاق. ورغم أن احتمال هذا المسار يبقى محدودًا في الظروف الحالية، إلا أنه يصبح ممكنًا في حال حدوث تحوّل نوعي: تغيير في موقف الكونغرس الأميركي، تدهور مفاجئ في الجبهة الأوكرانية، أو أزمة اقتصادية تضغط على روسيا. ومع ذلك، تبقى هذه المفاوضات إن حدثت بداية لمسار طويل وغير مضمون، أكثر من كونها مدخلًا لتسوية سريعة أو نهائية. باختصار هذا قد يتحقق إذا: حصل انهيار في الدعم الأوروبي لأوكرانيا، أو
واجهت روسيا ضغوطًا اقتصادية قاهرة، أوشهدت الجبهة الأوكرانية انهيارًا مفاجئًا. لكن هذا السيناريو ضعيف.
4. سيناريو التصعيد المتبادل
يبقى احتمال التصعيد قائمًا، خاصة إذا بدا أن أحد الأطراف يقترب من انتصار استراتيجي يغير التوازن.
الخاتمة
لا تمثّل الإشارات التفاوضية الحالية تحولًا جوهريًا في مسار الحرب، بل هي جزء من لعبة التموقع الاستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
فروسيا تسعى إلى تثبيت المكاسب وفرض وقائع جديدة، بينما تهدف الولايات المتحدة إلى إدارة الصراع وضبط نتائجه، لا إنهائه.وبذلك، تُعدّ “الإشارات التفاوضية” مجرد مناورات سياسية–إعلامية هدفها الضغط، تحسين الموقع التفاوضي المستقبلي،وإظهار “مرونة” غير مُلزِمة.
ولا يمكن الحديث عن “مسار سلام” أو “تسوية حقيقية”، لأن البيئة الاستراتيجية لم تنضج بعد لولادة اتفاق يمكن أن يحظى بقبول الأطراف فضلاً استمرار تضارب المصالح مع استمرار تمسك الاطراف في المواقف مما يعقد المشهد في المستقبل المنظور.



