الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
معضلة الهوية في هونغ كونغ

بقلم: ستيفن إس. روتش
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
على الرغم من تعافي القطاع المالي في هونغ كونغ وعودة مؤشر هانغ سنغ إلى الارتفاع واستعادة المدينة موقعها المتقدم عالمياً في الاكتتابات العامة الأولية، فإن هونغ كونغ ما تزال تقدّم نفسها بصورة منقوصة مقارنةً بمرحلة ازدهارها السابقة، فقد أسهم النفوذ المتزايد للصين في هيكل الحوكمة بالمدينة في تقويض دورها التقليدي بوصفها مركزاً دولياً مفتوحاً للتجارة والتمويل.
هونغ كونغ- لا تزال اللافتة المعلّقة في مطار هونغ كونغ الدولي ترحّب بالزائرين بعبار مرحباً بكم في مدينة آسيا العالمية، ورغم أن هذه العبارة تمر عادةً دون انتباه فقد أثارت لديّ هذه المرة خلال زيارتي الأخيرة، قدراً من التأمل بشأن واقع المدينة وهويتها الراهنة.
فعلى المستوى الظاهري تبدو هونغ كونغ وكأنها تعافت في الأشهر الثمانية عشر الماضية منذ نشري مقالاً مثيراً للجدل في صحيفة الفاينانشال تايمز بعنوان (يؤلمني القول إن هونغ كونغ انتهت)، وبغض النظر عن الركود المستمر في سوق العقارات فإن القطاع المالي- المحرك الأكثر أهمية في اقتصاد المدينة- يشهد زخماً لافتاً يعيد التذكير بسنوات الازدهار السابقة.
ومع ذلك فإن استفادة الأسواق المحلية من نشاط الأسهم العالمية المتفائلة لا تشكّل معياراً حقيقياً للصلابة الاقتصادية، فاختبار القدرة على الصمود سيبرز عند حدوث التصحيح المتوقع وهو احتمال قد يقترب كثيراً إذا ما تحققت المخاوف المتنامية من فقاعة في قطاع الذكاء الاصطناعي، وكما هي الحال في الأسواق عادة يظل توقيت التصحيح مسألة غير قابلة للتنبؤ الدقيق.
وقد هدفتُ في مقال شباط 2024 إلى الإشارة إلى خطورة الركون إلى المظاهر. فقد أوضحت أن هونغ كونغ التي عرفها العالم لم تعد قائمة وأن نموذج “دولة واحدة، نظامان” الذي اقترحه دنغ شياو بينغ قد تحوّل فعلياً إلى صيغة أحادية أقرب إلى دولة واحدة، نظام واحد. وقد استندتُ في ذلك إلى ثلاثة عوامل محورية:
أولاً: الارتباط البنيوي بين اقتصاد هونغ كونغ والاقتصاد الصيني جعله رهينة حالة التباطؤ المزمن التي تشهدها الصين.
ثانياً: أدت حملة القمع التي أعقبت احتجاجات عام 2019 إلى إضعاف سيادة القانون وحرية التعبير واستقلالية الصحافة في المدينة.
ثالثاً: تجد هونغ كونغ نفسها في قلب التوترات المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة ما يعمق الشكوك لدى شركائها التجاريين ويمسّ مكانتها كاقتصاد منفتح.
ولم تلقَ هذه الرؤية قبولاً لدى العديد من زملائي وأصدقائي في هونغ كونغ إذ يجادلون بأن تناقص عدد الخبراء والمهنيين الأجانب- وهو عنصر جوهري في أي مدينة عالمية- قد توازنه زيادة العمالة القادمة من البر الصيني الرئيسي، ورغم صحة جانب من هذا الطرح إذ بات سماع المندرينية شائعاً شأنها شأن الكانتونية في الأسواق والشوارع، إلا أن ذلك لا يغيّر حقيقة أن العديد من العاملين الأجانب التقليديين، خصوصاً البريطانيين والأميركيين يغادرون المدينة.
الأمر ذاته ينطبق على المشهد الإعلامي المتقلّص إذ شهدت هونغ كونغ منذ عام 2019 إغلاق ثلاث صحف كبرى، أبل ديلي وستاند نيوز وسيتيزن نيوز فضلاً عن توقف أو تقليص نشاط عدد من المنصات المستقلة الأخرى، كما يواصل الرئيس التنفيذي جون لي- وهو ضابط شرطة سابق- الدعوة إلى رواية “القصص الجيدة عن هونغ كونغ”، تماشياً مع توجيهات الرئيس الصيني شي جين بينغ حول رواية القصص الجيدة عن الصين.
وتتجلّى تآكلات سيادة القانون أيضا في انحسار عدد القضاة الأجانب في محكمة الاستئناف النهائية من 15 إلى ستة منذ عام 2019، وقد جاءت بعض الاستقالات احتجاجية أبرزها استقالة القاضي البريطاني جوناثان سامبشن الذي حذّر من أن المناخ السياسي الضاغط والصوت المتكرر المطالب بـ”الوطنية القضائية” باتا يهددان استقلال القضاء.
وتؤكد البيانات الاقتصادية هذه التحولات إذ تباطأ متوسط نمو الناتج المحلي الصيني من 10.1% خلال الفترة 1980–2011 إلى 6.1% بين 2012 و2024، بينما تباطأ نمو هونغ كونغ من 5.1% إلى 1.5% خلال الفترتين نفسهما، ويتوقع صندوق النقد الدولي تراجع النمو الصيني إلى 3.4% بحلول 2030، وهو ما يضع اقتصاد هونغ كونغ أمام ضغوط إضافية تتعارض مع توقعات الصندوق بتحسن طفيف في نمو المدينة إلى 2.3%.
شاركتُ خلال الأسبوع الماضي في مؤتمر رفيع المستوى حول العلاقات الأميركية – الصينية وخضعتُ لانتقادات مباشرة خلال جلسة بعنوان ما بعد دور الوسيط نفوذ هونغ كونغ في صراع القوى الكبرى، وقد دار النقاش حول ما إذا كانت هونغ كونغ قادرة على لعب دور مستقل في تخفيف حدة التوترات الجيوسياسية، وباستناد إلى الأدلة المطروحة أكدت أنّ قدرتها على أداء هذا الدور قد تقلّصت منذ 2019 بفعل الهيمنة السياسية الصينية.
ولم يوافقني أحد من المشاركين معتبرين أنني أتجاهل السمة التي يرونها الأكثر رسوخاً في هوية هونغ كونغ قدرتها المتكررة على التكيّف وإعادة تشكيل ذاتها، ويُظهر الرفض الشعبي لفكرة تحوّل المدينة إلى “مجرد مدينة صينية كبرى” تمسّكاً واضحاً بهويتها التاريخية، وقد تجلّى ذلك بوضوح عندما غادرتُ المطار ونظرتُ مجدداً إلى اللافتة ذاتها، فـ “مدينة آسيا العالمية” لا تزال وإن بإنكار ملحوظ متمسكة بروايتها القديمة عن نفسها.
* Stephen S. Roach, Hong Kong’s Identity Quandary, project syndicate, Nov 27, 2025.



