الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
الخداع الامريكي تجاه العرب: من الهيمنة الى خطة ترامب للسلام

بقلم: الباحث نوار العبد الرزاق الحسن الثامر
منذ عشرينات القرن المنصرم، شكلت العلاقات العربية- الامريكية أحد اهم السياسات الدولية في المنطقة العربية، فقد رفعت امريكا شعارات الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية، لكنها في الممارسة اعتمدت سياسات قائمة على السيطرة والتحكم والهيمنة، مستخدمة ادواتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية للحفاظ على مصالحها الحيوية. هذا التناقض الواضح بين الاقوال والافعال أنتج يقينا “خداعا استراتيجيا تجاه العرب”، وهي سياسة برأيي اصيلة في البنية الامريكية الخارجية، وان تغيرات الإدارات واختلفت الادوار والصور.
بدايات القرن العشرين (وعود وازدواجية)
وعدت بريطانيا وفرنسا وبمشورة امريكا العرب بمملكة عربية موحدة، مقابل وقوفهم- اي العرب- في الحرب العالمية الاولى معهم- اي الحلفاء- ضد الدولة العثمانية، وبالفعل وقف بعض العرب -خصوصا الذين تم اعطاء الوعد لهم- مع بريطانيا وفرنسا والحلفاء في تلك الحرب، وفي الاثناء كانت فرنسا وبريطانيا برفقة امريكا والحلفاء يتفاوضون على تقاسم تركة الدولة العثمانية -الرجل المريض على حد زعمهم-، وتفكيك العرب الى دول متفرقة ورسم حدودها، واعطاء فلسطين وطن قومي لليهود، وذلك عبر اتفاقية سايكس- بيكو المشؤومة، ووعد بلفور الجائر، فالأول انتج دولا ضعيفة مفككة، اما الثاني فأفضى لدولة يهودية مزعومة (ومدعومة غربيا). فلا مملكة عربية موحدة (حسب الوعود)، ولا سيادة ولا استقلال، بل دول ممزقة وبحدود مرسومة مصطنعة، وايضا ارض عربية مغتصبة- فلسطين- ومقدس منهوب- القدس-.
مرحلة الخمسينيات والستينيات ووعود بالتحرر
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قدمت امريكا نفسها كقوة مناهضة للاستعمار ومع الاستقلال والتحرر، لكنها في واقع الحال العملي جهدت الى اخذ مكان النفوذ البريطاني والفرنسي، واستبداله بنفوذها وهيمنتها هي، فلم تقف عند هذا الحد، فدعمت بعض الانقلابات العسكرية التي واجهت حركات وتيارات التحرر القومية والشعبية المستقلة، كما حصل في ايران وبعض الدول العربية فيما بعد. وفي الوقت الذي نادت فيه بشعار” حق الشعوب بتقرير المصير”، وقفت ضد اي محاولة لتأميم الموارد الوطنية او بناء سياسة خارجية مستقلة، كما حصل في مصر والعراق وغيرهما، وضربت اي مشروع قومي وحدوي.
امريكا تعتبر ان اي وحدة عربية او استقلال سياسي او اقتصادي هو تهديدا لمصالحها القومية، على مبدأ (كارتر) ” ان اي تهديد للنفط العربي هو تهديد للأمن القومي الامريكي”، فعملت على تفكيك التحالفات العربية عبر اتفاقات منفردة، مما جعلها مسيطرة ومهيمنة.
النفط مقابل الحماية والبقاء
عندما رأت امريكا ان العرب عاجزين عن ان يكونوا دولا ذات سيادة او حتى يفكروا بان يكونوا عالما عربيا واحدا، سارعت الى تكوين تحالفات مع الانظمة العربية خصوصا النفطية منها، مقابل الحماية العسكرية والسياسية. ان هذه السياسة ضمنت البقاء لهذه الانظمة واستمرار تدفق النفط بما يلائم مصالحها، مع التزام هذه الانظمة بخطوط السياسة الامريكية وعدم تجاوزها باي حال، وبالوقت ذاته، عملت واشنطن على السيطرة على جيوش هذه الانظمة الحاكمة والتحكم بمعداتها وفقا لمصالحها. ففي مرات كثيرة وعبر العقود الماضية حدثت خروقات واعتداءات على بعض الدول العربية التي تحت الحماية الامريكية كان (اخيرها) وليس (اخرها) الهجوم على مصافي شركة ارامكو النفطية السعودية، والاعتداء (الإسرائيلي) على قطر، فلم تحمي امريكا حلفائها النفطيين كما هو متفق عليه، بل اكثر من ذلك، ان بعض المعدات العسكرية الامريكية مثل الرادارات ومضادات الصواريخ لم تكن تعمل او لم تعمل بالشكل المطلوب(حسب رأي بعض العسكرين المختصين). بمعنى ان هذه المعدات والأسلحة ناقصة او يمكن تعطيلها اذا خالفت مصالح امريكا.
بالإضافة الى ان امريكا سعت الى احتواء القوة العسكرية وتقويضها احيانا، فدعمت الاتفاقات المنفردة، كما حصل مع مصر في اتفاقية كامب ديفيد 1978، والاردن في اتفاقية وادي عربة 1994، حيث خرجتا من المعادلة العربية في صراعها مع (اسرائيل)، وبالتالي ضعف الموقف العربي برمته.
من حرب الخليج الى الفوضى الخلاقة
منذ التسعينيات وقبلها بقليل، تحولت امريكا الى اللاعب المتفرد في المنطقة، حيث استغلت بهذا التفرد والسيطرة (غزو الكويت 1990) لتشكيل تحالف نظامي عربي دولي تحت قيادتها، ضمنت من خلاله تواجدا دائما في المنطقة العربية، لكن ما ظهر كتحالف للتحرير كان في اساسه هو رسم خارطة جديدة للهيمنة الامريكية المطلقة على المنطقة.
وما وعدت امريكا العرب بالاستقرار ودعم المؤسسات وبالمجيء(بالحرية والديمقراطية) المزعومتين، حتى غزت العراق عام 2003، بحجة اسلحة الدمار الشامل، ودعمت الانظمة الاستبدادية، فضربت بذلك كل المواثيق والعهود، فدمرت مؤسسات الدولة العراقية، مما ادخل العراق في فوضى طائفية وسياسية وامنية كبيرة، وايضا المنطقة بمرحلة اللاستقرار، وذلك ضمن استراتيجيتها القائمة على اضعاف الدولة العربية القوية وتحويلها الى كيانات متنازعة.
“الربيع العربي” واعادة تكوين الهيمنة
في عام 2011، قامت ثورات شعبية هائلة في كثير من الدول العربية، سرعان ما رفعت امريكا شعار دعم ” التحول الديمقراطي” المزعوم، وتأييد الثورات الشعبية، ولكنها تراجعت سريعا عندما هدد هذا الحراك الشعبي مصالحها المباشرة، فقد سمحت بسقوط بعض الانظمة، بينما دعمت بقاء او عودة انظمة اخرى، بما يتوافق مع مصالحها ومصالح اجنداتها في المنطقة. في تناقض وخداع جديد.
من صفقة القرن الى خطة ترمب للسلام
منذ وصول ادارة ترمب الى السلطة(2017)، تحول الخداع الامريكي الى نهج مكشوف وواضح يقوم على الامر الواقع( وهذا الشيء خطير جدا)، جاءت بما يسمى “بصفقة القرن” كخطة سلام، وهي ليست كذلك، وانما مشروعا لتصفية القضية الفلسطينية، وسحب اكبر قدر ممكن من الدول العربية عبر “التطبيع” لإضعاف الموقف العربي اكثر من جهة، وتقوية (إسرائيل) واطلاق يدها من جهة اخرى.
واليوم يأتي ترمب مع ادارته ثانية، عبر المأساة والابادة الصهيونية المرتكبة في غزة، بما يسمى بخطة سلام اخرى، ولكن بظروف مغايرة وبمعطيات مختلفة، وبدعم عربي ودولي مطلق، صحيح ان ظاهرها ربما نهاية لحرب الابادة في غزة، واعادة اعمار ما تم تدميره والى ما هنالك، ولكن الناظر الى شيء من تاريخ امريكا بهذا الصدد يرى ان هذه المسماة (خطة سلام)، تنطوي في داخلها على خدعة كبيرة اخرى، فان تمت هكذا، فستحصل امور كثيرة، اهمها:-
اولا: سوف تخرج (إسرائيل) من عزلتها الهائلة وتصادمها مع المجتمع الدولي شيئا فشيئا، وايضا ستطلق يدها في المنطقة اكثر بحيث تطال ما لم تقدر ان تطاله في الفترة الماضية.
ثانيا: سيسرع قطار التطبيع وسيقل على متنه دولا عربية اخرى وربما نرى السعودية من ضمن راكبيه.
ثالثا: سيضعف الموقف العربي أكثر رغم ضعفه، وسيتم تصفية ما تبقى من بقايا القضية الفلسطينية.
رابعا: وربما تسير الامور الى ابعد من ذلك بحيث يتم ضم الضفة والقدس بشكل رسمي وكامل، هذا من جهة، من جهة اخرى وعبر الرؤية الامريكية في غزة وضمن ” الحل الاقتصادي” يتم تحويلها الى منطقة معزولة تعتمد على غيرها، وربما تقام دولة فلسطينية على ارضها- اي قطاع غزة- تكون منزوعة السلاح وبدون سيادة او ارتباط وطني او قومي او اسلامي.
الخاتمة
ان السياسة الامريكية تجاه العرب، وعبر العقود الطويلة، لم تكن مجرد اخطاء او سوء فهم، بل على العكس تماما كانت مشروعا استراتيجيا متكاملا للهيمنة والسيطرة (قوامه الخداع الاستراتيجي) بما يضمن بقاء (إسرائيل) قوية، والدول العربية ضعيفة تابعة، والشعوب عاجزة عن اي فعل جماعي ذي بال.
وان كانت امريكا قد نجحت في فرض معادلاتها لسنوات، فان صمود غزة ومقاومتها للمشاريع الاستعمارية يعبران عن استمرار الوعي الشعبي العربي الرافض للخداع، وان القضية الفلسطينية ومقاومتها ستبقيان ما دام هنالك احتلال، وايضا ستبقيان المقياس الحقيقي الانساني والاخلاقي والسياسي الذي يكشف كل الحقائق، مهما تغيرت الادوار والتحالفات، وتبدلت الوجوه والتوازنات.



