الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
الأمن الاقتصادي في زمن التنافس الجيوستراتيجي
قراءة في الاتفاق الأميركي-أسترالي حول المعادن الحيوية

بقلم: نور نبيه جميل
باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
في خضم التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي اليوم من صعود الصين كقوة صناعية وتقنية، إلى إعادة ترتيب سلاسل التوريد العالمية، ثم صدامات القُوى في منطقة المحيط الهندي-الهادئ بات الأمن الاقتصادي أحد محاور القوة المحورية، إلى جانب الأمن التقليدي والمسلَّحين. وفي هذا السياق، يُعد اتفاق Australia-United States الموقّع في 20 تشرين الاول 2025 بشأن المعادن الحيوية ونادرة الأرض والذي يهدف إلى إنشاء “إطار الشراكة” في التعدين والمعالجة، خطوة ذات دلالة جوهرية مؤثرة في النظام الدولي الحالي.
إذًا، إلى أيّ مدى يمثل هذا الاتفاق تجسيدًا لتحول في مفهوم الأمن الاقتصادي داخل العلاقات الدولية؟ وكيف يعكس إعادة تشكيل التحالفات الصناعية والجيو-اقتصادية، في مواجهة هيمنة الصين على المعادن النادرة؟
الفرضية التي سأبني عليها هذا التحليل هي: أن الاتفاق ليس مجرد تعاون اقتصادي بين حليفين، بل هو نموذج لتوظيف الموارد الطبيعية كأداة استراتيجية ضمن التنافس الجيواستراتيجي، ما يعكس تحوّلاً في طبيعة التحالفات وعناصر القوة في النظام الدولي. وسنبين ذلك كما في المحاور التالية:
المحور الأول: الأمن الاقتصادي والتحول في سلاسل التوريد
الأمن الاقتصادي هنا يُفهم على أنه القدرة الوطنية أو الحلفية على تأمين الموارد الحيوية والقدرات الصناعية المرتبطة بها، بما يضمن الاستقلال التكنولوجي والقدرة على المنافسة في مجالات ذات أبعاد دفاعية وصناعية.
في هذه الحالة، تشير البيانات الرسمية إلى أن الاتفاق يتضمّن استثمارًا مبدئيًا لا يقلّ عن مليار دولار من كل دولة ضمن خطّ أنابيب مشاريع بقيمة حوالي 8.5 مليار دولار في غضون ستة أشهر. كذلك، أحد المحاور الأساسية في الاتفاق هو معالجة المعادن الحيوية ليس فقط استخراجها إذ تمّت الإشارة إلى مشروع في غرب أستراليا لمعالجة الغاليوم (Gallium) والمشاريع الكبرى الأخرى.
بهذا، يبدو أن الولايات المتحدة وأستراليا عبر هذا الاتفاق تسعيان إلى تنويع سلاسل التوريد التي لطالما اعتمدت على الصين كمُعالج ومصدّر رئيسي للمعادن النادرة. ففي المقالة التحليلية لـ Center for Strategic and International Studies (CSIS) يُوضّح أن أستراليا تُعدّ “الشريك الأهم للولايات المتحدة في تأمين المعادن الحيوية” نظراً لموقعها ومواردها.
من هذا المنظور، يمكن القول إن هذا الاتفاق يشكّل استجابة لعائق البُعد الاقتصادي- التقني للأمن القومي: أي أن الاعتماد المفرط على مورد واحد أو على دولة واحدة لمعالجة موارد استراتيجية هو مخاطرة، ويُعاد اليوم تصوّر التحالفات ليس فقط من منظور عسكري/أمني، بل من منظور القدرات الاقتصادية والصناعية المشتركة.
التحالفات الجيو-اقتصادية وإعادة هندسة القوة
إذا انتقلنا إلى البُعد الجيوستراتيجي، فإن الاتفاق يشير إلى أن التحالف بين الولايات المتحدة وأستراليا لا يقتصر على الجانب العسكري أو الأمني التقليدي، بل يتوسّع ليشمل الجانب الاقتصادي الاستراتيجي. فوثائق الحكومة الأسترالية تذكر أن الاتفاق “يرتقي بشراكتنا التاريخية إلى القادم” وأنه “سيساعدنا في تحقيق مرونة وأمن سلاسل التوريد للمعادن الحيوية والمعادن النادرة”.
ويمكن أن نرى في هذا السياق ثلاثة أبعاد رئيسية:
-
البُعد التحالفي: من خلال الربط بين أمن التحالفات التقليدية (على سبيل المثال، إطار AUKUS) وبين الاقتصاد الصناعي. فالتركيز على التعدين والمعالجة يدلّ على رغبة في دمج القدرات الاقتصادية ضمن بنية التحالف.
-
البُعد الجيو-اقتصادي: الصين، من جانبها، تتحكّم حالياً بعمليات المعالجة والتصدير للمعادن النادرة، مما يمنحها نفوذاً صناعيًا واستراتيجيًا. الاتفاق الأميركي- الأسترالي يُوجّه رسالة بأن الحلفاء من خارج الصين يسعون لتقليص ذلك النفوذ.
-
البُعد الشرعي / الأخلاقي / التكنولوجي: تصنيع تقنيات المستقبل (مثل الذكاء الاصطناعي، البطاريات، تصنيع السيارات الكهربائية، أنظمة الدفاع) يتطلب معادن نادرة. تأمين هذه المواد يصبح أحد عناصر القدرة الوطنية، وما بين الدول أصبح موضوع شراكة استراتيجية وليس مجرد تجارة.
بهذا، يمكن القول إن الاتفاق يعكس تحولاً في مفهوم القوة: قوة لا تكتفي بالعدد العسكري، بل تشمل السيطرة على سلاسل القيمة الصناعية، والتحالفات الصناعية-التكنولوجية، والاعتماد المتبادل. وبذلك، يصبح الأمن الاقتصادي عاملًا جوهريًا في التوازنات الدولية.
البعد البيئي والتكنولوجي في الأمن الاقتصادي
بينما يُركّز التحليل التقليدي على البُعد الاقتصادي والتحالفي، فإن البُعد البيئي-التكنولوجي يُمثل اليوم الركيزة الثالثة للأمن الاقتصادي، خاصة في قضايا الموارد الحيوية والمعادن النادرة.
فالاتفاق الأميركي- الأسترالي لم يُصمم فقط لتقليل الاعتماد على الصين، بل أيضًا لتأمين إمدادات مستدامة بيئيًا وتقنيًا تتوافق مع التحول العالمي نحو الاقتصاد الأخضر، وإنتاج التقنيات النظيفة التي تعتمد على هذه المعادن (كالليثيوم، النيكل، الكوبالت، الغاليوم، النيوديميوم… إلخ). ويتوضح ذلك كما في الاتي:
-
البعد البيئي: هذا الاتفاق يتماشى مع سياسات “التعدين النظيف” التي تتبناها أستراليا في مقابل نموذج الصين القائم على الإنتاج الكثيف والتلوث البيئي العالي. كما أن الشراكة تهدف إلى إنشاء معايير بيئية جديدة للتعدين والمعالجة، ما يجعلها جزءًا من “حوكمة الموارد” العالمية. هنا نلمس تحوّلًا في مفهوم القوة الناعمة الاقتصادية، إذ باتت الدول تستخدم الالتزام البيئي أداة لتعزيز شرعيتها الاقتصادية والسياسية في النظام الدولي.
-
البعد التكنولوجي: الولايات المتحدة تسعى عبر هذه الاتفاقات إلى تأمين المعادن الضرورية لتصنيع أشباه الموصلات والبطاريات والذكاء الاصطناعي والروبوتات — أي ركائز التفوق التكنولوجي في القرن الحادي والعشرين. إذًا، الأمن الاقتصادي لم يعد فقط تأمين المواد الخام، بل ضمان التحكم في دورة الابتكار التكنولوجي من التعدين إلى التصنيع إلى التصدير.
هنا يظهر التداخل بين الأمن الاقتصادي والأمن التكنولوجي، حيث يصبح التقدم الصناعي جزءًا من الردع الجيو-اقتصادي. نخلص من ذلك إلى النتيجة الاتية: ان الاتفاق الأميركي- الأسترالي لا يمكن فهمه بمعزل عن “الحرب التكنولوجية” بين الولايات المتحدة والصين. وبالتالي، يُضاف إلى أبعاد الأمن الاقتصادي والتحالف الجيو-استراتيجي بُعد جديد هو التحكم في التكنولوجيا البيئية، الذي سيحدد موازين القوى في العقود المقبلة.
إعادة تشكيل النظام الاقتصادي الدولي
هذا المحور يمنح بعدًا هيكليًا في فهم الاتفاق داخل سياق النظام الدولي ذاته: فالاتفاق يعكس تحوّلًا من العولمة المفتوحة إلى التحالفات الاقتصادية المغلقة (Bloc Economies)، أي تشكيل تكتلات اقتصادية-تكنولوجية مغلقة حول القوى الكبرى. ومن منظور نظريات العلاقات الدولية، يمكن تفسيره ضمن المدرسة البنائية-الليبرالية الجديدة، التي ترى أن التعاون في ظل التنافس يُنتج مؤسسات اقتصادية جديدة تضبط قواعد السوق العالمي.
كما يمكن تحليل هذا الاتجاه باعتباره خطوة نحو تعددية قطبية اقتصادية، فبموازاة التحالف الأميركي-الأسترالي، هناك تحالفات مقابلة في آسيا (الصين-روسيا-إيران) وأخرى في أمريكا اللاتينية (البرازيل-الأرجنتين-جنوب أفريقيا). بذلك، يُسهم الاتفاق في تكوين نظام عالمي “شبكي” متعدد المحاور بدل النظام الأحادي الذي ساد بعد الحرب الباردة.
الخاتمة:
إن الاتفاق الأميركي-الأسترالي حول المعادن الحيوية يُعدّ تجسيدًا لمرحلة جديدة من التحالفات الدولية حيث الأمن الاقتصادي يتحوّل إلى بُعد مركزي في سياسة القوة، ليس فقط من خلال القدرات العسكرية، بل عبر الموارد الاستراتيجية، سلاسل التوريد، والبُنى الصناعية. وهو من هذا المنظور ليس فقط عنصرًا فنيًا أو تجارياً، بل رمزاً سياسيًا- جيواقتصاديًا لإعادة هندسة النظام الدولي في حقبة ما بعد-العولمة التقليدية.
لكن، ثمة ملاحظات حول هذا التحالف مهمة:
-
على الرغم من الالتزامات المالية الكبرى، فإن بنية المعالجة والتصنيع لاتزال تحت سيطرة الصين بشكل كبير، ما يعني أن النتائج العملياتية قد تتأخر أو تواجه تحديات إنتاجية.
-
من الضروري أن تُشمل الدول والمناطق خارج الولايات المتحدة وأستراليا في هذا النوع من التحالفات، وإلا فقد يتحول الأمر إلى استبدال اعتماد طرف بتبعية طرف آخر، وهو ما قد يثير اعتراضات من دول ثالثة أو يدخل في تنافسات جديدة.



