الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
التوظيف السياسي للذكاء الاصطناعي في تشكيل السردية الرقمية
قراءة معمّقة في مشروع 545 "الإسرائيلي" بعد انهيار السردية "الإسرائيلية"

بقلم: د. محمد حسن سعد
رئيس معهد وورلد ڤيو للعلاقات الدولية والدبلوماسية
المقدمة
منذ اندلاع حرب الإبادة (الإسرائيلية)* على غزة في تشرين الأول عام 2023، لم تعد المعركة بين الفلسطينيين و(إسرائيل) محصورة في الميدان العسكري، اذ انتقلت إلى الفضاء الرقمي، حيث تُخاض حرب موازية على الوعي والذاكرة والتفسير. في هذا الفضاء المترامي، لم تعد القوة تُقاس بعدد الطائرات أو الصواريخ، بل بعدد الظهورات الرقمية ومعدلات التفاعل ودرجة اختراق المحتوى للرأي العام العالمي.
ومع تصاعد التوثيق الدولي لجرائم الحرب وتزايد عزلة (إسرائيل) في المنتديات الأممية، بدأت السردية (الإسرائيلية) تتهاوى أمام ما كشفته الشاشات من مشاهد الإبادة والقتل والتدمير وبات واضحاً ان هذا الكيان فقد موقعه “كضحية” وتحول في نظر شعوب العالم إلى كيان يمارس الإبادة الجماعية بغطاء أميركي مكشوف، هذه الأزمة الوجودية في صورته العالمية دفعته إلى شنّ حرب موازية في ميدان جديد: الوعي الصناعي أي الفضاء الذي تشكله الخوارزميات والمنصات ووسائل التواصل.
من هنا وُلد مشروع 545، أكبر برنامج دبلوماسي ـــ رقمي تموله الحكومة (الإسرائيلية)، ليصبح تجسيداً عملياً لمفهوم “الحرب الإدراكية” المعززة بالذكاء الاصطناعي، حيث تتجاوز الحرب حدود الإعلام إلى إعادة هندسة العقل الجمعي الأميركي والعالمي.
أولاً: الخلفية والأهداف ـــ إعادة إحتلال الوعي الأميركي
تشير وثائق سجل الوكلاء الأجانب الأميركي (FARA) إلى أن وزارة الخارجية (الإسرائيلية) وقّعت عقداً مع شركة Clock Tower X LLC التي يديرها براد بارسكال، المستشار الرقمي لحملة دونالد ترامب الإنتخابية الهدف المعلن هو تحقيق خمسين مليون ظهور رقمي شهرياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يُخصَّص منها ثمانون في المئة لاستهداف جيل Z – أي الجيل الجامعي وما بعده، الذي يُظهر اليوم أدنى مستويات التعاطف مع (إسرائيل) في تاريخ العلاقات الأميركية ـــ (الإسرائيلية). ويوازي هذا المشروع برنامج آخر يُعرف باسم “مشروع إستير” (Project Esther)، يموّل مؤثرين أميركيين موالين (لإسرائيل) عبر عقود ضخمة تصل إلى تسعمائة ألف دولار للفرد الواحد، مقابل نشر محتوى موجه ومنسق وفق جدول شهري محدد يتراوح بين خمسةٍ وعشرين إلى ثلاثين منشوراً للفرد. يتم ذلك ضمن ما يُعرف في دراسات الاتصال السياسي بـ”هندسة الرأي العام ((Public Sentiment Engineering”، أي التأثير في المواقف والمشاعر الجمعية من خلال تكرار الرسائل والرموز الموجّهة عبر قنوات شخصية غير رسمية. وبهذا الأسلوب تتحوّل الدبلوماسية (الإسرائيلية) من خطاب سياسي علني إلى دبلوماسية خوارزمية تعمل في الظل، لا عبر السفراء والمبعوثين فحسب، بل من خلال المؤثرين والمحتوى المموّل الذي يبدو “عضوياً” بينما هو في الحقيقة إنتاج دعائي محكوم بالأهداف السياسية. هذه المنهجية ليست جديدة تماماً، إذ سبقتها تجارب لافتة في توظيف الذكاء الاصطناعي ضمن الحملات السياسية والإعلامية الحديثة، ومنها على سبيل المثال:
-
الحملة الإنتخابية للرئيس الأميركي جو بايدن (2020) استخدمت أنظمة تحليل بيانات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحديد أنماط السلوك الرقمي للناخبين، وتخصيص الرسائل السياسية لهم بدقة غير مسبوقة. فبدل الإعلانات العامة، كانت كل فئة عمرية أو مناطقية تتلقى محتوى مصمماً خصيصاً بناءً على اهتماماتها، ما مكّن الحملة من توجيه السرد الإنتخابي بدقة شبه جراحية في فضاء التواصل.
-
2. أما أوكرانيا فقد قدّمت نموذجاً مختلفاً في التوظيف السياسي للذكاء الاصطناعي خلال الحرب مع روسيا، إذ استخدمت تقنية المحاكاة الرقمية لإنتاج مقاطع للرئيس فولوديمير زيلينسكي بخاصية الذكاء الاصطناعي، يتحدث فيها بلغات متعددة موجهاً رسائل عاطفية وإنسانية للرأي العام الغربي، في محاولة لبناء تعاطف عالمي يتجاوز حدود اللغة والجغرافيا.
غير أن الاختلاف الجوهري في الحالة (الإسرائيلية) يتمثل في أن المشروع لا يهدف إلى تسويق سياسات محددة أو كسب تأييد ظرفي، بل إلى إعادة صياغة الهوية الإدراكية (لإسرائيل) داخل الوعي الأميركي، إنه مشروع يسعى إلى إعادة إحتلال العقول بعد أن خسرت (تل أبيب) موقعها الرمزي في المخيال الغربي، مستخدماً الذكاء الاصطناعي كأداة لاستعادة الشرعية الأخلاقية والسياسية في فضاء لم يعد يتقبل خطابها القديم.
وهكذا لا يعود مشروع 545 مجرد حملة دعائية، بل يصبح مختبراً لتجريب شكل جديد من القوة الناعمة الرقمية، حيث تُدار الحروب على الوعي بوسائل الحساب لا بالسلاح، وبالخوارزميات لا بالجيوش. ومن هنا تنفتح ضرورة تحليل البنية التكنولوجية للمشروع نفسه، بوصفها الساحة التي يُعاد فيها تعريف الحقيقة في زمن الذكاء الاصطناعي.
ثانياً: البعد التكنولوجي ـــ الذكاء الاصطناعي كسلاح لإعادة تعريف الحقيقة
يُعدّ مفهوم “إطار GPT (GPT Framing)” جوهر مشروع 545، وهو أسلوب يستهدف التأثير في أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية الكبرى مثل ChatGPT وGemini وGrok، من خلال ضخّ محتوى موجّه في الفضاء الرقمي المفتوح الذي تعتمد عليه هذه النماذج في التدريب.
ولا تقتصر الغاية على تحسين صورة (إسرائيل) في الفضاء الإعلامي، بل تمتد إلى إعادة تشكيل البنية المعرفية التي تستند إليها النماذج التوليدية في فهم الأحداث وتحليلها، بحيث تصبح المفردات والمصادر (الإسرائيلية) جزءاً من النسيج المرجعي للخوارزميات التي تصوغ الإدراك العالمي.
بهذا المعنى تسعى (إسرائيل) عبر وحدات رقمية متخصصة تتعاون مع شركات أميركية إلى ما يمكن تسميته بـ “إحتلال قاعدة البيانات العالمية”، أي فرض حضور كثيف وممنهج داخل البيئة التي تُغذّي الذكاء الاصطناعي بالمعلومة والمعنى، الهدف أن تصبح المواقع والمدونات والمنصات الرسمية (الإسرائيلية) مصادر أولى يُبنى عليها التفسير والتحليل ما يمنح روايتها سلطة “المصدر الموثوق” ولو كانت متحيزة.
ويُعرف هذا النهج في الأدبيات التقنية الحديثة باسم تحسين محركات الإجابة التوليدية (Generative Engine Optimization – GEO)، وهو التطور الأحدث لمفهوم تحسين محركات البحث التقليدي (SEO)لكن الفارق الجوهري أن GEO لا يغيّر ترتيب النتائج فحسب، بل يعيد برمجة البيئة المعرفية ذاتها التي تعمل ضمنها النماذج التوليدية فتُعيد إنتاج رواية بعينها وتقصي ما يخالفها. وليست (إسرائيل) الدولة الوحيدة التي تتجه في هذا المسار، إذ سبقتها تجارب أخرى أبرزها الصين، التي طوّرت خوارزميات موازية مخصّصة لتوجيه الذكاء الاصطناعي المحلي بما يتوافق مع سردية الدولة ومفاهيمها عن الأمن والاستقرار.
غير أن (إسرائيل) تذهب أبعد من ذلك عبر دمج التحليل العاطفي (Sentiment Analysis) والتنبؤ السلوكي (Behavioral Prediction) في حملاتها الرقمية، لتصميم محتوى يُحدث استجابات نفسية وجماعية متماهية مع روايتها الأمنية، فيتحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تقنية إلى آلية للتحكم الإدراكي وإنتاج الوعي السياسي.

ثالثاً: الأبعاد القانونية والسياسية ـــ التلاعب بالسيادة الرقمية
من الناحية القانونية، يُفترض أن تسجيل الأنشطة الإسرائيلية ضمن سجل الوكلاء الأجانب الأميركي (FARA) يوفّر حداً أدنى من الشفافية، إذ يُلزم الكيانات الأجنبية بالإفصاح عن تمويلها ونطاق نشاطها داخل الولايات المتحدة. غير أن ما يجري في الواقع يكشف عن تحايلٍ منهجي على الإطار القانوني الأميركي، حيث تُخفي الحملة تمويلها خلف عقود تسويق خاصة وشراكات رقمية شخصية، لتبدو وكأنها نشاط تجاري لا صلة له بالدبلوماسية أو النفوذ السياسي. وبذلك يتحوّل المشروع إلى شكلٍ جديد من النفوذ الخارجي المقنّع داخل النظام الإعلامي الأميركي، يمرّ عبر قنوات “القطاع الخاص” بينما يقوم فعلياً بوظائف دعائية وسياسية لدولة أجنبية. ويتكشّف هذا التضارب بين الإطار القانوني والممارسة الفعلية في ثلاثة مستويات رئيسية:
-
تضليل الرأي العام:
المؤثرون الأميركيون المشاركون في المشروع لا يفصحون عن ارتباطهم بالتمويل الحكومي (الإسرائيلي)، ما يشكّل انتهاكاً مباشراً لقواعد الشفافية المنصوص عليها في سياسات المنصّات الرقمية الكبرى (مثل Meta وYouTube وX)، التي تفرض على صانعي المحتوى السياسي الممول الإفصاح عن الجهة الراعية. هذا التمويه يُنتج “دبلوماسية مموّهة” تتسلل إلى الوعي العام دون أن تُدرَك كدعاية، في مخالفةٍ واضحة لمبدأ الموافقة الواعية للمستخدم (Informed Consent) الذي يشكّل أساس الثقة في الفضاء الرقمي.
-
اختراق المجال الديمقراطي:
إن توجيه محتوى سياسي منظَّم إلى جيل الناخبين الشباب في الولايات المتحدة يشكّل تدخلاً سيبرانياً ناعماً في العملية الديمقراطية، لا يعتمد على اختراق صناديق الاقتراع، بل على تشكيل التوجهات والمواقف قبل لحظة التصويت.
هذه الظاهرة تطرح إشكالية عميقة تتجاوز الإطار القانوني إلى مسألة السيادة الإدراكية، إذ يصبح القرار الديمقراطي نفسه ناتجاً عن بيئة معلوماتية مُهندَسة خارجياً، وهذا ما دفع بعض مراكز الأبحاث الأميركية إلى تصنيف هذا النمط من الحملات ضمن ما يُعرف بـ “Digital Influence Operations” ، أي العمليات التي تُعيد توجيه الخطاب السياسي من داخل المجال العام الأميركي عبر أدوات غير أميركية.
3. إعادة إنتاج استعمار المعرفة:
أخطر ما في المشروع أنه لا يقتصر على تزييف الوعي الآني، بل يسعى إلى إعادة هيكلة البيئة المعرفية التي يُنتج فيها الوعي العالمي، فحين تُوجَّه أنظمة الذكاء الاصطناعي لتتبنّى سردية واحدة وتُهمّش الأخرى، يصبح العالم محكوماً بخوارزمياتٍ تنطق باسم طرفٍ واحد. هذا النمط من الهيمنة الفكرية يعبّر عن نمطٍ جديد من الاستعمار، استعمار الوعي والمعرفة الذي يَسلب الأفراد والمجتمعات حقهم في تشكيل إدراكهم الحر، ويُعيد إنتاج المركزية الغربية ـــ (الإسرائيلية) داخل الحقول الرقمية والمعرفية، حتى في بيئات تبدو مفتوحة ومتعددة.
بهذا المعنى، يمارس المشروع هيمنة ما بعد حداثية لا على الأرض أو الجغرافيا، بل على المخيال الجماعي. إنها صورة معاصرة لما يُعرف في نظريات الأمن المعرفي بـ “الإحتلال الإدراكي” (Cognitive Occupation)، حيث تُدار الحرب لا بالمدفع ولا بالدبلوماسية، بل بإعادة برمجة العقول لتتبنّى المعاني التي يريدها المحتل، دون أن تدرك أنها خضعت لعملية إعادة تشكيل إدراكي من الأساس. هذا الشكل من الإحتلال هو الأخطر في بنية الصراع الحديث، لأنه لا يترك أثراً مادياً قابلاً للقياس، بل يزرع نفوذه في الأنظمة الرمزية والمعرفية التي تُحدّد ما هو “صحيح” وما هو “شرعي”. وبينما ينهار الإحتلال العسكري التقليدي أمام المقاومة والمساءلة، ينمو هذا الإحتلال الجديد في صمتٍ، متغذياً على الثقة التقنية وغياب الضوابط القانونية العالمية للذكاء الاصطناعي.
رابعاً: القراءة السياسية ـــ (إسرائيل) بعد السقوط السردي
لقد انهارت الصورة (الإسرائيلية) عالمياً بعد مجازر غزة، وتبدّلت مكانتها من “الدولة الديمقراطية المحاصَرة” إلى كيان استعماري يرتكب الإبادة الجماعية.
ففي الجامعات الأميركية، اندلعت أكبر موجة احتجاجات طلابية مناهضة (لإسرائيل) منذ حرب فيتنام، وامتدت إلى أكثر من 80 جامعة، حيث رُفعت شعارات تُدين الصمت الغربي وتطالب بمحاسبة الإحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية. وفي أوروبا، خرجت الملايين إلى الشوارع في عواصم كبرى مثل لندن ومدريد وباريس، في تظاهرات اعتُبرت الأكبر دعماً لفلسطين في التاريخ الحديث، فيما شهدت المؤسسات الإعلامية الغربية انقساماً حاداً بين خطابٍ رسمي متردد وصحافة ميدانية تفضح الجرائم بالوثائق والصور.
أما في مجلس الأمن، فقد فشلت الولايات المتحدة مراراً في تمرير قرارات تدعم (إسرائيل) دون اعتراض واسع من الدول الأعضاء، حتى من حلفائها التقليديين، ما عكس تراجعاً حقيقياً في الإجماع الدولي حول “الشرعية الأخلاقية” (الإسرائيلية) التي طالما مثّلت الركيزة الأساس لدبلوماسيتها منذ 1948.
أمام هذا التحول، يدرك صانع القرار (الإسرائيلي) أن المعركة الحقيقية لم تعد تُحسم في الميدان العسكري، بل في الميدان الإدراكي والرمزي، أي في كيفية تمثيل الحرب في الوعي الجمعي العالمي. ولذلك يأتي مشروع 545 كمحاولة لإعادة إنتاج السيطرة الرمزية عبر أدوات الذكاء الاصطناعي والفضاء الرقمي، في محاولة لإعادة تعريف ما هو “حقيقي” وما هو “مبرَّر”، ولإعادة رسم إدراك العالم لما يجري في غزة من خلال فلترة الصور والسرديات.
لكن المفارقة العميقة أن (إسرائيل)، التي طالما احتكرت ما كانت تسميه “السردية الأخلاقية” بوصفها “ضحية دائمة”، أصبحت اليوم الدولة المنبوذة عالمياً، تواجه انهياراً في مشروعها الرمزي أكثر من السياسي أو العسكري.
فكل صورة لطفل مغطى بالغبار، وكل تسجيل يوثّق قصف المستشفيات والمدارس، أصبح أقوى من ألف منشور دعائي لأن الحقيقة لم تعد تُدار من غرف التحرير، بل من هواتف الناس وعدسات الميدان. وبينما تراهن (تل أبيب) على “الخوارزمية” لتلميع صورتها واستعادة سرديتها، تُنتج الشعوب حول العالم رواية مضادة أكثر صدقية واستقراراً: (إسرائيل) كقوة استعمارية تمارس الإبادة الجماعية، لا كدولة محاصَرة تدافع عن نفسها. وهكذا تنقلب أدوات الحرب الإدراكية عليها ذاتها، إذ تكشف التكنولوجيا التي أرادت استخدامها للسيطرة على الوعي عن عريها الأخلاقي والسياسي أمام الضمير الإنساني العالمي.
خامساً: التقييم الإستراتيجي ـــ حدود القوة الخوارزمية
على الرغم من ضخامته التقنية والمالية، يكشف مشروع 545 عن أزمة ثقة (إسرائيلية) بنيوية في قدرتها على الإقناع عبر الأدوات التقليدية للدبلوماسية والإعلام.
فبعد أن كانت تتحكم لعقود في سردية “الدولة الديمقراطية المحاصَرة”، وجدت نفسها أمام جيلٍ عالمي جديد لا يخضع للخطاب الرسمي ولا لهيمنة المؤسسات الإعلامية الكبرى، بل يبني وعيه من خلال شبكات بديلة مثل “تيك توك” و”ريديت” و”إنستغرام”، حيث تنتشر الروايات الفلسطينية من دون وسائطٍ أو رقابةٍ مركزية.
هذا التحول في بنية الاتصال الرقمي حوّل الرأي العام العالمي إلى فضاء لا مركزي يصعب التحكم فيه بالوسائل الدعائية الكلاسيكية، إذ أصبحت المنصات نفسها تميل إلى تعزيز المحتوى التوثيقي والإنساني استجابة لضغوط المستخدمين ولمنظومات المراجعة الأخلاقية.
في هذا السياق، تتآكل فعالية الحملات (الإسرائيلية) لأن أي محاولة لفرض سردية مصطنعة تصطدم بفيضٍ من الأدلة البصرية التي تنتجها الهواتف والناشطون والمراسلون الميدانيون لحظةً بلحظة، ما يجعل عملية “إدارة الإدراك” شبه مستحيلة في عالمٍ يرى الجريمة مباشرةً على شاشته. حتى الذكاء الاصطناعي ذاته، الذي أرادت (إسرائيل) تسخيره لتثبيت روايتها، أصبح جزءاً من المفارقة. فبينما تحاول وحداتها الرقمية “تغذية” النماذج التوليدية بخطابها الرسمي عبر ضخ المحتوى المنظَّم، فإن ملايين المنشورات والصور والوثائق التي تنتجها منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الإعلامية المستقلة والمستخدمون حول العالم، تدخل تلقائياً في فضاء التدريب نفسه لتخلق توازناً إدراكياً مضاداً يصعب السيطرة عليه. بمعنى آخر، إن النظام المعرفي العالمي نفسه بات ينتج مقاومة رقمية تلقائية، لأن خوارزميات الذكاء الاصطناعي مهما كانت موجهة، لا تستطيع إلغاء حجم الحقيقة المتدفقة من الواقع. ومع ذلك، يكشف المشروع عن تحوّل جوهري في التفكير الإستراتيجي (الإسرائيلي) فالنخب الأمنية تدرك أن الحروب الحديثة لم تعد تُحسم بالقنابل، بل بالمعلومة والتأثير وصناعة الرأي. لكن التجربة أثبتت أن القوة الخوارزمية مهما بلغت من التعقيد تظل عاجزة عن إعادة بناء شرعية أخلاقية مهدّمة، فالهزيمة الكبرى (لإسرائيل) لم تقع في الميدان العسكري بل في الميدان الرمزي، أمام صور الضحايا وكاميرات الصحافة المستقلة وضمير العالم الذي لم يعد يصدّق روايتها الرسمية.
سادساً: أمثلة واقعية موازية ـــ الذكاء الاصطناعي كساحة صراع على الحقيقة
تُظهر التطورات الأخيرة أن الذكاء الاصطناعي لم يعد أداة تقنية محايدة، بل ساحة مركزية للصراع على الوعي والرواي فما بين استخدامه لتزوير الوقائع وتوجيه الإدراك، وتوظيفه في كشف الانتهاكات وتوثيق الحقيقة، تتجلى ازدواجية التكنولوجيا بوصفها أداة سيطرة من جهة، وآلية مقاومة من جهة أخرى. وفي هذا الإطار، تكشف بعض أمثلة عامي 2024 و2025 عن مدى توظيف هذه التقنيات في الحرب على غزة، بل وفي صراعات أخرى حول العالم وهذه الأمثلة هي:
-
في نيسان عام 2024، كشفت صحيفة واشنطن بوست عن استخدام شبكة حسابات مزيفة مرتبطة بوزارة الخارجية (الإسرائيلية) لنشر مقاطع فيديو مولّدة بالذكاء الاصطناعي تُظهر ما وُصف بـ”مسلحين فلسطينيين” يرتكبون أعمال عنف ضد مدنيين، وتبيّن لاحقاً أن المقاطع صُمِّمت في استوديو رقمي في (تل أبيب) بتمويل حكومي، في محاولةٍ لصناعة سردية مضادة تبرّر العدوان وتُعيد تعريف الضحية والجاني.
-
أعلنت شركة ميتا (فيسبوك وإنستغرام) في أيار عام 2024 عن حذف أكثر من خمسة آلاف حساب مموّل من جهات (إسرائيلية)، بعد أن أثبتت تحقيقات داخلية تورطها في حملات تلاعب منسّق بالرأي العام الأميركي، تضمنت الترويج لمحتوى مضلل وتحريف النقاشات حول جرائم الحرب في غزة.
-
في المقابل أطلقت مؤسسات إعلامية وبحثية مثل الجزيرة ديجيتال وForensic Architecture مشاريع تحليل بصري تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرسم خرائط دقيقة للمجازر في غزة، باستخدام تقنيات التحقق الجغرافي الزمني (Geo-Temporal Verification)، ما وفّر أدلة رقمية دامغة على استهداف الجيش (الإسرائيلي) للمدنيين.
-
أثارت إنتخابات عام 2024 في الهند جدلاً واسعاً بعد انتشار تسجيلات مزيفة بتقنية ديب فيك Deepfake تُظهر معارضين سياسيين وهم يدلون بتصريحات طائفية، وقد بيّنت التحقيقات أن جهات حزبية استخدمت الذكاء الاصطناعي لتوجيه الرأي العام في المناطق الريفية، مما فتح نقاشاً عالمياً حول حدود الدعاية الرقمية في الأنظمة الديمقراطية.
-
اعترفت لجنة الانتخابات الفيدرالية في الولايات المتحدة الأميركية في تقريرها لعام 2025 بتنامي ظاهرة الإعلانات السياسية المولّدة بالذكاء الاصطناعي، والتي تُستخدم لتضليل الناخبين قبل الانتخابات الرئاسية، ما دفع الكونغرس إلى مناقشة تشريع جديد يُعرف باسم AI Accountability Act لتنظيم استخدام المحتوى الاصطناعي في الحملات الانتخابية.
تُظهر هذه الأمثلة مجتمعة أن الذكاء الاصطناعي أصبح ميداناً مزدوجاً للحقيقة والزيف، استخدمته وتستخدمه (إسرائيل) لتزييف الإدراك وتلميع صورتها المنهارة وتستغله بعض الدول لأغراض إنتخابية ودعائية، بينما يوظّفه المجتمع المدني والإعلام المستقل لكشف الأكاذيب وتثبيت السردية الإنسانية. وهكذا لم تعد الحرب تدور فقط على الأرض، بل في فضاء الوعي الرقمي، حيث تُخاض المعركة على جوهر الحقيقة ذاتها من يملك حقّ تعريفها؟
الخاتمة
يمثل “مشروع 545” ذروة التحول من الدبلوماسية التقليدية إلى السيطرة المعرفية، ومن الإعلام السياسي إلى الهندسة الإدراكية الخوارزمية، حيث لم تعد (إسرائيل) تكتفي بتبرير أفعالها بل تسعى إلى إعادة تعريف الحقيقة ذاتها عبر أدوات الذكاء الاصطناعي.
غير أن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذا المشروع، بدل أن يعيد بناء سرديتها، كشف عن أزمتها الوجودية العميقة. (فإسرائيل) التي طالما قدّمت نفسها للعالم بوصفها “دولة محاطة بالأعداء”، تجد نفسها اليوم محاطة بالحقائق الدامغة، حقائق موثقة بالصوت والصورة تُفكك خطابها وتجرّدها من الغطاء الأخلاقي الذي بنَت عليه مشروعها منذ 1948.
لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي في هذه الحرب إلى مرآة أخلاقية أكثر منه أداة دعائية، فبينما سخّرته (إسرائيل) لمحاولة طمس المجازر وإعادة كتابة التاريخ، استخدمه الصحفيون والباحثون ومنظمات حقوق الإنسان لتثبيت الوقائع وكشف زيف الرواية الرسمية. وهكذا، أضحى كل تطبيق ذكيٍّ وكل خوارزمية تعلمٍ عميق جزءاً من صراع رمزي على الذاكرة والضمير.
ولعلّ ما قاله رئيس الحكومة (الإسرائيلية) بنيامين نتنياهو خلال الحرب التي اندلعت عقب 7 تشرين الأول عام 2023 يلخّص جوهر هذه المعركة: إذ أعلن أن (إسرائيل) تقاتل على سبع جبهات هي غزة، الضفة الغربية، لبنان، سوريا، العراق، اليمن، وإيران، لكن نتنياهو غيب عمداً المواجهة الأخطر على الجبهة الثامنة: جبهة السردية والرواية.
هذه الجبهة التي تدور رحاها في فضاء الوعي والضمير العالمي كانت ولا تزال أخطر ساحات الصراع، لأن الهزيمة فيها لا تُقاس بخسائر مادية، بل بفقدان الشرعية الأخلاقية أمام العالم، وقد خسرتها (إسرائيل) فعلياً بعد أن تهاوت روايتها أمام الكمّ الهائل من الأدلة والصور والشهادات القادمة من غزة.
ورغم ضخامة المشروع وتطوره التقني تبقى الحقيقة أقوى من الخوارزمية، فالصورة التي تولدها برامج المحاكاة لا تستطيع أن تمحو مشهد طفل يُنتشل من تحت الركام ولا أن تُخرس صرخة أمّ فقدت أبناءها في حرب تُبثّ وقائعها لحظة بلحظة أمام ضمير الإنسانية، إنّ كل محاولة لتزوير الوعي تتحطم في النهاية أمام بساطة المشهد الإنساني الصادق الذي لا يحتاج إلى خوارزمية ليُقنع.
لقد دخلت (إسرائيل) عصر الذكاء الاصطناعي من موقع الدفاع لا الريادة، تحاول أن تُرمم صورتها المتكسّرة لا أن تصنع نموذجاً معرفياً جديداً، فهي تدرك أن معركتها لم تعد عسكرية أو سياسية فحسب بل وجودية وسردية تُحدّد فيها الشعوب من يملك الحقيقة ومن فقدها.
أما الدرس الأعمق الذي يكشفه هذا المشروع فهو أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصنع خطاباً، لكنه لا يصنع ضميراً، يمكنه أن يكتب رواية، لكنه لا يستطيع أن يمنحها شرعية أخلاقية.
فالخوارزميات تُبرمج، أما الوعي الإنساني فيُوقظ، وهذه هي المعركة التي خسرتها (إسرائيل) قبل أن تبدأها.
* لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.



