الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
السياسة المزدوجة: طموحات روسيا البحرية في البحر الاحمر واثرها على الصراع في السودان

بقلم: حسن فاضل سليم
باحث في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
يعد الوصول الى المياه الدافئة الهاجس الرئيس لروسيا منذ وقت طويل، فمساحتها الواسعة التي مكنتها من انشاء قوة برية ضخمة لم تكن كافية لتجعل منها قوة عظمى مادامت حبيسة الجغرافية البرية وبعيدة عن السواحل الاستراتيجية، لذلك بات الوصول الى البحار الدافئة وتثبيت قواعد فيها الشغل الشاغل لصانع القرار الاستراتيجي الروسي منذ قرون بهدف تأكيد مكانتهم العالمية، وبقدر تعلق الامر بالسواحل الافريقية على البحر الاحمر، تشكل منطقة القرن الافريقي واحدة من اهم المناطق الساحلية المطلة على البحر الاحمر والمحيط الهندي والتي تزدحم بها القواعد البحرية للدول الكبرى التي تسعى للسيطرة والتحكم بممر باب المندب، تحاول هذه الورقة قراءة المساعي الروسية الجارية لإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان وتداعياتها الاستراتيجية على استقرار السودان والمنطقة.
اولا: ميناء بورتسودان واهميته بالنسبة لاستراتجية روسيا البحرية:
يمثل ميناء بورتسودان واحد من اهم الموانئ البحرية المطلة على البحر الاحمر وذلك لانه في موقع يتوسط البحر الاحمر بالتالي تحاول روسيا من خلال بناء القاعدة البحرية في هذا الميناء للحصول على موطئ قدم في البحر الاحمر لاسباب عدة:
-
ان موقع الميناء يمنح روسيا فرصة للتمدد البحري بقواتها حيث ستكون روسيا قادرة على نشر قواتها البحرية في البحر الاحمر مما يمكنها من امتلاك مسار انتشار بحري يمتد من البحر الاسود مرورا بالبحر المتوسط والبحر الاحمر ووصولا الى المحيط الهندي ما يؤمن لروسيا انتشارا عسكريا واسع النطاق، كما ان موقع القاعدة في هذا الميناء بعيد نسبيا عن القواعد البحرية الغربية في جيبوتي ما يقلل التماس مع القوى الغربية.
-
ان التمدد البحري الروسي سيؤدي الى كسر الطوق الأطلسي على روسيا ويمنح الاخيرة مساحة حركة تمكنها من مد نفوذها في مناطق مختلفة بهدف تأكيد مكانتها الدولية كقوة كبرى.
-
ان التواجد العسكري الرسمي لروسيا على السواحل الافريقية في القرن الافريقي يمكن ان يشكل مقدمة وبوابة لتغلغل النفوذ الروسي في منطقة القرن الافريقي وكذلك يسهل النفاذ الى قلب القارة السمراء.
-
من الاهداف الاخرى لروسيا هي ان السيطرة على هذا الميناء سيمنح روسيا موقعا مهما لتأمين طرق التجارة الدولية عبر البحر الاحمر من خلال باب المندب وقناة السويس واستخدام الميناء كبوابة لاستيراد الموارد الافريقية.
-
تسعى روسيا من خلال الاتفاق مع حكومة البرهان لتعزيز شرعية وجودها البحري في البحر الاحمر بهدف ضمان مصالحها الاستراتيجية.
ثانياً: الازدواجية الروسية في التعامل مع الحالة السودانية:
تتعامل روسيا مع الصراع في السودان بين الجيش السوداني بقيادة (عبد الفتاح البرهان) وقوات الدعم السريع بقيادة (حميدتي) ببراغماتية كبيرة وازدواجية تحافظ من خلالها على علاقات مع طرفي الصراع، ففي وقت توقع فيه روسيا على المستوى الرسمي اتفاقا لإنشاء قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان مع حكومة (عبد الفتاح البرهان) لتأمين وجودها الرسمي وتحافظ على علاقات رسمية مع الحكومة، بالمقابل تدعم روسيا وبشكل غير رسمي مليشيات الدعم السريع وذلك عبر قوات شركة فاغنر.
تشير التقارير الدولية الى ان التعاون بين فاغنر وقوات الدعم السريع يتحقق من خلاله مصالح اقتصادية لموسكو عبر ما يمكن تسميته باقتصاد الظل القائم على تهريب الذهب السوداني لصالح موسكو واطراف اقليمية اخرى، حيث تقوم قوات فاغنر بتقديم السلاح والتدريب لمليشيات الدعم السريع مقابل السماح لفاغنر بحماية مناجم الذهب في مناطق سيطرة الدعم السريع، حيث انشأت روسيا شركة واجهة مسجلة باسم ميوري للذهب و هي شركة تعمل على تعدين الذهب من المناجم السودانية فيما تقوم بتصنيعه على شكل سبائك في معمل يقع في منطقة العبيدية شمال السودان تسيطر عليه قوات الدعم السريع وتحميه قوات فاغنر.
ان عملية الاستخراج والتصنيع هذه تتم بدون تسجيل هذه السبائك بشكل رسمي في السجلات المالية للبنك المركزي السوداني اذ يتم تهريبها الى دبي عبر جسر جوي يتكون من طائرات شحن عسكرية روسية تنقل الذهب الى دبي حيث يتم الوصول الى الاسواق المالية العالمية بسهولة اكبر مما يؤدي الى تحويل الذهب الى دولارات لصالح روسيا وهو ما يوفر شريان حياة مالي لروسيا يساعدها على تمويل حربها المستمرة في اوكرانيا بالاضافة الى تمويل قوات فاغنر وتحويلها الى شركة قادرة على تمويل نفسها ذاتياً بالاضافة الى استخدام هذه الاموال لشراء النفوذ في دول عدة سواء بأفريقيا او غيرها مما يساعد على توسيع النفوذ الروسي.
بالتالي فأن روسيا تستفيد من خلال قوات فاغنر في تهريب الذهب السوداني لكنها ايضا بشكل رسمي تحتفظ بعلاقات مع الحكومة السودانية لكي تحتفظ بمصالحها الاستراتيجية في حال انتصار الجيش السوداني واستعادة النظام ولكي تضمن عدم خروجها من المعادلة في حال خسارة الدعم السريع وفقا لقاعدة عدم وضع البيض في سلة واحدة، لذلك توفر القاعدة البحرية في حال انشاءها وجودا مناسبا لروسيا لتأمين مصالحها في القرن الافريقي والبحر الاحمر.
ثالثا: الخطة البديلة .. اريتريا بديل محتمل:
تمثل اريتريا بديل مناسب ومحتمل لموسكو في حال اخفاقها في انشاء القاعدة البحرية في بورتسودان لاسيما مع الاطلالة البحرية التي توفرها اريتريا، فضلا عن ان استمرار الحرب الاهلية في السودان قد تعطل تنفيذ الاتفاق الاخير، حيث تمثل اريتريا البديل المثالي بدلا من السودان فهي دولة تتوافق مع روسيا في معارضة الوجود الغربي، لاسيما ان السفن الروسية زارت اريتريا في مناسبات عدة اخرها في عام 2024 بالاضافة الى توقيع مذكرات تفاهم بين الموانئ الروسية والموانئ الاريتيرية مثل مذكرة التفاهم بين ميناء سيفاستوبول الذي تسيطر عليه روسيا وميناء مصوع الأريتيري.
الا ان وجود القاعدة الروسية في اريتريا سيجعلها قريبة من مناطق نفوذ القوات البحرية الغربية الموجودة قواعدها في جيبوتي ما يجعل ميناء بورتسودان يبقى خيارا مثاليا لروسيا في تعزيز نفوذها البحري بعيدا عن التنافس والتزاحم مع القوى الغربية عند مضيق باب المندب.
الخاتمة
بناء على ما تقدم يمكن القول أن سعي روسيا لتثبيت وجودها البحري في البحر الأحمر ليس مجرد طموح عسكري عابر، بل هو فصل جديد في استراتيجيتها الكبرى لإعادة تعريف دورها كقوة عالمية. لقد أظهرت موسكو براغماتية لافتة في السودان، عبر إدارتها لشبكة مصالح معقدة تجمع بين الدبلوماسية الرسمية واقتصاد الظل، مستغلةً حالة عدم الاستقرار لتحقيق هدف استراتيجي طويل الأمد.
إن محاولة الحصول على قاعدة في بورتسودان، مع إبقاء خيار إريتريا حياً، يؤكد أن البحر الأحمر لم يعد مجرد ممر تجاري هادئ، بل تحول إلى مسرح جديد لـ “لعبة الأمم الكبرى”. وفي قلب هذه اللعبة، لم يعد مستقبل السودان واستقراره يتقرر بأيدي أبنائه فقط، بل أصبح مرتبطاً بشكل وثيق بتوازنات القوى العالمية ورقعة الشطرنج التي تتحرك عليها القوى الكبرى.



