الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
أهمية إقليم دونباس بالنسبة لبوتين .. قلب الصراع في أوكرانيا

بقلم: جون هالتيونغر، كاتب في مجلة فورين بوليسي
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
في القمّة التي انعقدت في ألاسكا أفادت تقارير بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبلغ نظيره الأميركي دونالد ترامب بأن إنهاء الحرب يتطلب من أوكرانيا التنازل عن السيطرة على إقليم دونباس شرق البلاد، في المقابل شدّد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مراراً على أنه لن يقبل بأي تنازلات إقليمية مقابل اتفاق سلام مؤكداً في الوقت ذاته أن الدستور لا يمنحه أصلاً صلاحية التخلي عن أراضٍ أوكرانية.
زيلينسكي حذّر مطلع الشهر من أن تسليم دونباس بالكامل لروسيا سيحوّله إلى “منصة انطلاق لهجوم جديد في المستقبل”، مضيفاً “إذا غادرنا دونباس طوعاً أو تحت الضغط فإننا نمهد الطريق لحرب ثالثة”، وتكشف استطلاعات الرأي الأخيرة أن غالبية ساحقة من الأوكرانيين (نحو 75%) ترفض رسمياً فكرة التنازل عن الأراضي لموسكو.
يُعرف دونباس بأنه اختصار لعبارة “حوض دونيتس”، وهو إقليم صناعي وتعديني يجاور روسيا ويتكوّن من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك اللتين يقطنهما نحو أربعة ملايين نسمة، وقد شكّل منذ البداية بؤرة توتر في الحرب الأوكرانية ولا يزال مرشحاً للبقاء محوراً للصراع بين كييف وموسكو في المدى المنظور.
إقليم رمزي واستراتيجي
أحد أبرز المبررات التي يقدّمها بوتين لغزو أوكرانيا يتمثل في دونباس، فالرئيس الروسي الضابط السابق في الـ”كي جي بي” المعروف بحنينه العلني إلى الحقبة السوفياتية يروّج للحرب باعتبارها سعياً مشروعاً لاستعادة “الأراضي الروسية”، مقدّماً دونباس بوصفه منطقة ذات جذور تاريخية روسية.
في عام 2022 زعم بوتين دون أدلة أن أوكرانيا ترتكب “إبادة جماعية” بحق الناطقين بالروسية في الإقليم وهو خطاب سبق أن استخدمه في حالة جورجيا عام 2008 قبيل اجتياح أوسيتيا الجنوبية، وعلى الرغم من الروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية بين الروس والأوكرانيين فإن خبراء يرون في رواية بوتين تحريفاً للوقائع ومحاولة ممنهجة لطمس الهوية الوطنية الأوكرانية، ويصف السفير الأميركي السابق لدى كييف ويليام تايلور هذه المزاعم بأنها “دعاية زائفة” تكشف “هوساً ممتداً لعقود” بالسيطرة على أوكرانيا وإلغائها كدولة مستقلة.
صحيح أن دونباس يضم كثافة من الناطقين بالروسية نتيجة قربه الجغرافي وتاريخه الصناعي في الحقبة السوفياتية حيث شهد تدفقاً واسعاً للعمال الروس بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الانتماء اللغوي لم يكن دائماً مرادفاً للتعاطف مع موسكو، فبعض الكتائب الأوكرانية التي قاتلت الانفصاليين الموالين لروسيا عام 2014 مثل كتيبة “دنيبرو-1” كان أفرادها في غالبيتهم يتحدثون الروسية، وهو ما يجعل الإقليم مثالاً صارخاً على التشابك المعقد بين اللغة والهوية الوطنية. تاريخ التصويت في دونباس يعكس بدوره هذا التعقيد، ففي استفتاء 1991 صوّت 83% من سكان الإقليم لصالح استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي في حين أظهرت انتخابات 2010 ميلاً واضحاً لمرشح موالٍ لموسكو، أما في انتخابات 2019 فقد حظي زيلينسكي- الناطق بالروسية أصلاً والذي خاض حملته متعهداً بإنهاء الحرب في الشرق- بدعم واسع في الأجزاء غير المحتلة من دونباس.
اليوم ومع الدمار الهائل والخسائر البشرية التي لحقت بالإقليم تزايدت مشاعر العداء تجاه روسيا بين سكانه، لكن أهميته بالنسبة لبوتين تتجاوز البعد الرمزي إذ يشكّل دونباس منطقة ذات ثقل اقتصادي واستراتيجي بفضل ثرواته من الفحم والمعادن وخصوبة أراضيه الزراعية فضلاً عن امتداده على ساحل بحر آزوف، وهذه المعطيات تفسر إلى حد كبير إصرار الكرملين على جعله بؤرة الصراع الرئيسية.
دونباس قلب الحرب الأوكرانية
يشير كثير من الأوكرانيين إلى أن الحرب لم تبدأ بالغزو الروسي الشامل عام 2022 بل تعود جذورها إلى عام 2014، فترة شهدت اضطرابات سياسية واجتماعية كبيرة في أوكرانيا، ففي ذلك العام غزت روسيا شبه جزيرة القرم وضمّتها بشكل غير قانوني وبدأت بدعم مسلحي الكرملين في مواجهة القوات الأوكرانية في إقليم دونباس.
بعد فترة قصيرة من ضم القرم شرع الانفصاليون الموالون لموسكو في السيطرة على أراضٍ في دونباس وأعلنوا جمهوريات منفصلة هي جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية، وقد اندلعت اشتباكات عنيفة بين القوات الأوكرانية والانفصاليين المدعومين من روسيا وأسفرت عن توقيع اتفاقيات مينسك عامي 2014 و2015 لوقف إطلاق النار، إلا أن هذه الاتفاقيات لم تُنفذ بالكامل واستمر النزاع على مدى ثماني سنوات مخلفاً نحو 14 ألف قتيل ونزوح حوالي 1.5 مليون شخص.
هذه الأحداث شكّلت الأرضية التي استندت إليها روسيا لشنّ غزوها الشامل في شباط 2022 إذ كان الانفصاليون قد استحوذوا بالفعل على نحو ثلث الإقليم بمساندة الجيش الروسي، قبل الغزو اعترف بوتين رسمياً باستقلال الجمهوريات الانفصالية وبدعاواها الإقليمية، فيما حذّر الرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن من أن موسكو تعدّ ذرائع للاستيلاء على مزيد من الأراضي بالقوة.
المقاومة الأوكرانية وحصن دونباس
يرى الخبراء أن روسيا لا تمتلك القدرة على احتلال كامل دونباس بسرعة وأن أي محاولة لذلك ستكلف عشرات آلاف الأرواح..
عند إطلاق الغزو الشامل كان الهدف الروسي السيطرة الكاملة على أوكرانيا وأثار هذا مخاوف غربية من انهيار القوات الأوكرانية بسرعة وإمكانية سقوط كييف في أيام قليلة، إلا أن الجيش الأوكراني قدّم مقاومة أشدّ من المتوقع محدثاً خسائر كبيرة في صفوف القوات الروسية وفشلت موسكو في تحقيق أهدافها الكبرى، بعد هذه الإخفاقات أعلن بوتين في اذار 2022 أن “تحرير دونباس” هو الهدف الأساسي للحرب.
لكن بعد أكثر من عقد من القتال سواء على يد الانفصاليين الموالين للكرملين أو الجيش الروسي نفسه لم تسيطر روسيا بالكامل على الإقليم، إذ تسيطر حالياً على نحو 88% من دونباس فيما تبقى نسبة ضئيلة من لوغانسك وحوالي 30% من دونيتسك تحت السيطرة الأوكرانية، ويقطن هذه المناطق نحو 250 ألف شخص.
يرى الخبراء أن روسيا لا تمتلك القدرة على احتلال كامل دونباس بسرعة وأن أي محاولة لذلك ستكلف عشرات آلاف الأرواح وربما سنوات من القتال، ويعتبر إصرار بوتين على تنازل كييف عن دونباس بدون مقاومة دليلاً على عدم رغبته الحقيقية في تحقيق سلام طويل الأمد، رغم التفاؤل النسبي لدونالد ترامب بإمكانية التوصل إلى اتفاق.
ويقول السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا ويليام تايلور “بوتين لا يفكر فعلياً في أي اتفاق سلام إلا إذا خضعت أوكرانيا بالكامل”، وأضاف أن روسيا رغم احتلالها نحو خمس مساحة أوكرانيا تحقق مكاسب محدودة على الأرض، وفشلها في السيطرة على مدينة بوكروفسك يوضح محدودية تقدمها في دونباس.
تعتبر المدن الغربية في دونيتسك التي ما زالت تحت السيطرة الأوكرانية – كـكراماتورسك، سلوفيانسك، كوستيانينيفكا، ودروجيكيفكا- جزءاً أساسياً منما يُعرف بـ”حزام القلاع” الأوكراني وهي ضرورية للدفاع عن باقي البلاد، وقد استثمرت أوكرانيا أكثر من عقد في تعزيز هذا الحزام وإنشاء بنية دفاعية وصناعية قوية حول هذه المدن.
ويشير تايلور إلى أن التنازل الطوعي عن هذه الأراضي الاستراتيجية أمر مستحيل وأن مطالبة بوتين بذلك “هراء”، ورغم أن أوكرانيا لا ترغب في التخلي عن الأراضي التي تسيطر عليها في دونباس، فإن استعادة السيطرة على الأراضي المحتلة في دونيتسك ولوغانسك تبدو صعبة للغاية في الظروف الراهنة.
مع استمرار جهود ترامب للتوصل إلى اتفاق قد تضطر كييف إلى الاعتراف فعلياً بسيطرة روسيا على أجزاء من دونباس وأراضٍ أخرى لإتمام صفقة السلام، لكن حتى في هذه الحالة يمكن لبوتين إعادة إشعال الحرب في أي وقت، ومن هنا تتزايد الدعوات لدعم أوكرانيا عبر تعزيز موقفها التفاوضي بواسطة دعم عسكري إضافي وفرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا.
ويختتم تايلور بالقول إن أفضل سيناريو ممكن هو أن يستخدم ترامب النفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري لإقناع بوتين بأنه لن يحقق نصره محذراً “بوتين سيواصل الضغط على الأوكرانيين ما لم يتم استخدام كل أشكال النفوذ المتاحة”.
* John Haltiwanger, Why the Donbas Matters to Putin So Much The region is at the heart of the Ukraine war, Foreign Policy, August 21, 2025.




