الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف
المواجهة الكبرى: تصاعد احتمالات الصدام بين روسيا وحلف الناتو

بقلم: حسن فاضل سليم / باحث في مركز حمورابي متخصص بالشؤون الروسية والاوراسية
تمثل الحرب الروسية- الاوكرانية نقطة تحول حاسمة في النظام الامني الاوروبي، وسط مخاوف متزايدة من انهيار اوكرانيا واحتمال اتساع رقعة النزاع. في ظل هذه التطورات تتجه اوروبا نحو تعزيز قدراتها العسكرية والتكنولوجية لمواجهة خطر روسي محتمل، مستندة على ارث تاريخي طويل من العداء والتنافس الجيوسياسي مع موسكو، حيث تشكل روسيا هاجساً امنياً مستمر لاوروبا. تبحث هذه المقالة في جذور الصراع، وتستعرض المؤشرات الراهنة التي يمكن ان تنذر بمواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا ودول اوروبا، من خلال حلف الناتو أو مبادرات أوروبية مستقلة.
اولاً: جذور العداء التاريخي بين اوروبا وروسيا:
لقد نشأت روسيا من امارة (كييفان روس) والتي كانت اول تجمع حضري للروس في التاريخ، عام 882م لقد كان لهذه الدولة صلات قوية بامبراطورية الروم البيزنطيين، حيث كان هؤلاء الروم والذين ينتمون للمسيحية الأرثوذكسيةالسبب في انتشار المسيحية في كييفان روس، بعد ان اعتنقها اميرهم (فلاديمير الاول)، لقد كانت المسيحية الأرثوذكسيةفي بيزنطة على خلاف عقائدي مع الفاتيكان في روما الذي يمثل الكنيسة المسيحية الكاثوليكية، ونتيجة لهذا العداء بين الكاثوليك والارثوذكس، فان بعض من الحملات الصليبية التي نظمتها اوروبا الغربية كانت تتجه نحو روسيا، لاسيما تلك الحملة الشهيرة نحو إمارة نوفغورد الروسية التي تصدى لها الروس عن طريق بقيادة امير نوفغورد (الكسندر نيفسكي) والذي تحول لاحقا الى بطل من ابطال التاريخ الروسي ورمزا من روموز الصراع بين الغرب وروسيا.
ان العداء تجذر اكثر بعد انشاء امارة موسكو عندما تعرضت عاصمة بيزنطة (القسطنطينية) الى غزو العثمانيين بقيادة محمد الفاتح الذي سيطر على المدينة واطلق عليها اسم اسطنبول واتخذها عاصمة لدولته عام 1453م، حينها كان امير موسكو ايفان الثالث قد تصاهر مع اخر أمراء القسطنطينية لذلك ادعى احقيته بالمطالبة بارث القسطنطينية الديني والسياسي في العالم المسيحي واعلن ان موسكو ستكون (روما الثالثة) ثالث عاصمة للمسيحية في العالم بعد روما والقسطنطينية، وعلى اساس هذا الاعلان دعمت موسكو موقف كنيستها لترتقي بها الى مستوى اقليمي بعدما كانت كنيسة محلية، وهو امر لم يرق للاوروبيين من اتباع كنيسة روما الذين ظنوا انهم تخلصوا من الأرثوذكسية للابد بعد سقوط القسطنطينية، وان العالم المسيحي سيكون تحت سيطرتهم.
لقد كانت روسيا في هذه الاثناء تتوسع شرقا وتزداد قوة حتى وصلت اسرة ال رومانوف الى السلطة، إذ بلغت روسيا مستوى الامبراطورية في عهد القيصر بطرس الاكبر حينها كانت روسيا تمر بعصرها الذهبي، إذ شكلت نداً حقيقياً لاوروبا، وشكلت تهديداً لها. لاحقا عندما قرر نابيلون غزو روسيا فأنه ادعى وجود وصية لبطرس الاكبر يدعو فيها من يخلفه في حكم روسيا الى التوسع عسكريا الى غرب اوروبا، وقد كان هذا المبرر لحملة نابليون ضد روسيا، فحتى بعد انقسام الكنيسة الكاثوليكية كان العداء بين ورسيا والغرب موجوداً والذي له جذور دينية تحولت لاحقاً الى هواجس جيوسياسية، وتخوف كبير من دولة قارية كبيرة مثل روسيا تمتد على مساحة واسعة من الارض.
وقد كان للحربين العالميتين الاولى والثانية وما توصلت اليه روسيا من توسع عسكري وجغرافي، وما تلا ذلك من نزاعات الحرب الباردة اثر كبير في تحويل روسيا الى تهديد مستمر في المدرك الاستراتيجي الاوروبي، حتى اصبح هذا التهديد هاجساً من هواجس الدول الاوروبية التي باتت تعتبر ان ضمان امنها يكمن بمحاصرة روسيا وتطويقها لمنعها من اي تحرك محتمل بل والعمل على تفتيتها وتقسيمها لضمان امن القارة الاوروبية.
لذلك يعد حلف شمال الاطلسي احد مخرجات هذه الهواجس الامنية في المخيلة الاوروبية والغربية، وكذلك مبادرات الدفاع المشترك الاوروبية فضلا عن مساعي اوروبا لدعم اوكرانيا ضد روسيا في الحرب كلها سلوكيات اوروبية نابعة من خشية قيام روسيا بالتوسع عسكريا نحو القارة الاوروبية.
ثانياً: مؤشرات المواجهة: الاستحضارات الاوروبية العسكرية في مواجهة روسيا
تُجري اوروبا منذ عامين جملة من الاستعدادات واسعة النطاق لتعزيز قدراتها مدفوعة بعدة اسباب من بينها الدروس المستنبطة من الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا، وتصاعد حدة الابتكار التكنولوجي فيها نحو اختراع اسلحة اقل تكلفة واعلى قدرةً وذكاءاً وفتكاً مما يحقق الاهداف العسكرية بدقة اكبر وكلفة اقل من الاسلحة التقليدية، كما ان سياسات الرئيس الامريكي (دونالد ترامب) ورغبته بتجاهل التزام بلاده بحلف الناتو وتوجهه نحو الداخل الامريكي، دفعت الاوروبيين ايضا لاعادة التفكير بترميم قدراتهم الدفاعية بانفسهم وتقليل الاعتماد على مظلة الحماية الامريكية المتكونة عبر حلف شمال الاطلسي الناتو.
لقد دفعت سياسة ترامب وتعاظم التهديد الروسي دول اوروبا الى خوض نقاش حاد بين اتجاهين الاول يدعو الى تشكيل جيش اوروبي موحد بعيداً عن حلف الناتو اما الاتجاه الثاني فيدعو الى الحفاظ على حلف الناتو مع تعزيز القدرات الاوروبية بشكل تكميلي لمهمة الحلف، وهو الاتجاه السائد (على الاقل في الوقت الراهن) والذي تؤمن به اغلب الدول الاوروبية الكبرى، لذلك تمارس هذه الدول ضمن حلف الناتو مجموعة من المناورات العسكرية من بينها مناورات المدافع الصامد عام 2024 والتي كانت اكبر مناورات لقوات برية يجريها حلف الناتو شارك بها حوالي 80 الف جندي من دول مختلفة وقد اجريت في هذه التدريبات محاكاة للقتال في مناطق شديدة البرودة تحاكي الطقس البارد للاراضي الروسية.
ورغم اعلان الاتحاد الاوروبي تبنيه خطط للعمل العسكري وتطوير القدرات ضمن الناتو، الا انه على ما يبدو يعلن ذلك بشكل مؤقت ريثما تتمكن الدول الاوروبية من تحقيق الاستقلال العسكري التدريجي عن الولايات المتحدة بحلول عام 2030 بعدما اعلنت رئيسة المفوضية الاوروبية (ارسولا فون دير لاين) في نيسان 2025 عن مبادرة اعادة تسليح اوروبا المعروفة باسم (الاستعداد 2030) والتي تقوم على تخصيص مبلغ 800 مليار يورو لتعزيز البنية الدفاعية الاوروبية، بشكل يجعل اوروبا اقل اعتماداً على الولايات المتحدة وحلف الناتو.
لذلك تعمل دول اوروبا على زيادة ميزانياتها الدفاعية وتجري مراجعات استراتيجية لخططها الدفاعية استعداداً لمواجهة محتملة مع روسيا، حيث تشير تقديرات الاستخبارات البريطانية بأن روسيا ستشكل الخطر الاكبر على بريطانيا بحلول بحلول عام 2030، إذ اجرت بريطانيا بدورها مراجعة استراتيجية لخططها الدفاعية تضمنت العمل على تسريع وتيرة الابتكار التكنولوجي في المجالات العسكرية من خلال الاعتراف بتراجع التفوق العسكري الغربي والبريطاني، فقد اعتبرت المراجعة الاستراتيجية البريطانية أن الابتكار هو العامل الحاسم لتحقيق النصر في الحروب المعاصرة، كما أوصت المراجعة البريطانية بضرورة الاستعداد التسليحي والتدريبي لحرب تقليدية طويلة ومكفلة مع روسيا، وقد دعت الحكومة لتخصيص ما نسبته 2.5%-3% من الناتج المحلي الاجمالي السنوي لتعزيز القدرات الدفاعية البريطانية ودعم الاستثمار في الابتكار بهدف تحقيق الرؤية الدفاعية البريطانية بحلول عام 2035 من خلال انشاء قوة دفاعية رائدة مدعومة بالتكنولوجيا.
اما المانيا فقد صوت برلمانها البونتستاغ على تعديلات دستورية تتيح للحكومة زيادة الاقتراض لتمويل الانفاق الدفاعي والبنية التحتية، من اجل تعزيز قدرات الجيش الالماني، حيث تخطط المانيا لبناء أكبر جيش تقليدي في اوروبا، وذلك لان التقديرات الالمانية تشير الى احتمال شن روسيا هجوما على اوروبا بحلول عام 2029، وفقا لما صرح به رئيس الاركان الألماني* ما دفع المانيا الى تفعيل خطة لزيادة عديد قواتها الى 203 الف جندي بحلول عام 2031، حيث تعتقد المانيا انها يجب ان تضطلع بدور مركزي في قيادة اروربا بمواجهة روسيا في الحرب المحتملة .
وتتناسب هذه الرؤية الالمانية مع المنظور الجيوبولتيكي التقليدي الذي يرى ان المانيا هي تمثل قلب اوروبا والقوة القادرة على ادارة اوروبا بحكم موقعها وقدراتها البشرية والديمغرافية والاقتصادية، حيث ان قلب اوروبا هذا يشكل ندًا تاريخيًا لروسيا في حروب عدة عبر قرون مضت لذلك يعتقد الالمان انهم الاقدر على الوقوف بوجه اي غزو روسي محتمل.
وقد تزامنت الاستعدادات الالمانية والبريطانية مع استعدادات لكل دول اوروبا لحالة الحرب بعد ان اصدرت دول عدة كتب ادلة للتعامل مع حالات الحرب للمواطنين كما حصل في الدول الاسكندنافية مثل السويد وفنلندا، فضلاً عن قيام بعض دول اوروبا بإعادة العمل بقانون التجنيد الالزامي لحشد وتعبئة القوات استعدادًا لحرب محتملة مع روسيا.
أما بالنسبة لحلف الناتو فقد اعلن عن خطة ( خط الدرع الشرقي) التي تهدف الى تعزيز قابلية التشغيل البيني لقوات دول حلف الناتو البرية، كجزء من عملية مواجهة روسيا، وبما يؤدي لتأمين حدود الناتو الشرقية في بولندا ودول البلطيق وسائر الحدود الشرقية، وتسعى الخطة الى تحقيق العناصر الاتية:
-
نظام مراقبة متكامل: يشمل طائرات بدون طيار وطائرات f35 بالاضافة الى الاقمار الصناعية وانظمة الرادارات والانذار المبكر الاكثر تطورا من خلال المزج بين انظمة الذكاء الاصطناعي والانظمة التقليدية، حيث يرتبط هذا النظام بمركز تحليل بيانات يعرف ب (مافين سمارت) وهو نظام الكتروني يربط جميع المستشعرات في ساحة العمليات ويعمل على تحليلها بواسطة انظمة الذكاء الاصطناعي بما يمكن الحلف من الاستغناء عن الآلاف من المحللين الاستخباريين والموظفين الذين قد يقضون ساعات في تحليل بيانات ساحة المعركة بينما يعمل نظام مافن في تحليل هذه البيانات في ثواني ويعطي بها توصيات لصانع القرار في غرفة العمليات ما يمكن القائد من امتلاك الوعي الظرفي في ساحة المعركة وتكون له القدرة على اتخاذ القرارات بسرعة وبما ينسجم مع تطورات القتال.
-
الحواجز المادية: تتضمن الخطة ايضا حواجز مادية ايضا مثل حفر الخنادق وبناء التحصينات على طول خط الجبهة المفترضة مع روسيا بما في ذلك الخنادق المضادة للدبابات فضلا عن التعديل على بعض التضاريس الطبيعية لتشكيل عوائق طبيعية.
-
بناء التحصينات وقواعد العمليات: يعمل الناتو على بناء تحصينات ومراكز عمليات لوجستية فضلا عن تحسين البنية التحتية لتسهيل حركة القوات.
-
بناء شبكة اتصالات آمنة: تتضمن الخطة انشاء سلسلة من المحطات على طول الحدود الشرقية للناتو مجهزة بانظمة اتصالات مشفرة وانظمة حرب الكترونية وانظمة مضادة للطائرات بدون طيار.
وتهدف الخطة الى الاتي:
-
تعزيز الردع: تهدف الخطة لتعزيز الردع لمنع روسيا من مهاجمة اراضي الحلف من خلال توجيه رسائل ردع الى روسيا.
-
تحسين الدفاع وتأمين الحدود: تهدف الخطة الى تعزيز دفاعات الناتو بالضد من روسيا وحلفاءها والعمل على حماية الحدود البولندية ومنطقة دول البلطيق بالاضافة الى المناطق الاخرى من التهديد الذي تفرضه روسيا على اوروبا.
-
تسهيل حركة القوات: يتم ذلك من خلال تحسين البنية التحتية لتسهيل حركة القوات وتعزيز قدراتها على الاستجابة السريعة للازمات.
-
التكامل بين التقليدي والحديث: تهدف الخطة الى تحقيق التكامل بين الانظمة التقليدية والانظمة الحديثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، حيث تتكون من مزيج بين الانظمة المادية وانظمة المراقبة المتقدمة والتحصينات كل ذلك لتعزيز قدرات حماية الحدود وزيادة الوعي الظرفي فيها.
ثالثاً: ردود الفعل الروسية تجاه تحركات قوات الناتو:
لدى روسيا موقف ثابت من مبدأ توسع حلف الناتو وذلك برفضها وجود قوات الحلف على حدودها، حيث ان هذا الامر يشكل جوهر الخلاف بين روسيا والغرب والسبب الاساس في الحرب الروسية الاوكرانية، إذ ترى موسكو ان توسع الحلف وانتشار قواته قرب حدودها يشكل تهديداً وجودياً لها، لذلك تعمل لتعزيز امكانياتها لمواجهة الناتو بكل السبل الممكنة.
وتعتبر روسيا أن التحركات الأوروبية الاخيرة لزيادة الإنفاق الدفاعي وبناء القدرات العسكرية، مثل خطة الاتحاد الأوروبي لتحقيق الاستقلال الدفاعي عن الولايات المتحدة المعروفة ب “الاستعداد 2030″، هي جزء من سباق تسلح مع روسيا، وأن هذه الخطة تمثل استثمارات طويلة الأجل في حرب مستقبلية مباشرة معها، كما يشبه بعض الخبراء الروس معاهدة الدفاع المشترك بين المانيا وبريطانيا والتي تم توقيعها في 17/تموز/2025 بالاتفاقية البحرية الأنجلو-ألمانية لعام 1935، مما يشير إلى مخاوف روسية من إعادة تسليح ألمانيا في سياق تشكيل “تحالف أوروبي ضد روسيا”.
اما بخصوص المناورات التي يقوم بها حلف الناتو فان روسيا غالبا ما ترد عليها بمناروات مقابلة سواء كانت مناورات بحرية ام برية، فبعد مناورات (بالتوبس 2025) البحرية التي قام بها الحلف في بحر البلطيق في شهر آيار الماضي ردت روسيا بمناورات (عاصفة يوليو 2025) في شهر تموز الماضي، حيث ان الامر لا يرتبط فقط في محاولات الاستعراض المتبادلة بين روسيا وحلف الناتو بل ان كل طرف يعمل على تقييم قدرات الطرف الاخر وارسال رسائل ردع اليه في ذات الوقت.
ففي الوقت الذي تخطط فيه روسيا وبيلاروسيا اجراء مناورات مشتركة في الاراضي البيلاروسية تحت اسم (زاباد2025) وتعني (الغرب) في ايلول المقبل فأن حلف الناتو ابدى تخوفه من هذه المناورات لذلك رد عليها بمناورات تجري في وقت مقارب بين نهاية آب وبداية ايلول تحمل اسم (كوادريغا 2025) اي (ضربة الرعد)، وسبب خوف الناتو من مناورات (زاباد 2025) ان اخر مرة اجريت فيها هذه المناروات بمشاركة حوالي 200 الف جندي كانت في عام 2021 والتي تم بعدها شن الحرب على اوكرانيا في شباط من عام 2022.
رابعاً: ما هي نقاط التماس الاخطر
قد يتساءل البعض هل جميع الحدود بين حلف الناتو وروسيا ملتهبة بنفس الدرجة؟ وهل ان المواجهة ستشتعل على طول الجبهة الشرقية ام ان هنالك مناطق تماس اخطر من غيرها بين الطرفين؟
ان الجواب يتمثل بالنظر الى خارطة اوروبا الشرقية الى ما يسميه الناتو ب(ثغرة سوالكي) وهذه الثغرة هي عبارة عن شريط بطول 100 كم يربط بين بيلاروسيا ومقاطعة كالنينغراد الروسية المحاطة بدول الناتو، كما أنه يفصل بين بولندا وليتوانيا وهو الطريق البري الوحيد الذي يربط دول البلطيق بباقي دول حلف الناتو عبر بولندا، حيث يعتقد الناتو ان هذا الممر يشكل ثغرة يصعب تغطيتها، مما يمكن روسيا ومعها بيلاروسيا من السيطرة عليها بهدف فك الحصار عن مقاطعة كاليننغراد الروسية وتطويق دول البلطيق (استونيا ولاتيفيا وليتوانيا) وعزلها عن باقي دول الحلف، لذلك يولي الحلف اهمية قصوى لهذا الممر ويعتقد ان السيطرة عليه ستحدد مصير اوروبا.
بالتالي تحاول دول الناتو منع روسيا من السيطرة على هذا الممر بهدف حماية دول البلطيق من الحصار والتطويق ولكي لا تكون بولندا بمواجهة مباشرة مع روسيا ما يجعل المانيا وسائر اوروبا تستعد للمواجهة على خطوط التماس لاسيما وان سقوط بولندا او اختلال دفاعاتها يعني وصول روسيا الى الحدود الالمانية والوصول الى المانيا في سيناريو حرب شاملة يعني عمليا السيطرة على اوروبا بالكامل.
ان منطقة كالينينغراد تعد ذات اهمية استراتيجية بالنسبة لروسيا حيث تحشد فيها قوات كبيرة ومعدات ثقيلة واسلحة استراتيجية في مواجهة دول الناتو واذا تمكنت روسيا من فك الحصار عن هذه المقاطعة فأنها ستتمكن من تحقيق التماس بين قواتها في تلك المقاطعة مع تلك المتقدمة عبر الاراضي الييلاروسية مما يفتح طريق امداد بري لهذه المقاطعة يمكنها من الصمود ويحولها لمنطقة عمليات مركزية في مواجهة حلف الناتو، ولهذا السبب دعا قائد القوات البرية لحلف الناتو والجيش الامريكي في اوروبا وافريقيا (كريستوفر دوناهو) الى السيطرة على مقاطعة كالينينغراد بهدف منع تحقق السيناريو المشار اليه اعلاه.
وليس بعيداً عن كالينينغراد تحشد روسيا قواتها بالقرب من فنلندا التي انضمت حديثاً الى حلف الناتو حيث نقلت روسيا جزء من قواتها التي شاركت في الحرب الاوكرانية بالقرب من الحدود الفنلندية وقامت ببناء مراكز لوجستية ومواقع وتحصينات بالاضافة الى بناءها مستودعات قادرة على تخزين حوالي 50 مركبة مدرعة حيث هناك استعدادات روسية في 4 مواقع على الاقل قريبة من الحدود الفنلندية، بالمقابل تعمل فنلندا ومنذ انضمامها الى حلف الناتو عام 2023 على زيادة عديد قواتها وبناء التحصينات على الحدود الروسية حيث انشأت لواءً مدرعاً قوامه بين 4-5 الاف جندي مزودين بالدبابات والمدافع، كما ابرمت الحكومة الفنلندية اتفاقية تسمح للقوات الامريكية باستخدام 15 قاعدة عسكرية على اراضيها، كما تعبأ فنلندا مواطنيها استعداداً لحرب محتملة مع روسيا.
ان خطورة نقطة التماس الروسية مع فنلندا تتجاوز تلك المرتبطة بممر سوالكي ومقاطعة كالينينغراد ، حيث تطل فنلندا على شريط حدودي هو الاطول من بين دول الناتو مع الاراضي الروسية يبلغ طوله حوالي 1300كم وتقع اقرب نقطة حدودية على مسافة حوالي 200 كم من ثاني اكبر مدينة روسية هي سانت بطرسبرغ كما انها تطل على شبه جزيرة كولا الروسية التي تضم مقر قيادة الاسطول الشمالي الروسي الذي يمثل اقوى اسطول بحري للقوات الروسية، ويضم عدد من الغواصات النووية الاستراتيجية بما فيها غواصة (بيليغورد كا 329) الحاملة لطوربيد (بوسيدون) النووي والذي يسمى ب(سلاح يوم القيامة)، كما ترتبط شبه جزيرة كولا بخط سكك حديد وطريق بري مع مدينة سانت بطرسبرغ حيث يمكن لقوات الناتو والقوات الفنلندية في حال حصول حرب مع روسيا ان تتجاوز الحدود وان تصل الى هذا الخط البري وتعمل على تطويق شبه جزيرة كولا وتقترب من مدينة سانت بطرسبرغ.
لقد شكل انضمام فنلندا الى حلف الناتو ضربة استراتيجية للامن القومي الروسي، فبعدما كانت روسيا تحرص على منع انضمام اوكرانيا وبيلاروسيا الى الحلف خشية ان تكون قوات الحلف على حدودها، وبعدما كانت روسيا مطمئنة من الجبهة الشمالية بسبب اتفاقية هلسنكي التي حولت فنلندا وسائر الدول الاسكندنافية الى دول محايدة تشكل مناطق عازلة خلال الحرب الباردة، فأن انضمام هذه الدول الى حلف الناتو انهى حالة الحياد فيها وحولها الى خطر كبير على روسيا لايقل عن خطورة اوكرانيا، حيث تمكن الحلف من خلال انضمام فنلندا والسويد من تحويل بحر البلطيق الى بحيرة اطلسية، فحتى عند قيام روسيا بالسيطرة على ممر سوالكي واحتلال دول البلطيق الثلاث خلال 72 ساعة كما اشارت دراسة لمؤسسة راند عام 2016، فأن فنلندا ستكون قادرة على تطويق القوات الروسية حتى في دول البلطيق وستكون قادرة على شن هجمات على اكثر من محور على القوات الروسية.
لقد ادى انضمام فنلندا ليس الى محاصرة القوات البرية الروسية فحسب بل ايضا الى التضييق على الاسطول الروسي في بحر البلطيق مما شكل ضغطا على الاسطول وعلى مقاطعة كالينينغراد.
الا ان روسيا نقلت عددا من القاذفات الاستراتيجية البعيدة المدى الى شبه جزيرة كولا كما انها وفي حالة نشوب حرب شاملة ستبقى قادرة على تحريك غواصاتها النووية في شبه جزيرة كولا لتبحر بسرية عبر القطب الشمالي غربا الى المحيط الاطلسي عبر ما يعرف بـ(فجوة جيوك) لتقترب من السواحل البريطانية او سواحل الولايات المتحدة، او تبحر شرقا الى مضيق بيرنغ بالقرب من الاسكا مما يجعلها بكلتا الحالتين قادرة على استهداف الاراضي الامريكية بصواريخ بوسيدون النووية التي يمكن ان تحدث دمارا هائلاً في الاراضي الامريكية.
من نقاط التماس الاخرى والمتوقعة بين الحلف وروسيا هي منطقة ترانسستريا في جمهورية مولدافيا حيث تتمتع هذه المقاطعة بالحكم الذاتي وتدين بالولاء لروسيا منذ ايام الحقبة السوفيتية، الا انها لا يمكن ان تتحول لمنطقة عمليات جنوبية بالنسبة لروسيا في اي مواجهة محتملة مع الناتو وذلك لبعدها عن الاراضي الروسية اذ تحتاج القوات الروسية الى السيطرة على مقاطعة اوديسا الاوكرانية لتحقق التماس مع منطقة ترانسستريا في جمهورية مولدافيا.
الخاتمة
تؤكد قراءة الجذور التاريخية للصراع الروسي- الاوروبي أن التنافس بين الجانبين لم يكن الا امتدادًا لصراع حضاري ذو اسباب دينية تحول عبر الزمن الى تضاد جيولوتيكي متجدد، حتى بات الطرفين كفرسي رهان في سباق التنافس الجيوبولتيكي على مدى عصور خلت، واليوم مع تسارع الاستعدادات العسكرية وتوسع حلف الناتو شرقاً، تتزايد مؤشرات الانزلاق نحو مواجهة شاملة، خاصة في ظل الانهيارات المحتملة في جبهة اوكرانيا، مما يعزز الهواجس الغربية من سيناريو هجوم روسي أوسع.
لذلك يسعى حلف الناتو لتطويق روسيا وعرقلة تقدمها العسكري في اوكرانيا ريثما يستكمل جاهزيته للمواجهة الشاملة التي تشير المعطيات المختلفة انها لن تتجاوز العام 2030 اي بعد 5 سنوات من تاريخ كتابة هذه السطور، ما يضعنا امام سيناريو حرب اوروبية تكون مقدمة لانفجار الحرب العالمية الثالثة في مناطق مختلفة من العالم على غرار الحرب العالمية الثانية، مما يؤدي لاحقاً الى تغير شكل النظام الدولي الراهن.
المصادر
-
أحمد دهشان، المواجهة الروسية-الاطلسية وإمكانية توسعها ما بعد اوكرانيا، مركز الدراسات العربية الاوراسية، 9/3/2022.
-
بول كيربي، انضمام فنلندا للناتو: موسكو تعزز قدراتها الدفاعية على حدود دول الحلف، موقع بي بي سي نيوز، 4/4/2023، متوفر على الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/65173624
-
بريطانيا تنتقل إلى مرحلة “الاستعداد للقتال”: زيادة حجم الجيش وترسانة الأسلحة، موقع قناة الشرق نيوز، 2/6/2025، متوفر على الرابط:
https://asharq.com/politics/137827/
-
كيف تستعد روسيا لحرب أوسع بحلول عام 2029؟، أمن ألمانيا القومي، المركز الاوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات، 13/4/2025، متوفر على الرابط : https://www.europarabct.com/?p=103098
-
وحدة الدراسات والتقارير، توسع الناتو، تشكيل الخريطة الأمنية الجديدة لأوروبا، ملف أمن دولي، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات، المانيا، 4/8/2025.
-
وحدة الدراسات والتقارير، مناورات الناتو المدافع الصامد ودور القوة البحرية الاوروبية، ملف أمن دولي، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات، المانيا، 14/2/2024.
-
Strategic Defence Review, Making Britain Safer: secure at home, strong abroad, Ministry of Defence UK, 2025.
-
Jen Judson, Army Europe chief unveils NATO eastern flank defense plan, Defense News, 17/7/2025, at URL:
https://www.defensenews.com/land/2025/07/16/army-europe-chief-unveils-nato-eastern-flank-defense-plan/
-
Gen. Matthew Van Wagenen, Col. Arnel P. David, and Benjamin Jensen, Innovate or Die: The Army Transformation Initiative and the Future of Allied Land Warfare, CSIS Futures Lab, 10/7/2025, at URL:
https://www.csis.org/analysis/innovate-or-die-army-transformation-initiative-and-future-allied-land-warfare
-
Maryna Kulakova, NATO Launches Agile Spirit 2025 Exercises in Georgia to Enhance Combat Readiness, 30/7/2025, at URL:
https://united24media.com/latest-news/nato-launches-agile-spirit-2025-exercises-in-georgia-to-enhance-combat-readiness-10300
-
Elisabeth Gosselin-Malo, NATO testing Baltic Sea drones to track Russian warships, freighters, Defense News, 8/7/2025, at URL: https://www.defensenews.com/global/europe/2025/07/08/nato-testing-baltic-sea-drones-to-track-russian-warships-freighters/
-
Jen Judson, No time to waste: NATO chief urges rapid industrial mobilization, Defense News, 18/7/2025, at URL: https://www.defensenews.com/land/2025/07/18/no-time-to-waste-nato-chief-urges-rapid-industrial-mobilization/
-
Jaroslaw Adamowski, Romania, Poland take different tacks on buying new combat vehicles, Defense News, 22/7/2025, at URL: https://www.defensenews.com/global/europe/2025/07/22/romania-poland-take-different-tacks-on-buying-new-combat-vehicles/
-
ألكسندر ياكوفينكو، ماذا يعني إعادة تسليح ألمانيا بالنسبة لروسيا؟، وكالة ريا نوفيستي، مصدر باللغة الروسية، 23/7/2025، متوفر على الرابط:
https://ria.ru/20250723/germaniya-2030613987.html
-
ألكسندر ياكوفينكو، ما هي روسيا بالنسبة لحلف الناتو، ما هو حلف الناتو بالنسبة لروسيا؟، وكالة ريا نوفيستي ، مصدر باللغة الروسية، 10/7/2025، متوفر على الرابط:
https://ria.ru/20250710/nato-2028154647.html
-
ألكسندر ياكوفينكو، الحوض المكسور لعملية هلسنكي، وكالة ريا نوفيستي، مصدر باللغة الروسية، 30/7/2025، متوفر على الرابط:
https://ria.ru/20250730/khelsinki-2032164159.html
-
ألكسندر ياكوفينكو، بدأت أوروبا بالاستعداد للحرب مع روسيا، وكالة ريا نوفيستي، مصدر باللغة الروسية، 14/7/2025، متوفر على الرابط:
https://ria.ru/20250714/evropa-2029006615.html
-
كيريل سترينيكوف، سنسحقها بدون الولايات المتحدة: الاتحاد الأوروبي وجد طريقة مؤلمة لتدمير دفاعات روسيا، وكالة ريا نوفيستي، مصدر باللغة الروسية، 14/7/2025، متوفر على الرابط:
https://ria.ru/20250714/nakazanie-2028883032.html
* كيف تستعد روسيا لحرب أوسع بحلول عام 2029؟، أمن ألمانيا القومي، المركز الاوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات، 13/4/2025، متوفر على الرابط :
https://www.europarabct.com/?p=103098



