بقلم: د. وداد حماد مخلف الفهداوي/ جامعة الانبار – كلية التربية للبنات
الجغرافية السياسية
يعد النزاع الحدودي بين تايلند وكمبوديا في منطقة المثلث الزمردي من أبرز الأمثلة على النزاعات الإقليمية التي يتداخل فيها الإرث الاستعماري مع الرمزية الثقافية والديناميكيات السياسية المعاصرة (1). جذور الخلاف تعود إلى فترة الاحتلال الفرنسي للمنطقة، إذ رُسمت الخرائط الاستعمارية بطرق غامضة تركت التحديد الدقيق للحدود محلّ نزاع مستمر، خاصةً بعد إعلان محكمة العدل الدولية عام 1962 الذي منح السيادة على المعبد لكمبوديا لكنّه لم يحسم مسألة المنطقة المحيطة به (2).
يقع معبد برياه فيهير على قمة جبلية شاهقة عند الحدود التايلندية الكمبودية، وهو معبد تاريخي شيّده الملك ياسوفارمان الأول في أواخر القرن التاسع الميلادي. خصص هذا المعبد لعبادة الإله الهندوسي شيفا، وسرعان ما تحوّل إلى مركز ديني وسياسي بارز في ظل إمبراطورية الخمير (التي تعرف لدى العرب باسم “قمار”). وقد لعب دورًا محوريًا في ترسيخ شرعية الملوك الخميريين طوال ما يقارب سبعة قرون من حكمهم.
ويُعد أحد أقدم المعابد البوذية ذات الطابع الهندوسي في جنوب شرق آسيا. ومع أنه يمثل قيمة دينية وثقافية عظيمة، إلا أنه تحوّل إلى مصدر توتر ونزاع سياسي طويل الأمد بين تايلند وكمبوديا.
حيث يتميّز بأسلوب معماري فريد وموقع استراتيجي مرتفع. ويُعتبر برياه فيهير من أهم المعالم الأثرية في كمبوديا، وقد أدرجته اليونسكو كموقع تراث عالمي عام 2008.
وهو ما أثار احتجاجات عنيفة في تايلند حيث رأى القوميون أن الاعتراف يُهدّد سيادة بلادهم ويُعيد فتح جراح الحدود (3). وأدى ذلك إلى اندلاع اشتباكات مسلّحة محدودة على طول الحدود خلّفت قتلى ونزوحًا في القرى الحدودية وأعادت تسليط الضوء على رمزية المعبد كأداة تعبئة وطنية (4).
إن تصاعد النزاع لم يكن نتاج الجغرافيا وحدها، بل لعب الخطاب السياسي القومي والإعلام دورًا حاسمًا في إذكاء التوتر، إذ استخدمت النخب التايلندية والكمبودية رمزية (برياه فيهير) لحشد التأييد الشعبي وتوظيف الصراع ضمن التنافسات السياسية الداخلية (1, p:196–197). كذلك، أبرزت بعض الدراسات كيف ارتبط النزاع بالمصالح الاقتصادية غير المعلنة مثل التنافس على موارد الغابات والسياحة العابرة للحدود التي تمثّل مصدر دخل مهمًّا للقرى المحيطة بالمعبد (4). وبالرغم من الأحكام القانونية الصادرة عن محكمة العدل الدولية عام 2013 التي أعادت التأكيد على ملكية كمبوديا للمعبد والمنطقة المجاورة له، فإن النزاع ظلّ حاضرًا في الخطاب القومي وفي مقررات التعليم والاحتجاجات الشعبية، ما يجعله نموذجًا حيًا للصراع المستدام الذي يتجاوز الحلول القانونية البحتة
وفي الحالة العملية للنزاع التايلندي الكمبودي، يُظهر التحليل الجيوبوليتيكي النقدي أن الاحتكام لمحكمة العدل الدولية لم يُنهِ بالكامل النزاع بل أعاد إنتاجه في الخطاب الوطني والكتب المدرسية والاحتجاجات الشعبية. وهكذا يسمح هذا المنظور بفهمٍ أعمق لعجز الحلول القانونية وحدها عن ضمان الاستقرار إذا لم تتغير البُنى الخطابية والاجتماعية المرتبطة بالمكان المتنازع عليه.
ختاما يُجسد النزاع حول معبد برياه فيهير العلاقة المعقدة بين التراث والهوية والسيادة السياسية. فبدلًا من أن يكون هذا المعلم رمزًا للوحدة الثقافية بين الشعبين، أصبح مصدرًا للتوتر السياسي والعسكري. من هنا، تبرز الحاجة إلى إدارة النزاع بمنطق التعاون الثقافي والتفاهم التاريخي، بعيدًا عن التصعيد القومي.
قائمة المصادر :
1- Strate, Shane. The Lost Territories: Thailand’s History of National Humiliation. Honolulu: University of Hawai’i Press, 2015. pp. 37–45.
2-Weatherbee, Donald E. International Relations in Southeast Asia: The Struggle for Autonomy. 4th ed. Lanham: Rowman & Littlefield, 2016. pp. 192–198.
3- Monticha, Somporn. “Cultural Politics and Border Conflict between Thailand and Cambodia: The Case of the Preah Vihear Temple.” Journal of Current Southeast Asian Affairs 39, no. 1 (2020): 15–21. https://doi.org/10.1177/1868103420901926.
4-Dittmer, Jason. Diplomatic Material: Affect, Assemblage, and Foreign Policy. Durham: Duke University Press, 2017. pp. 55–88