الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

بين إهمال بغداد وأطماع أنقرة: كيف يتحول حزب العمال إلى ذريعة لاحتلال دائم؟

بقلم: حنين محمد الوحيلي/ باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

في خضم المتغيرات الإقليمية والدولية، يعيش العراق اليوم واقعاً لا يستهان به، وجود تركي عسكري واقتصادي متصاعد في شمال البلاد يستند إلى ذريعة باتت اليوم بلا وزن حقيقي، وهي حزب العمال الكردستاني. الحزب الذي نشأ قبل أكثر من أربعة عقود يحمل في تاريخه صراعاً طويلاً دفع فيه آلاف الشباب دماءهم وهم يؤمنون بحلم الاستقلال والحرية، لكنه اليوم يعلن فجأة عن تسليم سلاحه وإنهاء نشاطه المسلح، في قرار لا يمكن فهمه إلا عبر قراءة معمقة تظهر أن القتال لم يكن يوماً مشروعاً مستقلاً، بل أداة تدار من قوى إقليمية ودولية تخدم مصالحها وتقرر متى يشعلون النار ومتى يطفئونها.

في المقابل نجد أن الحكومة العراقية وهي التي يجب أن تكون أول حامية لسيادة الأرض والكرامة الوطنية، تغفل أو تتجاهل هذا الواقع الخطير ولا تبذل جهداً حقيقياً لمواجهة التمدد التركي، بل أحياناً يفهم من موقفها أنها مستسلمة لهذا الواقع، ما يجعلنا نتساءل هل العراق فعلاً مدرك لما يحاك في شماله؟ وهل من خطة واضحة لحماية السيادة الوطنية أمام أطماع الجار الكبير؟

هذا المقال ليس مجرد سرد لتاريخ حزب العمال أو وصف لمجريات التواجد التركي، بل تحليل ناقد يحمل رسالة واضحة، وهي إن غفلة الحكومة أو استسلامها ستكلف العراق أكثر من مجرد أراضيه، بل استقلاله ومستقبله السياسي والاقتصادي. ولهذا يحتاج العراق اليوم إلى استيقاظ وطني حقيقي، وخطوات عملية تحفظ الأرض وتعيد الاعتبار للسيادة.

 

* نشأة الحزب والأهداف المعلنة وغير المعلنة

تأسس حزب العمال الكردستاني (PKK) أواخر السبعينات بقيادة (عبد الله أوجلان)، كحركة كردية ماركسية قومية تطمح لإقامة دولة كردية مستقلة على أراض موزعة بين تركيا والعراق وسوريا وإيران. حمل لواء “تحرير الكرد” وجذب آلاف الشباب الذين رأوا فيه أملاً للخلاص من التمييز والتهميش.

لكن مع الوقت انكشفت حقيقة الحزب كأداة بيد قوى إقليمية ودولية استخدمته كورقة ضغط على أنقرة، وتركته ينزف حين انتفت الحاجة. وبعد أربعة عقود من الحرب يعلن فجأة تسليم سلاحه بلا تحقيق أي هدف حقيقي ليظهر أن الحلم لم يكن يوماً ملكاً لمقاتليه بل ورقة تفاوض للكبار.

والأخطر أن هذه الصفقة تكرس انتهاكاً مزدوجاً، فتركيا لا تحتل الأرض العراقية فحسب، بل تتجاوز حكومة إقليم كردستان سلطة بغداد الدستورية (المادة ١١٠)، بتوقيعها اتفاقات أمنية واقتصادية مع أنقرة، مما يحول الإقليم إلى شريك في تقويض سيادة الدولة الموحدة.

بعد عقود من القتال العنيف والصمود في الجبال، جاء إعلان حزب العمال الكردستاني عن تسليم سلاحه وإنهاء نشاطه المسلح أشبه بالصدمة حتى لأنصاره. لم يحقق الحزب حلم الدولة الكردية، ولا حتى حكماً ذاتياً مستقراً، لكنه قرر فجأة أن “المهمة التاريخية قد اكتملت” كما ورد في بيان أوجلان من سجنه.

هذا التحول لم يكن وليد قناعة داخلية أو إحساس بالمسؤولية تجاه الدماء التي أريقت، بل من الممكن ان يكون نتيجة صفقة أكبر حبكت بين أنقرة وحلفائها الغربيين. فمنذ اعتقال أوجلان في 1999 وهو يعيش تحت سلطة الدولة التركية، يعلن بين فترة وأخرى مواقف مهادنة لمصلحة تركيا، ما يشير إلى أن قرارات الحزب لم تعد تتخذ بحرية بل تفرض عليه بضغط سياسي وأمني.

في الواقع لم يكن القتال عبثياً بحد ذاته، لكن الحزب كان أداة تحرك عند الحاجة وتجمد حين تتغير المصالح الدولية. اليوم وبعد أن استثمر فيه الغرب واللاعبون الإقليميون طويلاً كورقة ضغط على تركيا، جاء وقت إحراق الورقة لتفتح أنقرة الباب لتثبيت وجودها الفعلي في شمال العراق دون أي عائق.

 

* تركيا وذريعة حزب العمال، لماذا بقي الوجود العسكري بعد سقوط الذريعة؟

طوال عقود استخدمت تركيا وجود حزب العمال الكردستاني كذريعة لتبرير تدخلاتها العسكرية في شمال العراق وتثبيت قواعدها هناك. كانت تدعي أن عملياتها تهدف إلى “مكافحة الإرهاب” وتأمين حدودها. لكن اليوم بعد أن أعلن الحزب تسليم سلاحه وإنهاء نشاطه، لم تتراجع القوات التركية ولم تبد أي نية للانسحاب.

الحقيقة أن ذريعة الحزب كانت مجرد ستار يخفي أهداف أنقرة الأوسع، بسط نفوذ جيوسياسي طويل الأمد على أرض العراق والسيطرة على طرق وممرات استراتيجية، واستغلال موارد الإقليم عبر التحكم بخطوط النفط والغاز، وحماية مصالح اقتصادية وتجارية ضخمة تستفيد منها الشركات التركية بلا رقابة.

إضافة إلى ذلك ترى تركيا في حكومة إقليم كردستان خاصة جناح “بارزاني”، شريكاً موالياً يساعدها على تمرير مشاريعها ويمنح وجودها العسكري غطاءً محلياً، مقابل دعم أنقرة لأربيل سياسياً واقتصادياً. ولا يمكن استبعاد أن يكون هذا التمدد التركي أيضاً جزءاً من تفاهم أوسع مع الكيان الصهيوني، الذي يتقاطع مع أنقرة في تقليص النفوذ الإيراني وضمان كيان كردي ضعيف لكنه وظيفي في الشمال.

وإذا كانت ذريعة “مكافحة الإرهاب” قد سقطت، فإن الوجود التركي يفتقد الشرعية القانونية دولياً ومحلياً. فـالمحكمة الاتحادية العراقية (في القرار رقم ٥٩ لسنة ٢٠١٢) أكدت بطلان أي اتفاق توقعه الأقاليم مع دول أجنبية دون موافقة الحكومة المركزية. ومع ذلك تستمر أربيل بتسهيل التوغل التركي عبر صفقات غير خاضعة لرقابة بغداد، مثل مشروع خط غاز “كوريه – جيهان” الذي ينهب ثروات العراق تحت غطاء الاستثمار.

باختصار لم يكن حزب العمال سوى شماعة لاحتلال مقنع يستهدف السيادة العراقية والموارد الكردية معاً، ويخدم مصالح أطراف عدة على حساب العراق.

رغم أن أنقرة تصف وجودها العسكري في العراق بأنه “عمليات محدودة” ضد حزب العمال، فإن الواقع على الأرض يكشف شيئاً مختلفاً تماماً. تركيا اليوم تحتفظ بعشرات القواعد العسكرية ونقاط المراقبة الممتدة على طول الشريط الحدودي وفي عمق الأراضي العراقية، بعضها يصل إلى أكثر من 30 كيلومتراً داخل العراق في مناطق مثل زاخو، العمادية، بعشيقة، متينا وغيرها.

الخطر في هذا الوجود لا يقتصر على خرق السيادة فقط بل يتعداه إلى تشكيل تهديد دائم للأمن الوطني العراقي. هذه القواعد تمنح تركيا القدرة على التدخل في أي لحظة ضد أطراف محلية ومراقبة تحركات الجيش العراقي والفصائل، وابتزاز بغداد وأربيل سياسياً وأمنياً. كما تشكل ورقة ضغط يمكن أن تستخدمها أنقرة ضد إيران، أو حتى لصالح حلفاء آخرين في الإقليم.

إضافة إلى ذلك تتحكم تركيا عملياً باقتصاد الإقليم، من تجارة السلع إلى السيطرة على مشاريع البنية التحتية واستغلال موارد النفط والغاز عبر اتفاقات غير شفافة مع أربيل. في المقابل تعاني بغداد من ضعف في الموقف الرسمي وانقسام داخلي بين من يرى في تركيا “جاراً اقتصادياً” ومن يعتبرها “شريكاً أمنياً” ومن يتجاهل الخطر كلياً.

كل هذه العوامل تجعل التوغل التركي واحداً من أخطر التهديدات المستمرة على العراق، لأنه يتغلغل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في آن واحد، بينما يبدو أن بغداد ما زالت عاجزة عن مواجهته أو حتى الاعتراف بمداه الحقيقي.

 

* إهمال بغداد وخطر الغفلة الوطنية

أمام هذا الاحتلال المستتر يقف العراق وكأن الأمر لا يعنيه. تصريحات بغداد الرسمية خجولة، وبياناتها تبدو وكأنها لإبراء الذمة أكثر من كونها مواقف جادة. لا خطة حقيقية ولا تحرك سياسي أو عسكري يرقى إلى مستوى التهديد. بل الأسوأ أن بعض القوى السياسية تروج للتطبيع مع الأمر الواقع، وتبرر التواجد التركي بأنه “شراكة” أو “تعاون أمني” في مواجهة الإرهاب.

هذا الإهمال يعكس خللاً عميقاً في الوعي الوطني لدى صناع القرار العراقي. فمن جهة هناك ضعف في إدراك خطورة المشروع التركي على المدى البعيد، ومن جهة أخرى يبدو أن الانقسامات الداخلية والارتهان للتحالفات الإقليمية، تجعل بعض الأطراف مستعدة لغض الطرف عن سيادة العراق مقابل مصالح آنية أو حزبية.

لكن الإهمال الأكثر خطورة هو تجاهل بغداد لمخالفات حكومة الإقليم الدستورية. فالسكوت عن توقيع أربيل لاتفاقات مع أنقرة (دون الرجوع للمركز) يشجع على تمزيق السيادة، ويحول الدستور إلى حبر على ورق. لو تحركت الحكومة المركزية باستخدام أدواتها القانونية (كرفع دعاوى للمحكمة الاتحادية أو فرض عقوبات على الصفقات غير الشرعية)، لكانت أنقرة وأربيل أمام خسائر تكبح توسعهما.

النتيجة أن العراق يخسر تدريجياً السيطرة على شماله، ليس فقط بسبب قوة أنقرة بل أيضاً بسبب غفلة بغداد. فكلما طال الصمت ترسخ التوغل أكثر، وكلما أهملت القضية بات من الأصعب استعادتها لاحقاً.

إن خطر الغفلة هنا لا يقل عن خطر التوغل نفسه، لأنه يمنح أنقرة الوقت الكافي لتثبيت أقدامها وتحويل وجودها من “طارئ” إلى “أمر واقع”.

 

* خطوات عملية لإعادة الاعتبار للسيادة العراقية

  1. الاعتراف الرسمي بالواقع: إعلان أن الوجود التركي في العراق غير شرعي، ورفع ملف التوغل التركي إلى المحافل الدولية (الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي). ومطالبة المحكمة الاتحادية بإصدار قرار واضح يعلن بطلان جميع الاتفاقات الموقعة بين حكومة إقليم كردستان وتركيا، واعتبارها لاغية منذ توقيعها وفق المادة (١١٠) من الدستور.

  2. الضغط السياسي والدبلوماسي: تحريك المجتمع الدولي والإقليمي لإحراج أنقرة ووقف توسعها العسكري والاقتصادي.

  3. تقوية القوات الأمنية العراقية: تعزيز الجيش والاستخبارات في الشمال واستعادة السيطرة التدريجية على المناطق المحتلة حتى لو بشكل رمزي في البداية.

  4. تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على تركيا: تطوير البنية التحتية الوطنية وفتح قنوات تجارية جديدة مع دول أخرى، وكشف وإعادة النظر في الاتفاقيات النفطية والاقتصادية المجحفة.

  5. التوعية والضغط الشعبي: بناء وعي شعبي من خلال الإعلام والمجتمع المدني بخطورة الوجود التركي، وتحفيز الضغط السياسي الداخلي لمنع التهاون أو السكوت.

  6. إرادة وطنية صادقة: تحويل الوعي إلى خطوات فعلية والتزام حقيقي من الحكومة والقوى السياسية لاستعادة السيادة وحماية الأرض والكرامة.

  7. تفعيل آليات الرقابة البرلمانية: تشكيل لجنة برلمانية دائمة لمتابعة انتهاكات الدستور في إقليم كردستان، مع سلطة تقصي الحقائق في الصفقات الاقتصادية والأمنية.

تمر الحكومة اليوم بمنعطف حاسم يتطلب منها الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الوطنية الحقيقية، لتكون جديرة بتمثيل بلد عظيم مثل العراق، والعمل بجدية على حماية سيادته والدفاع عنها داخلياً وخارجياً للحفاظ على كرامته.

لكن ضعف السياسة الخارجية العراقية وعدم القدرة على وضع استراتيجية واضحة ومتماسكة في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية يزيد من تعقيد الملف، ويمنح القوى الخارجية فرصة التمدد على حساب العراق.

فاليقظة والالتزام الصادق إلى جانب بناء سياسة خارجية قوية ودفاع وطني حقيقي عن السيادة، هما السبيل الوحيد لمواجهة تحديات الداخل والخارج وضمان مستقبل العراق المستقر.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى