الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

عملية شبكة العنكبوت ترسم ملامح حروب المستقبل

بقلم: د. عمار عباس الشاهين/ باحث في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

بدأ القتال بين روسيا وأوكرانيا بهجوم جوي وبري مشترك، ثم تحول إلى مواجهة مدفعية وتطور القتال الآن ليصبح أول صراع في العالم تشنه الطائرات المسيرة إلى حد كبير، ففي حزيران 2025 تسببت الطائرات المسيرة الأوكرانية في أضرار بمليارات الدولارات للطائرات العسكرية الروسية القاصفة وفي مناطق نائية من روسيا.

ونفذت أوكرانيا أكبر هجوم بعيد المدى لها في حربها ضد روسيا بعد استخدام طائرات مسيرة مهربة لشن سلسلة من الضربات الجوية الكبرى على ما لا يقل عن 41 طائرة حربية روسية في أربع قواعد عسكرية، وتم استخدام 117 طائرة مسيرة استخدمت فيما يسمى بعملية “شبكة العنكبوت” التي نفذها جهاز الأمن الأوكراني (SBU)، حيث ضربت 34% من حاملات صواريخ كروز الاستراتيجية الروسية، واستغرق اعداد وتنظيم هذه الضربات عاما ونصف.

وفي العام الماضي شنت أوكرانيا سلسلة من الضربات الناجحة بطائرات مسيرة بعيدة المدى ضد مستودعات للأسلحة داخل عمق الأراضي الروسية، وينشر الجيش الأوكراني يوميا آلاف الطائرات المسيرة قصيرة المدى للدفاع ضد الهجمات البرية الروسية، مستبدلًا إلى حد كبير قذائف الهاوتزر( 1) التي كانت شريان الحياة للصراع سابقاً، وتخوض كييف سباق تسلح تكنولوجي وإنتاجي لضمان أن تكون طائراتها المسيرة متطورة بما يكفي للتغلب على التشويش الروسي وغيره من التدابير المضادة.

دور الولايات المتحدة في تعزيز القدرات الاوكرانية

     كان للولايات المتحدة دوراً هاماً في هذا النجاح الأوكراني، إذ ساعدت في التوسع بهذا المجال الحيوي من القاعدة الصناعية الدفاعية للبلاد، ومولت واشنطن أبرز مُصنعي الطائرات المسيرة الأوكرانيين الواعدين لمساعدة أوكرانيا على الوصول إلى مستوى إنتاج لم يكن يُتصور سابقا واليوم تُمثل النجاح لهذا الابتكار، الذي شكلته الضرورة في ظل ظروف ميدانية لا مثيل لها في العالم.

على مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية طورت أوكرانيا صناعة دفاعية متطورة، ولا يزال الجيش الأوكراني يعتمد على الولايات المتحدة في الحصول على قدرات تقليدية متطورة، مثل صواريخ باتريوت للدفاع الجوي بالإضافة إلى بعض العناصر الأساسية بما في ذلك الصواريخ ومنصات الإطلاق المرتبطة بها، لكن داخل حدودها تُنتج أوكرانيا الآن طائرات مسيرة حديثة قصيرة وطويلة المدى وغير مكلفة وأنظمة مضادة للطائرات المسيرة وروبوتات ودفاعات جوية تكتيكية.

يتواصل كل من أوكرانيا وروسيا الابتكار، مع دمج الذكاء الاصطناعي تدريجيًا في تقنيات الطائرات بدون طيار وغيرها من التقنيات الدفاعية، ويقوم الذكاء الاصطناعي بإعادة صياغة الحرب الحديثة.

ويُحسب لإدارة ترامب أنها ملتزمة بالابتكار الدفاعي، ولعل أوكرانيا تُعد المختبر الحقيقي لهذا الابتكار اليوم، واعتقد أن الصين وإيران وكوريا الشمالية (الداعمين الرئيسيين لروسيا) يستخلصون دروسهم الخاصة من هذه الحرب كذلك، ومن مساهماتهم في الحملة العسكرية الروسية. فإيران تتعلم كيفية أداء طائراتها المسيرة وصواريخها وكوريا الشمالية تفعل الشيء نفسه مع ذخائرها وجنودها والصين تُقيم فعالية مساهماتها في القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية، وللحفاظ على الصدارة وتعزيز استعدادها للصراعات المحتملة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ و(الشرق الأوسط) وأماكن أخرى، قامت الولايات المتحدة بتوسيع شراكتها التكنولوجية مع أوكرانيا.

وهذا يعني استمرار دعم واشنطن للجيش الأوكراني على أن تشارك أوكرانيا بدور معرفتها وخبرتها التكنولوجية بتصاميم طائراتها المسيرة الأكثر فعالية واستراتيجيتها لتطوير تلك التصاميم ردًا على الإجراءات المضادة الروسية وبيانات حول نقاط القوة والضعف في أنظمة الأسلحة الدفاعية والهجومية الروسية، وسيكون هذا النهج مفيداً للطرفين ستساعد أوكرانيا الولايات المتحدة في بناء طائرات مسيرة عالمية المستوى وقدرات متطورة أخرى وستواصل الولايات المتحدة مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، لكن العكس صحيح أيضاً فانخفاض الدعم لأوكرانيا يعني أنها ستكون أقل ميلا لمشاركة خبراتها وبياناتها مع الولايات المتحدة.

الصناعة من اجل البقاء

     طورت أوكرانيا صناعة الطائرات بدون طيار كجزء من كفاح وطني من أجل البقاء عندما شنت روسيا حربها الشاملة في شباط 2022، صد الجيش الأوكراني الهجوم الروسي على كييف واستمر في استعادة أكثر من نصف الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية في البداية، في الوقت نفسه في المصانع والمعامل البعيدة عن خطوط المواجهة بدأ رواد الأعمال والمهندسون الأوكرانيون في متابعة مهمة حاسمة أخرى وهي بناء طائرات بدون طيار يمكن نشرها ضد القوات الروسية وبهذا ستقلب أوكرانيا المعادلة لصالحها.

كان لدى هؤلاء المبتكرين الحماسة لكنهم كانوا بحاجة إلى التمويل والمواد، فقدمت الحكومة الأمريكية هذه المساعدة للجانب الاوكراني وفي خريف عام 2022، بدأت إدارة بايدن جهودًا لتحسين تصنيع الطائرات بدون طيار في الداخل الأوكراني، والتي كانت في ذلك الوقت ناشئة. جاءت نقطة تحول في صيف عام 2023، عندما فشل الهجوم المضاد لأوكرانيا في اختراق الخطوط الروسية وكشف عن حدود القدرات التقليدية في هذا الصراع، لم تتمكن الألوية الأوكرانية من التغلب على حقول الألغام الروسية البدائية والفعالة وغيرها من الحواجز المادية، بينما ألحقت الطائرات الروسية بدون طيار أضراراً بالغة بالمركبات المدرعة الأوكرانية. رداً على ذلك قررت الولايات المتحدة تعزيز دعمها لصناعة الطائرات بدون طيار في أوكرانيا، وعمل البيت الأبيض مع الكونغرس لتأمين تمويل إضافي في الميزانية التكميلية للأمن القومي لشهر نيسان 2024 لهذا الجهد، والذي استُخدم لتمويل بعض مصنعي الطائرات بدون طيار الأوكرانيين بشكل مباشر، ولتزويد أوكرانيا بالمكونات الرئيسية اللازمة لإنتاجها، إجمالاً وجهت الولايات المتحدة أكثر من 1.5 مليار دولار إلى صناعة الطائرات بدون طيار في أوكرانيا وحذت دول أخرى حذوها في دعم القاعدة الصناعية الدفاعية الأوكرانية.

حقق الشركاء الأوكرانيون عائداً هائلاً على هذا الاستثمار فقد زاد الإنتاج الأوكراني للطائرات بدون طيار قصيرة وطويلة المدى بشكل كبير في عام 2024، وارتفع الإمداد الشهري للجيش الأوكراني من الطائرات بدون طيار من 20000 في بداية عام 2024 إلى 200000 بعد عام، أي بزيادة عشرة أضعاف. ومع تحسين روسيا لقدراتها المضادة للطائرات بدون طيار تعلم المصنعون الأوكرانيون تحديث برامجهم وتصميماتهم للتغلب على التشويش الروسي والإجراءات المضادة الأخرى، وبحلول كانون الثاني 2025 زادت أوكرانيا من قدرتها على استخدام الطائرات بدون طيار طويلة المدى ضد الأهداف العسكرية في عمق روسيا واستخدام الطائرات بدون طيار قصيرة المدى ضد الوحدات الروسية عبر خطوط المواجهة، كما أنتجت أوكرانيا أنظمة دفاع جوي مضادة للطائرات بدون طيار وصواريخ والروبوتات والتكتيكية مثيرة للإعجاب.

ماذا يمكن أن نتعلم من أوكرانيا

     لا تزال فرصة التعلم من القدرات المتطورة لأوكرانيا قائمة حتى اليوم فقد أثبتت الطائرات الأوكرانية المسيرة فعاليتها ورخص ثمنها، وتُصنع أوكرانيا ملايين الطائرات المسيرة قصيرة المدى من طراز FPV بتكلفة تُقارب 400 دولار للواحدة وعشرات الآلاف من الطائرات المسيرة طويلة المدى بتكلفة تُقارب 200 ألف دولار للواحدة. في المقابل تُقدر تكلفة الطائرات الأمريكية المسيرة قصيرة المدى مثل Switchblade 600، بأكثر من 100 ألف دولار للواحدة بينما قد تُكلف الطائرات الأمريكية المسيرة طويلة المدى ملايين الدولارات، ويُفيد مُشغلو الطائرات المسيرة الأوكرانيون بأن الطائرات الأمريكية الصنع كانت أقل فعالية وموثوقية وسرعة في التكيف مع الإجراءات الروسية المُضادة من تلك المُنتجة داخل أوكرانيا.

وتعود هذه الاختلافات جزئيًا إلى الظروف حيث تُكافح أوكرانيا من أجل بقائها بموارد محدودة في مواجهة خصم أكبر بينما كان البنتاغون حذراً بشأن الاستثمار في التقنيات الناشئة والشركات الناشئة مُفضلًا بدلاً من ذلك الشراكة مع مُقاولين مُخضرمين في الأنظمة القديمة، جزء من المشكلة هو أن هؤلاء المقاولين لديهم حوافز لبناء أعداد محدودة من الأسلحة باهظة الثمن ذات هامش الربح الأعلى، لكن الصراع الأوكراني عالج أيضاً مصدر قلق مشروع للبنتاغون – وهو عدم اليقين بشأن التقنيات التي ستثبت فعاليتها في العالم الحقيقي – من خلال توفير مليارات الدولارات للبحث والتطوير واختبار الأسلحة في ظروف ميدانية غير مسبوقة.

على الرغم من أن دور الأنظمة المستقلة الأكثر تقدماً وتكلفة والتي تحتفظ فيها الولايات المتحدة بميزة سيظل قائماً الا ان الحجم الهائل للإنتاج الضخم لأوكرانيا يوفر ميزة مهمة ومتكاملة، يمكن لأوكرانيا أن تتطور بسرعة  (وتتخلص من النماذج القديمة بهذا التكرار) تحديدًا لأن الشركات أقرب إلى الميدان ولأن أنظمتها رخيصة وسهلة الاستخدام، مع نشر أوكرانيا وروسيا لتكنولوجيا الطائرات بدون طيار المدعومة بالذكاء الاصطناعي ستراقب الصين وإيران وكوريا الشمالية وتتعلم، مع تطور تكنولوجيا الحشد السريع التي يقودها الذكاء الاصطناعي ستزداد ميزة الأعداد الهائلة.

يحتاج حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها المهددون من قبل خصوم أقوى إلى القدرات التي تطورها أوكرانيا، لنأخذ تايوان كمثال فهي قادرة على استخدام طائرات مسيرة قابلة للتطوير ورخيصة الثمن للدفاع عن نفسها في حال أقدمت بكين على التصعيد ضدها، ولهذا فان تزويد واشنطن شركائها بقدرات مماثلة ومساعدتهم على تطوير إنتاجهم المحلي سيعزز من قدرات هذه الدول الحليفة لأمريكا.

استخلاص الدروس الصحيحة من أوكرانيا لتعزيز القدرات الأمريكية، يدفع باتباع بعض الخطوات الرئيسية كنقطة انطلاق يجب على وزارة الدفاع الأمريكية العمل بها مع الشركات الأوكرانية لتصنيع الطائرات المسيرة في الولايات المتحدة، على أن تُزود هذه الطائرات للجيشين الأوكراني والأمريكي على حد سواء، هذا النوع من الشراكة المعروف باسم الإنتاج المشترك سيكون مربحًا للطرفين حيث ستتعلم الولايات المتحدة من المصنعين الأوكرانيين بشكل مباشر، وستستلم كل من أوكرانيا والولايات المتحدة هذه الطائرات المسيرة. كما على البنتاغون إبرام اتفاقية مع وزارة الدفاع الأوكرانية لترخيص تكنولوجيا وتصميمات الطائرات المسيرة للولايات المتحدة، بفضل هذه الملكية الفكرية يمكن للجيش الأمريكي بناء طائرات مسيرة غير مكلفة ومُجربة في ساحات القتال بشكل مستقل، وتطوير البنية التحتية المحلية اللازمة لتوسيع نطاق الإنتاج.

ويمكن للولايات المتحدة اتباع النهج نفسه مع تقنيات أوكرانية إضافية، بما في ذلك أنظمة التصدي للطائرات المسيرة من خلال الإنتاج المشترك لهذه القدرات مع أوكرانيا والحصول على الملكية الفكرية المرتبطة بها، وقد نجح قطاع الدفاع الأوكراني جزئياً بفضل قدرة مصنعيه على الانخراط في عمليات تكرار سريعة استناداً إلى نتائج واقعية، وعلى الولايات المتحدة أيضاً اغتنام فرصة تزويد أوكرانيا بتقنيات أمريكية تجريبية، وتقييم أدائها ميدانياً ثم إجراء التحديثات اللازمة.

يكمن الخطر الرئيسي لهذا النهج في أن الولايات المتحدة قد تعتمد على شريك أجنبي في بعض إنتاجها الدفاعي كما حدث مع اعتماد روسيا على الطائرات الإيرانية بدون طيار في الصراع الحالي، لكن البديل أسوأ نظراً لتفوق أوكرانيا الحالي في المعرفة والإنتاج وينبغي التركيز على سد هذه الفجوة، على الولايات المتحدة أن تنظر إلى تعاونها مع أوكرانيا كمُسرع تكنولوجي قصير الأجل بدلًا من حل طويل الأجل. وعلى وزارة الدفاع التعاون مع الصناعة الأمريكية أن تسعى إلى الاستفادة من الخبرة الأوكرانية بسرعة، والبدء في إنتاج هذه الأنظمة المتطورة ثم الانتقال من النماذج المرخصة إلى تصميماتها المستقلة، إذا تراجعت الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا فإنها ستخاطر بفقدان إمكانية الوصول إلى تكنولوجيا دفاعية مثبتة وخبرة ميدانية، وبيانات حول الأداء العسكري الروسي.

واعتقد ان على أوروبا أن تنظر إلى الولايات المتحدة وأوكرانيا كنموذجين متكاملين لإنتاج الدفاع، مع استثمار القادة الأوروبيين في صناعاتهم الدفاعية ويمكن للولايات المتحدة أن تُقدم إرشادات حول كيفية بناء أنظمة ذاتية متطورة بالإضافة إلى قدرات تقليدية كالمدفعية والصواريخ والدفاع الجوي الاستراتيجي على نطاقٍ واسع، ويمكن لأوكرانيا أن تفعل الشيء نفسه بالنسبة للطائرات المُسيرة المُنتجة بكميات كبيرة والتقنيات المُرتبطة بها.

يُمثل قتال أوكرانيا نقطة تحول في الحروب الحديثة، فقد أثبتت كييف إمكانية صد عدو أقوى باستخدام طائرات مسيرة متطورة وبأسعار معقولة وقابلة للتكيف وتقنيات دفاعية أخرى، تقوم الولايات المتحدة بمواصلة مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد روسيا ومع سعي إدارة ترامب للحصول على المزيد، في المقابل تسعى أوكرانيا لمساعدة الولايات المتحدة في تعزيز ابتكاراتها، وبهذا سيُصبح كلا البلدين أفضل وأقوى بفضل هذا التعاون المشترك.

 (1) الهاوزر او الهاوتزر هو نوع من أنواع المدفعية يتميز بسبطانة قصيرة نسبيا واستخدام قذائف صغيرة ودفعها لمسافات بعيدة بسرعة أبطأ بمسار منحنٍ للمقذوف بحيث يكون مسار المقذوف مقوس لضرب المواقع من خلف الموانع بعكس المدفع الذي يستخدم المسار المستقيم بسرعة فوهية عالية جداً.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى