الاكثر قراءةدراساتغير مصنف
دور الفاعلين الدوليين في النزاعات المعقدة في إعادة ضبط العلاقة بين الشرعية والنفوذ: الحالة الليبية من منظور مقارنة

بقلم: الباحث عادل الصابر بوعجيلة
المقدمة
تواجه الدول التي تخرج من صراعات معقدة تحديات هائلة في إعادة بناء أطرها السياسية والمؤسسية. وليبيا، منذ سقوط النظام السابق في 2011، تجسد هذه التحديات، حيث غالبا ما أدى تداخل الفاعلين المحليين والدوليين إلى تعقيد بناء الدولة المستدام بدلا من أن يسهل ذلك. وعلى الرغم من وفرة المبادرات الدولية، شهدت الأزمة الليبية تفككا مستمرا، وصراعا على الشرعية، وتشويش الخطوط بين السلطة (الشرعية) والسلطة (النفوذ)، وغالبا ما تفاقم ذلك التدخلات الخارجية.
تستكشف هذه الدراسة التحول في دور الفاعلين الدوليين- وبشكل خاص التحول من الدور سياسية إلى وظيفة إدارية- في سياق الحوار المهيكل الذي تنظمه بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا (UNSMIL). السؤال المركزي الذي يوجه هذا الدراسة هو: إلى أي مدى يساهم انتقال الفاعلين الدوليين من الأدوار السياسية إلى الإدارية، من خلال الحوار المنظم، في إعادة ضبط العلاقة بين السلطة والسلطة داخل دول هشة مثل ليبيا؟
يفترض البحث الفرضية التالية: “كلما اقتصر الفاعل الدولي على الإدارة الإجرائية للعملية السياسية- دون التدخل في محتوى القرارات- زادت احتمالية استعادة التوازن بين السلطة (الشرعية) والسلطة (النفوذ) “، بشرط وجود قدرة داخلية دنيا على تحمل المسؤولية السياسية. لتحليل هذا الاقتراح، يستخدم البحث دراسة حالة وذلك بمقارنة العراق والبوسنة، مع التجربة الليبية. حيث يبنى التحليل على نموذج يميز بين المتغير المستقل (طبيعة الدور الدولي)، والمتغير التابع (التوازن بين السلطة والسلطة)، والمتغير الوسيط (سلوك الفاعلين المحليين)، ومتغيرات السيطرة (هشاشة الدولة، التدخلات الإقليمية، والانقسامات الاجتماعية).
تشير النتائج إلى أنه رغم أن الحياد السياسي للدور الدولي شرط ضروري لإعادة بناء الدولة، إلا أنه غير كاف بحد ذاته. بحث العامل الحاسم يبقى بقدرة الفاعلين المحليين على التحول من منطق القوة إلى منطق الشرعية. وهذا ما يظهره الحوار المهيكل كآلية فعالة لإدارة الأدوار، ومع ذلك تظل فعاليته تعتمد على إرادة الفاعلين السياسيين المحليين.
تصميم البحث والمنهجية
الفرضية والمتغيرات
تفترض الدراسة بأن الدور الإداري الدولي يزيد من احتمال استعادة التوازن بين السلطة والسلطة، مشروطا بمستوى أدنى من المسؤولية السياسية الداخلية كما يلي:
المتغير المستقل: طبيعة دور الفاعل الدولي (من التدخل السياسي المباشر إلى التسهيل الإداري والإجرائي).
المتغير التابع: درجة التوازن بين السلطة (الشرعية) والسلطة (النفوذ)، الذي يتم تفعيله من خلال قدرة المؤسسات الرسمية على ممارسة السيطرة الفعالة، وقبول المجتمع للنتائج السياسية، وإخضاع الوسائل القسرية للأطر القانونية.
المتغير الوسيط: سلوك الفاعلين المحليين (تنافسي/ صفر- مجموع مقابل مشاركة توافقية/ مسؤولة).
متغيرات السيطرة: السمات الهيكلية لبيئة الصراع، مثل هشاشة الدولة، وجود الفصائل المسلحة، التدخلات الإقليمية، والانقسامات الاجتماعية.
اختيار الحالة وطريقة المقارنة
لعزل تأثير الدور الدولي، تقارن الدراسة ليبيا بالعراق والبوسنة- وهي حالتان تشتركان في هشاشة هيكلية متشابهة لكنها شهدت أنماطا مختلفة من المشاركة الدولية. يسمح هذا النهج المقارن بتحديد الآليات السببية وتقييم قابلية تعميم النتائج خارج السياق الليبي.
مصادر البيانات والإجراءات التحليلية
يستند التحليل إلى وثائق أولية من بعثات دولية، واتفاقيات رسمية، وأدبيات ثانوية تحلل مسارات إعادة البناء بعد الصراع في الحالات المختارة.
تستخدم الدراسة تتبع العمليات لرسم خريطة تطور الأدوار الدولية وتأثيراتها، مع دعم مقارنات منظمة ومركزة لتقييم تفاعل المتغيرات عبر الحالات.
الإطار النظري: السلطة، السلطة، والتدخل الدولي
السلطة والسلطة في الدول بعد الصراع
الثنائية بين السلطة والسلطة هي جوهر لفهم إعادة بناء الدولة في بيئات ما بعد الصراع. ترتبط السلطة بشرعية المؤسسات، التي تستند إلى الاعتراف الرسمي والقبول المجتمعي، بينما غالبا ما تتعلق السلطة بالقدرة العملية على التأثير على النتائج، وغالبا ما تنبع من السيطرة على الموارد القسرية أو الاقتصادية. في الدول الهشة أو المتأثرة بالصراع، غالبا ما يكون هذان العنصران منفصلين، قد يفتقر أصحاب السلطة إلى الشرعية الرسمية، بينما قد لا يتمكن أصحاب السلطة القانونية من ممارسة السيطرة الفعالة، مما يؤدي إلى عدم استقرار مزمن وحوكمة متنازع عليها.
الممثلون الدوليون: من الهندسة السياسية إلى التيسير الإداري
لطالما تأرجحت التدخلات الدولية في بيئات ما بعد الصراع بين نموذجين رئيسيين متمايزين: نموذج الهندسة السياسية، حيث تنخرط الأطراف الدولية في تشكيل المخرجات الجوهرية للعملية السياسية، عبر فرض تصورات مؤسسية أو تفضيل فاعلين محليين محددين، بما يجعلها شريكًا فعليًا في إنتاج السلطة، ونموذج التيسير الإداري، الذي يقتصر فيه الدور الدولي على تنظيم المسارات الإجرائية، وتيسير الحوار بين الأطراف المحلية، وضمان نزاهة الإجراءات، دون التدخل في مضمون الخيارات السياسية أو نتائجها النهائية.
ولا يقتصر التمييز بين هذين النموذجين على اختلاف وصفي أو اصطلاحي، بل ينطوي على فارق بنيوي ذي آثار مباشرة على طبيعة التسويات السياسية ومآلاتها. إذ ينعكس هذا التمايز على مستويات الملكية المحلية للعملية السياسية، وشرعيتها المجتمعية، وقابليتها للاستدامة في مرحلة ما بعد الصراع. وتشير الأدبيات المقارنة إلى أن الهياكل السياسية المصمَّمة خارجيًا غالبًا ما تعاني من هشاشة وظيفية بسبب عدم تجذرها في الواقع الاجتماعي والسياسي المحلي، في حين تسهم مقاربات التيسير الإداري، حين تُحترم حدودها، في تمكين الفاعلين المحليين من تحمّل مسؤولية مساراتهم السياسية، بما يعزز فرص التوافق والاستقرار طويل الأمد.
ويكتسب هذا التمييز أهمية خاصة عند تحليل أدوار الممثلين الدوليين في السياقات الانتقالية المعقّدة، حيث تتحول الحدود بين التيسير الإداري والهندسة السياسية إلى مجال ملتبس تتداخل فيه الوظائف الإجرائية مع التأثيرات السياسية غير المعلنة. ففي كثير من الحالات، يُعاد إنتاج أنماط التدخل الخارجي تحت خطاب “الدعم التقني” أو “ضمان العملية”، بينما تُمارَس في الواقع أشكال غير مباشرة من توجيه الخيارات، أو ضبط إيقاع التوافقات، أو تحديد سقوف الحلول الممكنة. ويؤدي هذا التداخل إلى إضعاف القدرة التحليلية على تقييم حياد الدور الدولي، كما يُربك الفاعلين المحليين في تحديد موقعهم بين الشراكة والوصاية.
وفي هذا السياق، تصبح مسألة ضبط الدور الدولي لا مسألة نوايا معلنة، بل مسألة بنية تدخل وحدود فعل. فكلما انتقل الفاعل الدولي من تنظيم الإجراء إلى التأثير في المضمون، ومن ضمان المسار إلى صياغة النتائج، انتقل عمليًا من موقع التيسير إلى موقع الهندسة السياسية، بما يحمله ذلك من مخاطر تتعلق بتآكل الشرعية وتراجع الملكية المحلية. وعليه، فإن تقييم التدخلات الدولية في حالات ما بعد الصراع يقتضي تحليلًا دقيقًا لآليات الفعل، لا الاكتفاء بخطابها الرسمي، وربط ذلك بمآلات العملية السياسية وقدرتها على إنتاج تسوية مستقرة وقابلة للحياة.
الحالة الليبية: الانخراط الدولي وأزمة السلطة
تطور المشاركة الدولية في ليبيا
بعد انهيار النظام السابق، تحولت ليبيا إلى ساحة لنشاط دولي مكثف، اضطلعت فيه الأمم المتحدة، إلى جانب منظمات إقليمية ودول فاعلة، بأدوار سياسية وإجرائية متداخلة. وقد اتسمت المراحل الأولى من هذا الحضور الدولي بغلبة مقاربة الهندسة السياسية، حيث سعت الأطراف الخارجية إلى فرض ترتيبات انتقالية وصياغة أطر مؤسسية من أعلى، في محاولة لإعادة تشكيل الحقل السياسي الليبي وفق تصورات معيارية جاهزة. غير أن هذه الجهود، في معظمها، افتقرت إلى التفاعل العضوي مع الفسيفساء المعقدة للفاعلين المحليين وتوازنات المصالح الاجتماعية والجهوية، ما أسفر عن هشاشة بنيوية في الكيانات المنبثقة عنها.
وانعكس هذا النمط من التدخل على مسار العملية السياسية عبر انهيارات متكررة في التوافقات، وشرعية متنازع عليها، وتكاثر مراكز قوة موازية، الأمر الذي عمّق منطق الانقسام بدل احتوائه. ووفقًا للإطار التحليلي السابق، لا يمكن فهم هذه الإخفاقات بوصفها عثرات تقنية أو قصورًا في التنفيذ، بل باعتبارها نتيجة مباشرة لانزياح الدور الدولي من التيسير الإداري إلى الهندسة السياسية، بما ترتب عليه تقويض الملكية المحلية للعملية الانتقالية.
ومع تعقّد المشهد وتراكم الفشل، شهدت المشاركة الدولية لاحقًا محاولات لإعادة ضبط الدور، عبر الانتقال الخطابي – على الأقل – نحو مقاربة التيسير الإداري، التي تؤكد على تنظيم المسارات الحوارية وضمان الإجراءات دون التدخل الصريح في مخرجاتها. إلا أن هذا التحول ظل جزئيًا وملتبسًا، حيث استمر التداخل بين الإجراء والمضمون، ما جعل الدور الدولي في ليبيا نموذجًا إشكاليًا لتطور المشاركة الدولية بين منطق الدعم ومنطق الوصاية.

دور بعثة الأمم المتحدة في ليبيا: بين التيسير الإداري والهندسة السياسية
تلعب بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا دورًا مركبًا يجمع بين وظائف إدارية وتقنية ووظائف سياسية استراتيجية، ما يجعلها مثالًا حيًا على التداخل بين التيسير والإشراف المباشر في سياقات ما بعد الصراع. فمن جهة، تقتصر مهامها على تنظيم الحوار بين الأطراف المحلية، وضمان نزاهة الإجراءات، وتقديم الدعم الفني للمؤسسات الانتقالية، وهو ما يندرج تحت منطق التيسير الإداري الذي يحافظ على الملكية المحلية للعملية السياسية ويعزز فرص الاستقرار.
ومن جهة أخرى، وبالرغم من الخطاب الرسمي الذي يضع البعثة في خانة الميسر الحيادي، فإن تدخلاتها غالبًا تتجاوز هذا الدور، توجيه سقوف الحلول، وضبط إيقاع المفاوضات، والتأثير غير المباشر على تشكيل التحالفات المحلية، ما يقارب مقاربة الهندسة السياسية، حيث يصبح الفاعل الدولي شريكًا فعليًا في إنتاج السلطة.
وينعكس هذا التداخل على شرعية العملية السياسية واستدامتها، إذ تشير التجربة الليبية إلى أن أي انزياح من دور التيسير إلى دور الهندسة يزيد من هشاشة التسويات ويضعف التوافقات، بينما يتيح الالتزام الصارم بمنطق التيسير للفاعلين المحليين مساحة لتحمل المسؤولية وتحقيق توافق مستدام. وبناءً على ذلك، يمكن النظر إلى بعثة الأمم المتحدة في ليبيا كـفاعل هجين، يمثل نقطة محورية لدراسة أثر الدور الدولي على ملكية وشرعية العمليات السياسية بعد الصراع، ويصبح معيارًا حاسمًا لنجاح أو إخفاق التدخلات الدولية.
ظهور الحوار المهيكل
الحوار المنظم كآلية لإدارة الأدوار
يمثل الحوار المنظم، كما تمارسه UNSMIL في ليبيا، خطوة متعمدة نحو تسهيل الإجراءات. بدلا من فرض النتائج، يركز الفاعل الدولي على جمع أصحاب المصلحة، وضمان الشمولية، وحماية نزاهة العملية. يسعى هذا النهج إلى التخفيف من تصور الوصاية الدولية وتعزيز الملكية المحلية للاتفاقيات السياسية، مما يعزز نظريا شرعيتها واستمرارها.
كأحد أبرز المحاولات الدولية لتنظيم العملية السياسية في ليبيا بعد 2011، وقد شكّل اختبارًا عمليًا لتوازن الدور بين التيسير الإداري والهندسة السياسية. من الناحية الرسمية، صُمم الحوار ليكون إطارًا حياديًا يتيح للفاعلين المحليين وضع التوافقات وإدارة عملية الانتقال، وهو ما يعكس منطق التيسير الإداري الذي يحافظ على الملكية المحلية للعملية ويُعزز فرص الاستقرار السياسي.
استجابة لقيود الهندسة السياسية، أعادت UNSMIL تدريجيا توجيه نهجها نحو الحوار المنظم. شمل ذلك عقد مشاورات واسعة النطاق، وتنظيم منتديات شاملة، والتركيز على العدالة الإجرائية بدلا من فرض الجوهر. تجلى هذا التحول في منتدى الحوار السياسي الليبي (LPDF)، حيث اقتصرت البعثة على دورها في التيسير فقط، ساعية لتمكين الفاعلين الليبيين من التفاوض وامتلاك النتائج. عكس هذا الانتقال اعترافا بأن التسويات الدائمة تتطلب ليس فقط الدعم الخارجي، بل أيضا الدعم والمسؤولية الداخلية. لكن الواقع على الأرض كشف عن تداخل مستمر بين التيسير والهندسة السياسية: تدخلت البعثة الدولية، في بعض المراحل، بشكل غير مباشر في تحديد سقوف الحلول، وضبط ترتيب الأولويات، وتأثير توازن القوى بين الأطراف المحلية. هذا الانزياح أدى إلى مخرجات ذات شرعية ناقصة في بعض المناطق، مع تكرار الانقسامات، ووجود مراكز قوة موازية، بما يعكس الفجوة بين خطاب الحياد والواقع الميداني للتدخل الدولي
في الحالة الليبية، أظهرت تجربة الحوار المهيكل حدود التيسير الإداري في غياب توافق داخلي حقيقي، خصوصًا مع استمرار بروز عدم رضا من الجماعات المحلية وتداخل المصالح الإقليمية. وعلى الرغم من حيادية الدور الدولي النسبي، فإن غياب التحول الداخلي والاعتماد على منطق القوة حدّ من إمكانية إعادة معايرة مستدامة للسلطة.
وبالتالي، توضح التجربة أن فعالية التدخل الدولي مشروطة بمقدار توافق القوى المحلية، وبمدى قدرة المؤسسات الوطنية على فرض سلطتها داخل السياق المحلي. أي أن التدخل الخارجي وحده، مهما كان حياديًا، لا يكفي لإنتاج تسوية سياسية مستقرة ما لم يُقترن بتمكين الفاعلين المحليين من ملكية مساراتهم واتخاذ القرارات الحاسمة.

التحليل المقارن: العراق والبوسنة
العراق: الهندسة السياسية واستمرار تفكك السلطة
تميز التدخل الدولي في العراق بعد غزو 2003 بـالهندسة السياسية المباشرة. فقد قامت السلطة المؤقتة الائتلافية (CPA) بإصلاحات شاملة، وحلت المؤسسات القائمة، وفرضت ترتيبات سياسية جديدة، في محاولة لبناء سلطة شرعية ومنظومة سياسية مستقرة. ومع ذلك، أدى استبعاد الفاعلين المحليين الرئيسيين وغياب الملكية الوطنية للعملية السياسية إلى فراغات سلطوية دائمة، وانتشار الجماعات المسلحة، وتكرار النزاع على الشرعية. وبمرور الوقت، أعاقت الآثار المستمرة للتدخل الدولي، إلى جانب تعمق الانقسامات الطائفية والإقليمية، أي فرص حقيقية للانتقال نحو دور دولي أكثر حيادية وتيسيرًا.
تقارن هذه التجربة مع ما حدث في ليبيا بعد 2011، حيث أظهرت كلا الحالتين أن الهندسة السياسية، رغم نواياها لبناء سلطة شرعية، غالبًا ما تقود إلى هشاشة مؤسسية وشرعية ناقصة. بينما يتيح الالتزام بمنطق التيسير الإداري، كما حاولت بعض البعثات الدولية في ليبيا، للفاعلين المحليين مساحة لتحمل المسؤولية وصياغة تسويات مستدامة، مما يبرز الفارق البنيوي بين التدخل المباشر في مضمون السياسة وبين تنظيم الإجراءات وضمان نزاهتها.
البوسنة: الحوكمة الهجينة وحدود التعليم الدولي
تمثل البوسنة والهرسك نموذجا آخر، حيث يتولى الطرفان الدوليون دورا هجينا، يجمعون بين السلطة السياسية (من خلال مكتب الممثل الأعلى) والوظائف الإدارية. بينما نجح هذا الترتيب في منع تجدد الصراع وتسهيل إعادة بناء المؤسسات، إلا أنه رسخ أيضا الاعتمادية، وأعاق النضج السياسي الداخلي، واستمر في ديناميكية حيث كانت السلطة الرسمية غالبا منفصلة عن السلطة الفعالة. أصبح استمرار الوصاية الدولية عائقا أمام ظهور الشرعية المحلية وترتيبات الحوكمة الدائمة.
تؤكد هذه المقارنة أهمية مواءمة الأساليب الدولية مع واقع الوكالة المحلية. في كل من العراق والبوسنة، أعاقت الهندسة السياسية الصارمة من قبل جهات دولية ظهور هياكل السلطة الشرعية والمكتفية ذاتيا. وعلى العكس، فإن التجربة الليبية مع الحوار المنظم، رغم أنها ليست حلا سحريا، تظهر الفوائد المحتملة للتسهيل الإجرائي، خاصة عندما يصاحبها الاستعداد المحلي لتحمل المسؤولية. ومع ذلك، في غياب مثل هذا الاستعداد، حتى أكثر المواقف الدولية حيادية لا يمكنها تعويض العجز الداخلي في النضج السياسي والتوافق.
التدخلات الإقليمية وتدويل النزاعات
لقد تشكلت الأزمة الليبية، مثل تلك في العراق والبوسنة، بعمق نتيجة التدخلات الإقليمية. دعمت القوى الخارجية المتنافسة الأطراف المتنافسة، مما عقد الجهود لإقامة سلطة موحدة. تحد هذه الديناميكيات من نطاق الحياد الدولي والتوافق الداخلي، مما يؤسس دورات من النزاع ويقوض شرعية المؤسسات الرسمية.
السياق البنيوي: الهشاشة، التدخل، والانقسام
دور الممثلين المحليين (أنماط المشاركة المحلية)
تعتمد فعالية التحول الدولي على الدور بشكل حاسم على سلوك الفاعلين المحليين. عندما تكون النخب والمؤسسات مستعدة للانخراط في مفاوضات بتوافق ومسؤولية- مع قبول الحاجة إلى التسوية، وتقاسم السلطة، والالتزام بالمعايير الإجرائية- تزداد فرص إعادة التوازن بين السلطة والسلطة. وعلى العكس، حيث يصر الطرفان المحليون في منافسة صفرية، أو يسعون لاحتكار الوسائل القسرية، أو يقاومون التسوية القائمة على الشرعية، فإن الدور الدولي، مهما كان مضبوطا جيدا، من غير المرجح أن يحقق نتائج مستدامة.
مؤشرات الانخراط المسؤول
تشمل المؤشرات التجريبية للمشاركة المحلية المسؤولة الامتثال لنتائج الحوار، والاستعداد لتقاسم السلطة، وقبول العوامل الإجرائية بدلا من العوامل التي تعتمد على القوة في اتخاذ القرار. في السياق الليبي، رغم حدوث لحظات من التسوية، غالبا ما تم تقويضها بسبب الرجوع إلى القوة واستخدام المنتديات الدولية لصالح المصالحة الداخلية. لقد حد هذا الديناميكية من الإمكانات التحويلية للحوار المنظم وأكرس تجزئة السلطة.
هشاشة الدولة وتداعياتها
الهشاشة الهيكلية للدول بعد الصراع- التي تظهر في مؤسسات ضعيفة، وحدود مسامية، وخدمات محدودة- تخلق أرضا خصبة لانتشار مراكز القوة غير الحكومية. في مثل هذه السياقات، يعد الانفصال بين السلطة والسلطة سببا ونتيجة لعدم الاستقرار المستمر. يجب أن تواجه الجهود الدولية لتعزيز السلطة هذه العجز الهيكلي، الذي لا يمكن معالجته فقط من خلال التيسير الإجرائي.
الانقسامات الاجتماعية وتحدي الشمول
الانقسامات الاجتماعية- سواء على أساس عرقي أو قبلي أو طائفي أو إقليمي- تعقد مهمة التوفيق بين السلطة والسلطة. يجب أن تكون الجهود المبذولة للحوار المنظم منتبهة للحاجة إلى شمول واسع النطاق، حتى لا ينظر إلى المستوطنات على أنها إقصائية أو غير شرعية. في ليبيا، جعل تنوع الفاعلين والمصالح بناء سلطة وطنية متماسكة أمرا شاقا للغاية، حيث تعكس عمليات الحوار غالبا الانقسامات الكامنة، بدلا من حلها.
الحوار المنظم: الآليات، الإمكانيات، والقيود
النزاهة الإجرائية والشمولية
يؤكد الحوار المنظم، كآلية إدارية، على نزاهة العمليات السياسية. من خلال ضمان أن يكون لجميع الأطراف المعنية مقعدا على الطاولة، وأن تكون القواعد شفافة ومطبقة باستمرار، وأن تعكس النتائج توافقا حقيقيا، يمكن للحوار المنظم أن يعزز شرعية ومتانة التسويات. هذا النهج يختلف عن الحلول المفروضة خارجيا، والتي قد تفتقر إلى الرنين وتثير مقاومة.
التمكين والمسؤولية
الفرضية الأساسية لنموذج الحوار المنظم هي تمكين الفاعلين المحليين من تحمل المسؤولية عن مستقبلهم السياسي. من خلال التراجع عن فرض جوهري، يخلق الفاعلون الدوليون مساحة للوكالة المحلية، مما يحفز النخب على الانخراط في التوصل إلى تسوية واستيعاب معايير السلطة المشروعة. ومع ذلك، فإن نجاح هذا النموذج يعتمد على استعداد وقدرة الفاعلين المحليين على مواجهة التحدي.
مخاطر التبسيط الإجرائي
بينما تظهر مزايا التيسير الإجرائي بوضوح، هناك مخاطر مرتبطة بالتقليل المفرط. في السياقات التي ينقسم فيها الطرفان المحليون بشكل لا يمكن التوفيق بينهم، أو حيث تفوق القوة القسرية الالتزام بالشرعية، قد يؤدي الانفصال الدولي ببساطة إلى كشف أو تفاقم الأزمات الداخلية. توضح الحالة الليبية حدود النهج الإداري في غياب توافق داخلي قوي وآليات فعالة لكبح العنف.
تتبع العمليات: من الهندسة السياسية إلى الحوار المنظم
يمكن تتبع تطور المشاركة الدولية في ليبيا عبر ثلاث مراحل: الهندسة السياسية الأولية (2011–2014)، وإعادة التوجيه نحو التيسير (2015–2018)، وتأسيس الحوار المنظم (2019–حتى الآن). تعكس كل مرحلة إعادة معايرة للأدوار، مستندة إلى الدروس المستفادة والتحولات في السياقات الدولية والمحلية.
الهندسة السياسية: ركزت الجهود المبكرة على صياغة الدساتير، واتفاقيات تقاسم السلطة، وفرض السلطات الانتقالية. غالبا ما كانت هذه التدخلات تهمش الفاعلين الرئيسيين، وتثير المقاومة، وتفشل في تحقيق توافق مستدام.
التيسير: مع إدراك قيود الفرض، اتجهت UNSMIL نحو عقد المنتديات والتوسط في النزاعات، مع نتائج متباينة.
الحوار المنظم: جعلت الدفاع الشعبي الشعبي والمبادرات اللاحقة نموذجا مؤسسيا للتيسير الإداري، حيث تعمل البعثة كمنظم وضامن للعمليات، بدلا من أن تكون الحكم على النتائج.
التقييم التجريبي: السلطة، السلطة، ودور الحوار
تأثير الحوار المنظم على التوازن بين السلطة والسلطة في ليبيا متباين. بينما ساهمت العملية في لحظات من التوافق ومؤسسات موحدة مؤقتا، كانت هذه المكاسب غالبا هشة وقابلة للعكس. لقد أضعفت استمرار الجماعات المسلحة، واستخدام الحوار لتحقيق مكاسب فئوية، وتقلب الدعم الإقليمي، وتوطيب الدعم الإقليمي توطيد السلطة المشروعة. وبالتالي، تدعم الأدلة الفرضية القائلة بأن الأدوار الإدارية الدولية ضرورية لكنها غير كافية- فالتصرف المحلي يظل المتغير الحاسم.
دروس من الحالات المقارنة
العراق: إرث الاستبعاد
وتبرز التجربة العراقية مخاطر فرض الخارج دون دعم داخلي. أدى تفكك جهاز الدولة البعثية وتهميش الدوائر الرئيسية إلى خلق عجز دائم في الشرعية، مما غذى دورات من العنف والتفكك. وقد أعاقت الجهود اللاحقة للتحول نحو التيسير إرث الاستبعاد وانتشار مراكز القوة غير الحكومية.
البوسنة: الاعتماد والانتقال المتوقف
نموذج الحوكمة الهجينة في البوسنة استقر البيئة بعد الحرب لكنه رسخت الاعتماد على الرقابة الدولية. لقد أعاق تردد الفاعلين المحليين في تحمل المسؤولية الكاملة عن الحكم، إلى جانب الانقسامات العرقية المستمرة، نضوج السلطة الشرعية والفعالة. توضح القضية مخاطر التوجيه الدولي غير المحدد والتحديات التي تواجه تعزيز الوكالة المحلية.
ليبيا: احتمالية النجاح
تظهر خبرة ليبيا في الحوار المنظم إمكانات وحدود الأدوار الإدارية الدولية. حيثما كان الطرفان المحليون مستعدين للمشاركة في مفاوضات مسؤولة قائمة على التوافق، كان التقدم ممكنا. ومع ذلك، فإن غياب الالتزام المستمر بالشرعية ومرونة المنطق القائم على القوة قد أوقف أو عكس المكاسب مرارا. وبذلك تبرز القضية احتمال النجاح في الوكالة المحلية.
الخاتمة
درس هذا الدراسة محاولة لفهم تأثير تحول دور الفاعل الدولي من السياسي إلى الإداري، مع التركيز على عملية الحوار المنظم في ليبيا واستخلاص دروس مقارنة من العراق والبوسنة. يدعم التحليل الفرضية القائلة بأن التسهيل الإداري للعمليات السياسية من قبل الفاعلين الدوليين يمكن أن يساهم في إعادة ضبط العلاقة بين السلطة والسلطة، ولكن فقط في ظل ظروف المسؤولية السياسية الداخلية المحدودة.
تُظهر الحالة الليبية الإمكانات والقيود على حد سواء للحوار المنظم. فبينما يوضح التحول نحو التيسير الإداري جوهر العوائق الداخلية ويشجع على ظهور المسؤولية السياسية المحلية، كشفت الدراسة أيضًا عن استمرار منطق السلطة القائمة وهشاشة الشرعية المؤسسية. وعند مقارنتها بتجارب العراق والبوسنة، يتضح أن الهندسة السياسية الدولية المفرطة تحمل مخاطر كبيرة على الاستقرار والشرعية، وفي الوقت نفسه، لا يكون التيسير الإداري كافيًا إذا لم يكن الفاعلون المحليون راغبين أو قادرين على الانخراط بشكل بناء في العملية السياسية.
تشير النتائج إلى أن على الفاعلين الدوليين اعتماد نهج متوازن يجمع بين التيسير الإجرائي ودعم القدرات والمسؤولية المحلية. وفي نهاية المطاف، فإن إعادة معايرة السلطة والشرعية في الدول الهشة هي عملية داخلية بالدرجة الأولى ولا يمكن فرضها خارجيًا. ويظل دور الفاعلين الدوليين خلق بيئات تمكينية، وتوضيح جوهر التحديات الداخلية، ودعم نضوج مؤسسات الدولة الشرعية والفعالة، دون تجاوز حدود الملكية المحلية للعملية السياسية.
التوصيات:
-
إعطاء الأولوية لتسهيل عمليات الحوار المنظمة التي تركز على النزاهة الإجرائية والشمولية، مع الامتناع عن فرض نتائج جوهرية.
-
الاستثمار في تطوير القدرات المؤسسية المحلية وتنمية المسؤولية السياسية بين الفاعلين المحليين، مع الاعتراف بأن الشرعية المستدامة لا يمكن فرضها خارجيا (تشيسترمان، 2004).
-
الحفاظ على المرونة في النهج، وضبط مستويات المشاركة استجابة لسلوك الفاعلين المحليين المتغير والسياق الهيكلي.
-
اعترف بقيود التيسير الإداري في غياب المشاركة الداخلية الكافية، وكن مستعدا لتقديم حوافز أو ضغوط مستهدفة لردع العرقلة والمفسدين.
الممثلون المحليون
يتحمل الفاعلون المحليون المسؤولية الأساسية للانتقال من السياسة القائمة على السلطة إلى السياسة القائمة على الشرعية. وهذا يتضمن:
-
الالتزام بنتائج عمليات الحوار المنظمة، حتى عندما تتطلب هذه الحلول الوسط وتقاسم السلطة.
-
تعزيز القدرات المؤسسية لفرض الاتفاقيات وضبط المفسدين.
-
تنمية ثقافة سياسية تقدر الحل الإجرائي والشرعية على حساب السعي وراء المصالح الفئوية الضيقة.
يجب على أصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين:
-
تنسيق التدخلات لتجنب انتشار المبادرات المتنافسة وتعمق الانقسامات الداخلية.
-
دعم الجهود لتقليل مصادر القوة غير المشروعة الخارجية، بما في ذلك تدفق الأسلحة والدعم المالي للمفسدين.
-
المساعدة في خلق بيئات تمكينية للحوار المنظم، بما في ذلك تقديم الدعم الفني واللوجستي.
الاستنتاجات
تُظهر الحالة الليبية والإسقاطات المقارنة أن فعالية التدخل الدولي مشروطة بتمكين الفاعلين المحليين. ويدل ذلك على ضرورة اعتماد نهج متوازن يجمع بين:
-
التيسير الإجرائي لضمان نزاهة العملية السياسية.
-
دعم القدرات المحلية وتعزيز المسؤولية الوطنية.
وفي نهاية المطاف، فإن إعادة معايرة السلطة والشرعية في الدول الهشة هي عملية داخلية بالدرجة الأولى ولا يمكن فرضها خارجيًا. يقتصر دور الفاعلين الدوليين على خلق بيئات تمكينية، وتوضيح جوهر التحديات الداخلية، ودعم نضوج مؤسسات الدولة الشرعية والفعالة، مع احترام الملكية المحلية للعملية السياسية.
دور الفاعلين الدوليين




