الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
صحوة الليفياثان: ملامح عودة الدولة في النظام الدولي

بقلم: حسن فاضل سليم
باحث في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
هذا هو ميلاد ذلك الليفياثان العظيم او بالأحرى (نقولها بمزيد من التوقير) ذلك الإله الفاني الذي ندين له، تحت رعاية الإله الخالد، بسلامنا ودفاعنا.
( توماس هوبز، الليفياثان ، ص180)
قد يكون هوبز بالغ في وصف الدولة بالإله الدنيوي لتوضيح اهميتها الا انه اقترب بهذا الوصف من دور الدولة في حياة الناس والمجتمع على المستوى الدنيوي، وذلك لان الدولة تتحكم بكل شيء تقريبا لتشمل حياة الناس والمجتمع لتنظيم امورهم وتسيير معيشتهم والاهم من ذلك توفير الامن لهم وحماية وجودهم، وهذه هي وعلة وجود الدولة، اما على مستوى النظام الدولي فالدولة هي التي تمثل المجتمع امام العالم وترعى مصالحهم، وقد ظلت الدولة طرفا رئيسيا في النظام العالمي حتى سمي بالنظام الدولي لأنه يتألف من الدول فقط حتى العقد الاخير من القرن العشرين حيث تغير الكثير حينها.
لقد ادى انتهاء الحرب الباردة وتفكك المعسكر الاشتراكي الى ان يطلق المعسكر الليبرالي الرأسمالي العنان لأفكاره ويجعلها سياسات مفروضة كأمر واقع على جميع دول العالم، فاستبشر منظروا الليبرالية بنهاية التاريخ وانتصار ايديولوجيتهم على باقي الايديولوجيات، كما نظروا لنهاية الايديولوجيا ونهاية السياسة كون الليبرالية حسب وصفهم هي النموذج الايديولوجي والسياسي الافضل، ولا يمكن خلق نظام سياسي افضل من النظام الديمقراطي وفق النموذج الليبرالي، وبفعل نهاية السياسة يجب ان يتقلص دور الدولة كما هي عادة الليبراليين في تحجيم دور الدولة، فتم تحجيم دور الدولة في ادارة قطاعات عدة ابرزها القطاع الاقتصادي حيث لم تعمل الرأسمالية على انتزاع الاقتصاد من الدولة فحسب بل حتى انتزعت حصة لها من قطاع الامن فعملت على “رسملة الامن” وتحويله الى منتج اقتصادي تعيد بيعه الى الدولة.
لقد عملت الايديولوجيا الليبرالية وبحكم رؤيتها حول حرية التعبير والصحافة الحرة والديمقراطية بتطوير دور الراي العام وزيادة تأثيره كونه يشكل صدىً لرغبات المجتمع، فتم ما يشبه التعديل على العقد الاجتماعي الذي صاغه هوبز بواسطة المجتمعات الليبرالية وفق نموذج يتدخل فيه (الطرف الثاني) الفرد بسياسات (الطرف الاول) الدولة ويتحرك لإعادة رسمها وتغييرها وتحويل مسارها فاصبح الافراد ينظمون انفسهم بجماعات ضغط تحت غايات واهداف مختلفة.
لقد نتج عن كل هذه التحولات في عالم ما بعد الحرب الباردة تآكل كبير في سيادة الدولة بقطاعات مختلفة نتيجة لبروز ما عرف بالفواعل غير الدولية، ففي ظل نظام عالمي قائم على الحدود المفتوحة امام التبادل الاقتصادي والثقافي، وبظل بروز قضايا كبرى تهم الانسانية جمعاء، برز الفواعل غير الدوليين ليعبروا عن طبيعة التغير في النظام الدولي والذي وفرته العولمة الاقتصادية والثقافية، نظام دولي يملك رؤية واحدة للكون رؤية حاكمة ومفروضة بحكم الامر الواقع وهي رؤية تمثل التوجه الليبرالي الذي سمح بكل تلك التحولات.
لقد برزت الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للحدود الوطنية كاستجابة لسيادة مبدأ السوق المفتوح على النظام الاقتصادي العالمي، بعد زوال النظام الاشتراكي المنافس، وقد استفادت الشركات من مناخ الحدود المفتوحة لتنقل اعمالها الى مناطق مختلفة من العالم، كما استغلت مناخ الحرية والضغط لتقليص دور الدولة لصالح الاقتصاديين لتملك القدرة على التدخل في الشأن السياسي لدول عدة وتفرض على صناع القرار سياسات تتناسب مع مصالحها الاقتصادية ما اجبر العديد من الدول للخضوع لهيمنة هذه الشركات التي باتت تؤثر في القرار السياسي للدول.
وقد افرزت المساعي الامريكية لفرض رؤيتها الليبرالية على النظام الدولي تحت مسمى نشر الديمقراطية لبروز نمط اخر من الفواعل غير الدولية تمثلت بالجماعات المسلحة العابرة للحدود والتي كان ابرزها تنظيم القاعدة الارهابي وتنظيم داعش الارهابي، وهي قوى مسلحة ايضا ساهمت بدور كبير في اضعاف سيادة الدولة حتى وصل الامر ذروته مع سيطرة تنظيم داعش على اجزاء من العراق وسوريا وفرض نظام سياسي موازي، وهذا النوع من الفواعل اثر على سيادة الدولة على اهم اركانها وهما الارض والمجتمع.
فيما منح مناخ حرية الرأي وسهولة التواصل القدرة للأفراد والمنظمات غير الحكومية على لعب دور مؤثر، فقد تمكنت المنظمات غير الحكومية من اجبار العديد من الدول على تغيير سياساتها الاقتصادية من خلال عملية تأليب الرأي العام والاعلام والمجتمع للضغط من اجل تلبية هذه المطالب، اما الافراد فبحكم ما يتمتع به بعض الافراد من مميزات اقتصادية او دينية او ثقافية فقد اصبحوا مؤثرين على الدولة وقادرين على التحكم بقراراتها السياسية والاقتصادية .
وهكذا اصبح هذا الليفياثان مكبلاً بالعديد من القيود ومحاطاً بالعديد من الحواجز الداخلية والخارجية التي تحد من حركته وتضطره لكي يتعامل ويتكيف مع واقعه الجديد واقع اجبر الدولة على الشراكة مع الفواعل غير الدولية لتسيير شؤونها وشؤون مواطنيها والموازنة في التلبية والاستجابة لمطالب وتحديات عدة تفرضها تلك الفواعل ويفرضها الواقع الداخل والخارجي للدولة، ما غيب الدولة عن التدخل في العديد من القضايا ودفع العديد من المفكرين للتنظير لمرحلة ما بعد الدولة بفعل “السبات” الذي غيب الدولة عن العديد من القضايا.
اندحار الليبرالية وصحوة الدولة
لقد شكلت ازمة عام 2008 تحولاً مفصلياً في مسار هيمنة الليبرالية على النظام الدولي ف لأول مرة اضطر السوق الرأسمالي للاستعانة بالدولة بهدف انقاذه من الازمة المالية، فكان تدخل الدولة حاسما في استعادة الاقتصاد توازنه وعودة الحركة للسوق وهو ما ابطل دعوى الليبراليين من اتباع مدرسة شيكاغو المتعلقة بتجديد السوق لنفسه ذاتياً دون الحاجة لتدخل الدولة، وكانت هذه هي الضربة الاولى التي تتلقاها النيوليبرالية بصيغتها التقليدية، حيث تزايد دور النيوليبرالية التقدمية بشكل اكبر بعد الازمة فتزايدت مطالب العدالة الاجتماعية الى جانب مطالب السوق الحرة والشركات، فولدت موجة من الضغوط على المجتمعات لفرض اولويات العدالة الاجتماعية من وجهة نظر هذه الايديولوجيا فتم فرض افكار الجندر والنوع الاجتماعي بصيغته التقدمية على مجتمعات عدة مما اجبر الدول على تغيير تشريعاتها فيما قاومت اخرى مع مجتمعاتها هذه الضغوط.
لقد اسفرت هذه الضغوط عن بروز التيارات الشعبوية التي تمثل نسخة محدثة من الفاشية، وان كانت اقل وطأة ، حيث تشترك معها في المطالبة بأولوية الدولة القومية على الشركات وتقف بالضد من سياسات التراخي مع الهجرة.
لقد اسفرت موجة الهجرة غير الشرعية بعد عام 2014 وانتشار جائحة كورونا عام 2020 وما تلاها من الحرب الروسية الاوكرانية في عام 2022 في حدوث هزات كبيرة تعرضت لها المجتمعات الاوروبية والغربية المتقدمة التي تشكل منبع الافكار النيوليبرالية التقدمية فزادت ردة الفعل الاجتماعية والسياسية نحو الدعوة لتبني المزيد من السياسات القومية للدول التي تتعارض مع النيوليبرالية، ما ادى الى اكتساب الاحزاب الشعبوية مكانة مؤثرة في تلك المجتمعات وادى لصعود بعضها الى السلطة.
الا ان التحول الابرز تمثل في ولايتي ترامب الاولى والولاية الثانية الحالية، فقد ساهم دونالد ترامب كونه رئيس الدولة الاكبر في العالم ومنبع النيوليبرالية التقدمية والمروج الاول لها، في تراجع هذه الايديولوجيا حيث يتبنى ترامب نمط من فكر قومي امريكي يرفض فيه هيمنة الشركات والافراد على عملية صنع القرار ويعمل على تحجيمهم بأدوات سياسية وقانونية واقتصادية.

وثيقة الامن القومي الامريكية 2025 عودة الدولة القومية
ان ابرز ما ورد في وثيقة الامن القومي الامريكية الجديدة التي اصدرتها ادارة دونالد ترامب هو التأكيد على اولوية الدولة القومية على حساب كل شيء اخر، حيث نصت على ما اسمته بأولوية الامم، اي لا تعني اولوية الدولة في الولايات المتحدة فحسب بل اولوية الدولة القومية في كل مكان في العالم، فقد ركزت الاستراتيجية على المصالح الوطنية والسيادة كمفردات اساسية يجب الدفاع عنها، فقد اكدت الوثيقة على حق الولايات المتحدة في حماية حدودها وسيادتها ومصالحها الوطنية الاساسية، بوجه التآكل الذي تعرضت له من المنظمات العابرة للحدود (والتي تشمل الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية) حيث لم تكتف الاستراتيجية بوضع حد لكل التعديات التي تفرضها المنظمات العابرة للحدود على سيادة الدول فحسب بل القضاء على هذه التعديات واعادة الهيبة لمكانة الدولة وهو ما يعني عملياً الغاء كافة اشكال الفواعل غير الدولية التي تقوض من سيادة الدول، وهو ما يعني ان الوثيقة الجديدة تسعى للقضاء على ما انتجته مرحلة النيوليبرالية بصيغتيها الفريدمانية والتقدمية والسعي لإعادة العالم الى مرحلة ما قبل الحرب الباردة بل الى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية حيث الدولة القومية لها مكانة اساسية في النظام الدولي حيث لا تأثير للفواعل غير الدولية او للمنظمات الدولية التي تقوض من سلطة الدولة.
ويتطابق ما ورد في وثيقة استراتيجية الامن القومي الجديدة مع سلوك ادارة ترامب منذ تسلمه في بداية العام 2025، حيث مع صعود ادارته التي تتبنى الخطاب الشعبوي والقومي فقد بدأ في تقويض سلطات الفواعل غير الدولية التي “استلبتها” من سلطة الدولة، فتراجع تأثير الشركات المتعددة الجنسيات التي خضعت لقوانين الدولة في الارغام بالعودة الى الاراضي الامريكية، فيما خضعت شركات وسائل التواصل الاجتماعي للمعايير الحكومية الامريكية بعيدا عن المعايير التي كانت تفرضها عليها شركات ادارة الاصول، والتي بدورها تراجع تأثيرها على الحكومة واضطرت للتخلي عن الاجندة التقدمية التي طالما فرضتها على الشركات والدول من خلال التصنيفات الائتمانية.
اما الافراد فقد تراجع دور العديد منهم ولم يعد لكلامهم او سلوكهم السياسي اي تاثير على سياسة الدولة، مثال ذلك (ايلون ماسك) الذي كان له دور سياسي كبير قبل الانتخابات في التدخل بالحروب الدولية مثل الحرب الاوكرانية او التصريح في قضايا عدة، مثل التدخل في الانتخابات الاوروبية، وهو ما تراجع بعد ان خرج من منصبه حيث خفف من وطأة تصريحاته السياسية.
اما الفواعل المسلحة غير الدولية مثل الجماعات الارهابية فقد تم معالجتها بطريقتين الاولى بضرب عناصر داعش والقاعدة والثانية بدمج بعضهم في انظمة اسلامية كما في سوريا وافغانستان، حيث مارست دول مثل اقليمية ادوار ضاغطة على هذه الجماعات لتتحول لدور الدولة اي ان الفواعل المسلحة غير الدولية من نوع الجماعات الارهـ ـابـ ـية تحولت من كونها فواعل غير دولية الى جزء من بنية “الدولة”.
بالمقابل تضغط ادارة ترامب على الفواعل المسلحة غير الدولية وغير الارهابية مثل فصائل محور المقاومة لنزع سلاحها وتسليمه الى دولها او الى سلطاتها كما في حالة حماس، بهدف تصفية كافة اشكال الفواعل غير الدولية، بل تعمل ادارة ترامب اكثر من ذلك بتجاهل اقاليم الحكم الذاتي المطالبة بالانفصال والحليفة للولايات المتحدة، ويظهر ذلك جلياً من خلال ضغط واشنطن على جماعة قسد للانضمام الى حكومة دمشق الجديدة، كما ان تصريح توم باراك مبعوث الرئيس الامريكي خلال لقاءه مع قناة روداو الكردية العراقية يوضح الكثير عن سياسة واشنطن حتى تجاه اقليم كردستان العراق عندما اكد على عراقية هذا الاقليم، ما يعني ان واشنطن ترفض حتى محاولات اقليم كردستان بالتفكير بالانفصال وتصر على عائديته للدولة العراقية، وقد تزامن ذلك مع نجاح الدولة في تركيا على ارغام حزب العمال الكردستاني على الاستسلام والقاء سلاحه والشروع بمسار السلام بعد عقود من الصراع مع انقرة ما يعني ان حركات الانفصال الكردية في المنطقة تواجه تحديا وجوديا في ظل سياسة تصفية الفواعل غير الدولية في المنطقة والنظام الدولي، ما يستدعي منها التفكير بالحفاظ على مكتسباتها السياسية والعمل ضمن هذا الاطار تجنبا لنتائج واضرار غير محسوبة.
في الختام ان التحولات الدولية الراهنة تشي بأن الليفياثان بدأ يستيقظ من سباته كاسراً القيود التي كُبل بها لعقود. لكنه قد لا يعود بنمطه “الويستفالي” الكلاسيكي القديم بل بنمط جديد، دولة لا تتقيد بحدود جغرافية جامدة بقدر ما تتحدد بمجال نفوذها الحيوي، مستخدمةً مزيج من القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية لفرض سيادتها معلنة نهاية عصر الفواعل الهجينة وعودة احتكار الدولة للقوة والقرار.



