الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف

جيوبوليتيك السكان: دول تبحث عن بشر لا عن حدود

بقلم: حنين محمد الوحيلي

باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

 

لم يعد العالم اليوم منشغلاً بسباق النفط أو التكنولوجيا وحدهما بل بسباق أعمق وأخطر: سباق على البشر. ففي الوقت الذي تتقدم فيه الدول الكبرى في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والاكتشافات العلمية، تواجه أزمة أشد بدائية من كل تلك المنجزات الحديثة، أزمة تتعلق بأبسط عناصر بقاء الدولة: الإنسان. إن الظاهرة الديموغرافية التي تشهدها الدول المتقدمة لم تعد مسألة اجتماعية هامشية بل تحولت إلى ركيزة من ركائز الجيوبوليتيك الحديث بعدما أصبح التراجع السكاني عاملاً قادراً على تهديد مستقبل الدول مهما بلغت قوتها الاقتصادية والعلمية.

إن التحولات الديموغرافية في العقود الأخيرة كشفت حدود النموذج الذي اعتمدت عليه الدول الصناعية: اقتصاد قوي، مؤسسات راسخة، رفاه اجتماعي، وتكنولوجيا متطورة. لكن هذه المقومات مهما بلغت تظل عاجزة عن تعويض الانكماش البشري حين يصبح هيكلياً لا ظرفياً. فالغرب اليوم يشيخ والشرق الآسيوي ينكمش وأوروبا تفقد توازنها السكاني بينما تتجه قوى دولية كبرى نحو مستقبل يقلّ فيه عدد من يعمل، ومن يبتكر، ومن يخدم في الجيش، ومن يستهلك، ومن يواصل حمل مشروع الدولة.

ومع أن جذور الأزمة تبدو اجتماعية في ظاهرها تغيّر أنماط الزواج، ارتفاع تكاليف المعيشة، الفردانية إلا أن جوهرها سياسي. فحين تتقلّص القوة العاملة تنكمش القاعدة الاقتصادية وحين يتسع الفارق بين العاملين والمتقاعدين يتصدع نظام الرفاه الاجتماعي وحين ينخفض عدد الشباب تتراجع ديناميكية الابتكار والبحث العلمي. هذه ليست مجرد تحولات سكانية بل تحولات تمس بنية القوة الدولية لأن الدولة التي تفقد سكانها تفقد قدرتها على البقاء في موقعها.

وتبرز اليابان مثالاً دقيقاً لهذه المفارقة دولة متقدمة ومنظمة ذات تكنولوجيا فائقة، لكنها تواجه أحد أخطر الانهيارات السكانية في العالم. فقد وصف رئيس الوزراء السابق “فوميو كيشيدا” الأزمة الديموغرافية بأنها “تهديد وجودي لليابان” مؤكداً أن البلاد “في سباق مع الزمن”. ومع أن اليابان خصصت ميزانيات ضخمة لدعم الأسرة والأطفال فإن معدلات الخصوبة ظلت تتراجع وارتفع متوسط العمر بشكل جعل المجتمع الياباني واحداً من الأكبر سناً عالمياً. وانعكست الأزمة على البنية الاجتماعية ليس فقط عبر تقلص القوة العاملة بل عبر ظواهر قاسية مثل “كودوكوشي”، موت الأفراد وحيدين دون أن يشعر بهم أحد في مؤشر على التآكل العميق للنسيج الاجتماعي.

أما روسيا فتواجه أزمة مختلفة في أسبابها لكنها مماثلة في نتائجها. فقد صرح الرئيس “فلاديمير بوتين” بأن “الحفاظ على الشعب الروسي مهمة تاريخية” في إشارة إلى أن التراجع الديموغرافي يشكل تهديداً للأمن القومي ذاته. فالحرب والهجرة وتراجع معدلات الولادة وتدهور المؤشرات الصحية عوامل تضغط على القدرة العسكرية والاقتصادية للدولة، وتحدّ من قدرتها على الحفاظ على نطاق نفوذها التقليدي. إن روسيا دولة واسعة تحتاج إلى كتلة بشرية ضخمة لإدارتها وحمايتها وتشغيل اقتصادها ومع ذلك تتقلص هذه الكتلة بوتيرة مقلقة، ما يجعل طموحاتها الجيوسياسية مكلفة وغير قابلة للاستدامة على المدى الطويل.

وفي أوروبا الغربية تبدو الصورة أكثر اتساعاً إذ تصف المفوضية الأوروبية في تقريرها لعام 2023 التراجع السكاني بأنه “تحدٍّ استراتيجي طويل الأجل يهدد النموذج الأوروبي”. فإيطاليا تواجه أدنى معدل خصوبة في تاريخها، وألمانيا تعتمد بشكل متزايد على الهجرة لسد فجوات سوق العمل، بينما تعاني إسبانيا من خلل اقتصادي ناتج عن شيخوخة سريعة وغير قابلة للعكس. وبينما تسعى هذه الدول إلى إطلاق حزم مالية سخية للأسر وتحسين ظروف العمل إلا أن المؤشرات لا تزال تشير إلى أن مجتمعات أوروبا تتجه نحو مزيد من الشيخوخة والانكماش، ما سيؤثر بالضرورة على موازين القوة الغربية.

أما كوريا الجنوبية والتي سجلت أقل معدل خصوبة عالمي، فقد أصبحت نموذجاً دراماتيكياً لانهيار السكان فبينما تعيش في طليعة التطور التكنولوجي العالمي تواجه مستقبلاً يقترب فيه عدد المدارس من الإغلاق وتنهار فيه أسواق الإسكان، وتُثار فيه المخاوف بشأن قدرة الاقتصاد على الصمود خلال العقود المقبلة.

إن التدابير الحكومية في الدول المتقدمة تكشف حجم الأزمة. فهذه الدول بدأت بتقديم حوافز مالية للأسر، ومنح ضريبية، ودعم رعاية الأطفال، وإجازات مدفوعة، وإصلاحات في سياسات السكن. كما لجأت إلى الهجرة الانتقائية لجذب العمالة الماهرة وإلى إعادة تنظيم سوق العمل بل وإلى التفكير في نماذج تعتمد على الذكاء الاصطناعي لسد الفجوات. ومع ذلك فإن هذه الإجراءات لا تزال محدودة الأثر لأنها تعالج السطح بينما تبقى الجذور الاجتماعية والثقافية للمشكلة عميقة: الفردانية، تأخر الزواج، ارتفاع تكاليف الحياة، وتغيّر معنى الأسرة في المجتمع الحديث.

إن استشراف مستقبل الدول المتقدمة في ظل هذا الانحدار يكشف تحوّلاً جذرياً في بنية النظام الدولي. فالدول التي تحتفظ بقاعدة بشرية شابة ستكون أكثر قدرة على الحفاظ على اقتصاد ديناميكي، وجيش قادر على الخدمة، وسوق داخلية متنامية. بينما الدول التي تنكمش ستواجه مشكلات متراكمة: نقص العمالة، نقص التجنيد، ارتفاع تكاليف الرعاية، تباطؤ الابتكار، وضعف القدرة على المبادرة السياسية. بل قد تضطر بعض الدول إلى إعادة تعريف مفهوم السيادة عبر الانفتاح على الهجرة أو استبدال جزء من وظائفها البشرية بأنظمة الذكاء الاصطناعي أو حتى إعادة النظر في حدودها الجيوسياسية.

وهكذا يظهر مفهوم “جيوبوليتيك السكان” بوصفه إطاراً جديداً لتحليل القوة في القرن الحادي والعشرين فلم يعد التفوق قائماً على امتلاك الأرض أو التكنولوجيا فقط بل على امتلاك القدرة البشرية على تشغيل الدولة وتحمّل مشروعها. فالدولة التي تتراجع ديموغرافياً تصبح أكثر هشاشة أمام الضغوط الاقتصادية والسياسية وأكثر اعتماداً على الخارج وأقل قدرة على المنافسة مهما بلغت ثروتها.

وفي مقابل هذا المشهد يبرز العالم العربي بصورة مغايرة فالتماسك الأسري، والدور القيمي للدين، والبنية الاجتماعية الجماعية، عوامل منحت المجتمعات العربية قدرة على تجنب مسار الشيخوخة المتسارع الذي ابتلع العديد من الدول المتقدمة. وهذه ميزة استراتيجية نادرة إذا ما أحسن توظيفها يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة اقتصادية وديموغرافية وجيوسياسية في عالم يتجه نحو “نُدرة الإنسان”.

إن أزمة التراجع الديموغرافي ليست أزمة حياة خاصة بل أزمة دولة ونظام دولي كامل. وما بين اليابان التي تكافح للحفاظ على مجتمعها وروسيا التي ترى في السكان جزءاً من أمنها القومي وأوروبا التي تعتمد على الهجرة لتعويض ضعفها، تتشكل ملامح عالم جديد يقوم على معادلة واضحة: الدول التي تحافظ على سكانها تحافظ على قوتها، والدول التي تفقدهم تفقد مكانها في النظام الدولي. وفي هذا السياق تبدو “جيوبوليتيك السكان” مفتاحاً لفهم طبيعة القوة في العقود القادمة إذ ستتحدد مكانة الدول ليس بما تملكه من تكنولوجيا أو اقتصاد بل بمن يظل قادراً على حمل مشروعها الوطني إلى المستقبل.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى