الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
الهند ودول الخليج شراكة مرشحة لتغيير مسارات التجارة العالمية

بقلم: فيفيك أغاروال وألكسندر جورج
ترجمة: صفا مهدي عسكر
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
في سياق دولي يتّجه نحو تعددية قطبية متسارعة ولم تعد الهند ودول الخليج مجرد شركاء في التجارة بل غدت كلٌّ منهما فاعلاً استراتيجياً يمتلك رؤيته ومجال تأثيره، وتعمل الدولتان اليوم على ترسيخ نموذج تعاوني يقوم على الاستقلالية والشفافية والمنفعة المتبادلة، بعيداً عن أنماط الارتهان أو الضغوط التي ارتبطت تاريخياً بالقوى الكبرى.
برزت ملامح هذا التحول خلال منتدى الاستثمار في (الشرق الأوسط) الذي استضافته الشارقة مؤخراً حيث عُرضت مؤشرات متقدمة على تنامي الروابط الاقتصادية بين الجانبين، فمع تقلص القدرة التنافسية للصادرات الهندية نتيجة الرسوم الجمركية التي فرضتها الإدارة الأميركية إبان رئاسة دونالد ترامب اتجهت الشركات الهندية بشكل متزايد إلى دولة الإمارات بوصفها بوابة للنفاذ إلى السوق الأميركية، الأمر الذي عزّز التعاون العابر للأقاليم ورفع سقف الشراكة الاقتصادية.
وقد تطورت العلاقة التي كانت تقوم أساساً على معادلة “النفط مقابل العمالة” إلى شراكة واسعة النطاق تشمل التكنولوجيا والتمويل والأمن، فأصبحت الهند ودول الخليج في موقع قيادة لإعادة هيكلة الجغرافيا الاقتصادية العالمية وإعادة رسم خريطة التدفقات التجارية. وترتبط الهند والخليج بعلاقات ضاربة في التاريخ إذ شكّلت القوافل والسفن التجارية المحمّلة بالتوابل والمنسوجات عبر قرون طويلة ركائز التفاعل الحضاري والاقتصادي بينهما، فضلاً عن خضوع أجزاء واسعة من الخليج للإدارة البريطانية من نيودلهي خلال الحقبة الاستعمارية، وبعد استقلال الهند اتخذت العلاقة طابعاً تبادلياً مباشراً تمحور حول النفط والعمالة قبل أن تستعيد في العقد الأخير بعدها الاستراتيجي ويتم إعادة تصورها بما يتواءم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين. ومع منتصف العقد الثاني من الألفية برز تقارب واضح في الأولويات التنموية والاستراتيجية، ففي عام 2015 جاءت زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى الإمارات – وهي الأولى منذ 34 عاماً – في وقت كانت فيه عواصم الخليج تتجه نحو سياسات تنويع اقتصادي يقودها طموح تقليل الاعتماد على النفط، تحت قيادة شخصيات مثل الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
جاء هذا التقارب نتيجة تحولات داخلية لدى الطرفين فدول الخليج أدركت مخاطر الاعتماد الأحادي على الوقود الأحفوري وبدأت الاستثمار في الطاقة المتجددة والتقنيات المتقدمة والسياحة، في حين كانت الهند في طور تسريع عملية التصنيع والتحول الرقمي مما جعلها بحاجة إلى شراكات استثمارية ذات قدرة مالية ورؤية مستقبلية، وهكذا تشكلت معادلة تبادلية جديدة الهند تبحث عن رأس المال والخبرة والخليج بحاجة إلى أسواق واسعة ومسارات نمو بعيدة المدى.

أثمر هذا التقارب تأسيس شراكات عابرة للحدود مثل منظومة I2U2 التي تضم الهند والإمارات والولايات المتحدة و(إسرائيل)** إضافة إلى حضور متصاعد لقادة الخليج في المناسبات الوطنية الهندية، وعلى مستوى المؤشرات الاقتصادية بلغ حجم التجارة بين الهند والإمارات نحو 100 مليار دولار خلال العام الجاري، فيما تجاوزت قيمة التجارة بين الهند والسعودية 43 مليار دولار في 2023-2024. ولا يقل أهمية عن حجم التبادل الاقتصادي اتجاه تدفقات الاستثمار، إذ ضخت صناديق سيادية مثل “مبادلة” الإماراتية و”صندوق الاستثمارات العامة” السعودي استثمارات كبرى في البنى التحتية والشركات التكنولوجية والطاقة النظيفة في الهند، وتمثل هذه الاستثمارات رهانات استراتيجية ممتدة وليست اتفاقات تجارية ظرفية.
في ضوء هذا الزخم يتجه المحور الهندي–الخليجي نحو أدوار أوسع على المستوى الدولي، لا سيما عبر مشروع الممر الاقتصادي الهندي “الشرق الأوسط” أوروبا الذي يستهدف إعادة تشكيل مسارات التجارة العالمية بربط الموانئ الهندية بالبحر المتوسط مروراً بشبكة سكك خليجية حديثة، بما يعزز مرونة سلاسل الإمداد ويكمل الدور القائم لقناة السويس.
ويمكن النظر إلى هذا المشروع بوصفه امتداداً حديثاً لطرق التوابل التاريخية، وإن باتت السلع اليوم تكنولوجيا واتصالات لا بضائع تقليدية وأصبحت الكابلات البحرية والمدفوعات الرقمية بديلاً للقوافل القديمة، فقد بدأت منظومة المدفوعات الرقمية UPI الهندية في التوسع خارج الحدود فيما تؤسس مشاريع الطاقة الخضراء وخطوط الكهرباء البحرية لبيئة اقتصادية رقمية مشتركة. كما اتسعت الشراكة باتجاه إفريقيا حيث تعهدت الإمارات باستثمارات تتجاوز 100 مليار دولار في القارة، وأعلنت السعودية برامج تنمية بقيمة 41 مليار دولار فيما تقدّم الهند خبرة طويلة في العمل الإنمائي وشبكات انتشار بشري واسعة تعزز الحضور الدبلوماسي والاقتصادي للمحور الجديد. ويُعد نموذج المشاريع الثلاثية التي تجمع تمويلًا إماراتياً بتنفيذ شركات هندية في إفريقيا نموذجاً بديلاً عن مشاريع القوى الكبرى التي كثيراً ما ترتب أعباء ديون وشروط سياسية، وهذا ما يجعل التحالف الهندي–الخليجي خياراً جاذباً للدول المتوسطة الباحثة عن تمويل دون تبعية، وتكنولوجيا دون اشتراطات سياسية وشراكات أمنية لا تنتهك السيادة. كما تكشف التجربة عن قدرة التكنولوجيا الرقمية على دعم التنمية إذ يوفر الجمع بين البنية الرقمية الهندية منخفضة التكلفة ورأس المال الخليجي فرصة لبناء بنى تحتية رقمية شاملة ومشاريع اقتصادية خضراء ذات أثر وظيفي وتنموي، غير أن هذه الشراكة لا يمكن اعتبارها نسخة جديدة من سياسة “عدم الانحياز”، بل هي أقرب إلى نموذج تعدّد الاصطفاف القائم على المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة واستقلال القرار.
ورغم التحديات المحتملة – كتباينات المواقف الإقليمية والضغوط الاقتصادية العالمية والتغيرات السياسية – فإن الهند ودول الخليج تبدوان أكثر استعداداً لصياغة دور مستقل داخل النسق الدولي الصاعد، وإذا استمرت هذه الشراكة في ترسيخ نفسها فقد لا تشكل نجاحاً ثنائياً فحسب بل قد تصبح أحد مراكز الثقل الجيو–اقتصادية الجديدة في عالم متعدد الأقطاب، وجاذباً لنماذج اقتصادات ناشئة تبحث عن التكنولوجيا المفتوحة والتجارة المرنة والتنمية المستدامة دون الارتهان للقوى العظمى.
* Vivek Agarwal and Alexander George, India and the Gulf States Could Reshape Global Trade, project-syndicate, Dec 5, 2025.
** لمقتضيات الأمانة العلمية، وضرورات الترجمة الدقيقة، تم الإبقاء على كلمة (إسرائيل)، وهو لا يعني اعتراف المركز بها، وما هو مكتوب يمثل راي وأفكار المؤلف.
الهند ودول الخليج



