الاكثر قراءةترجماتغير مصنف
الهند في زمن ترامب.. كيف أعادت سياسات واشنطن توجيه مسار نيودلهي؟

بقلم: جيمس كربتري ورودرا شودهوري
ترجمة: صفا مهدي
تحرير: د. عمار عباس الشاهين
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
خلال العقد الماضي اقتربت الهند تدريجياً من الولايات المتحدة مبدية استعدادها لتنسيق سياساتها مع واشنطن في الوقت الذي تواصل فيه تجنب الدخول في تحالفات رسمية، وقد أثمرت هذه الاستراتيجية عن نتائج ملموسة شملت جذب الاستثمارات الأميركية وتعزيز التعاون الدفاعي والتبادل التكنولوجي إلى جانب تعزيز الثقة في أن الصداقة بين أكبر ديمقراطيتين في العالم ستزداد قوة مع الوقت، ولم يكن صانعو القرار في نيودلهي قلقين كثيراً مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض إذ افترضوا أن واشنطن ما زالت تولي شراكتها مع الهند أهمية وأن الروابط ستواصل النمو لا سيما في ضوء الكيمياء الظاهرة بين ترامب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأميركي.
غير أنّ الهند باتت الآن مضطرة لإعادة تقييم رهانها الأميركي، فمنذ صيف هذا العام ابتعد ترامب عن سياسات الإدارات الأميركية السابقة وسعى لممارسة ضغوط على نيودلهي حيث رفع التعريفات الجمركية على الواردات الهندية إلى 50% في اب بحجة عقوبة على استمرار الهند في شراء النفط الروسي، كما أبرم ترامب سلسلة من الاتفاقيات مع باكستان الجارة والمنافسة للهند مما أثار استياء المسؤولين الهنود، وفي استجابة واضحة حضر مودي قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين في ايلول 2025 حيث التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ ما أعطى الانطباع بأن الهند قد تميل نحو المنافسين الأميركيين ويأتي زيارة بوتين المرتقبة إلى نيودلهي هذا الأسبوع لتعيد التأكيد على هذا الانطباع المحتمل.
لكن هذه الإشارات لا تعني كما يقترح بعض المراقبين أن الهند تخلت عن استراتيجيتها الخارجية الأخيرة لصالح نهج مختلف كلياً، فالمسار الذي يبدو أن الهند تتبناه – وينبغي أن تتبناه – هو ما يصفه صانعو السياسات الخارجية غالباً بـ “التعددية المحسوبة في الانحياز”، أي الانخراط مع عدة دول في الوقت نفسه حتى لو كانت مصالح هذه الدول متعارضة أحياناً، بما يعزز مصالح الهند الاستراتيجية.
وعلى الرغم من التوترات التي شهدها هذا العام ستظل الولايات المتحدة الشريك الأهم للهند وإن كان شريكاً أكثر تقلباً ويثير بعض المشاكل أحياناً، كما ستواصل نيودلهي تعزيز علاقاتها مع قوى متوسطة اقتصادية وتقنية مثل أستراليا واليابان وسنغافورة ودول الخليج، لكن المجال الذي قد تحقق فيه الهند أكبر مكاسب على الصعيد الخارجي هو أوروبا، فرغم أنّها ليست بديلاً مباشراً للولايات المتحدة فإن أوروبا تمثل شريكاً موثوقاً يتمتع بقدرات تكنولوجية قوية ويشارك الهند القلق من ضغوط الصين إضافة إلى اتباعها سياسة خارجية أكثر استقراراً مقارنة بالمتغيرات التي تشهدها واشنطن حالياً. ومن خلال تبني نهج متعدد الانحياز مجدداً بهذا الشكل، يمكن لنيودلهي الموازنة بين تقلبات السياسة الأميركية والتهديدات الصينية، مع الحفاظ على الاستقلالية الاستراتيجية التي لطالما شكّلت جوهر عقيدة سياستها الخارجية.
كيف تكون الهند متعددة الانحيازات
أبرز رد فعل للهند على الضغوط الأميركية ظهر خلال الصيف الماضي عندما زار مودي الصين، فقد شكلت صور رئيس الوزراء الهندي إلى جانب شي جين بينغ وبوتين رسالة قوية تعكس رغبة نيودلهي في إعادة ضبط علاقاتها مع الصين على وجه الخصوص، ورأى بعض المراقبين الغربيين أن دعوة مودي للرئيس الروسي بوتين إلى نيودلهي في كانون الاول دليلاً على ميل الهند نحو خصوم الولايات المتحدة، إلا أن هذا التفسير يغفل حقيقة النوايا الهندية فمع تدهور العلاقات مع واشنطن كانت نيودلهي تسعى في الواقع إلى إدارة الوضع الصعب والمراوغة وليس التخلي عن الاستراتيجية الأساسية التي دفعتها للتقارب مع الولايات المتحدة في البداية.
كانت زيارة مودي إلى الصين مخططة قبل عدة أشهر ولم تكن رد فعل مباشر على التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب بل كانت تهدف إلى إصلاح العلاقات المتوترة مع بكين بعد عام من الاستقرار النسبي على الحدود المتنازع عليها بين البلدين، ما أرادت الهند تحقيقه كان إعادة بناء علاقات متضررة بعناية وليس إطلاق مرحلة جديدة من التحالف الصيني – الهندي، وقد رفض مودي بشكل واضح حضور العرض العسكري الذي دعا إليه شي بحضور زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، ومن هذا المنطلق تسير الهند مع الصين على خط شبيه بما تقوم به دول أخرى الآن بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض “إدارة الخلافات وتجنب الأزمات مع الصين مع السعي في الوقت نفسه إلى استقرار العلاقات مع الولايات المتحدة”.

ولا ينبغي المبالغة في أهمية زيارة بوتين المرتقبة إلى نيودلهي في الأسابيع المقبلة، فموسكو تظل شريكاً مهماً إذ تعتمد الهند على روسيا في تزويدها بالأسلحة والمعدات العسكرية وسيستمر هذا الاعتماد لبعض الوقت كما أن الهند لا تسرع في دفع روسيا بعيداً خوفاً من تقاربها المتزايد مع بكين، ومع ذلك فإن حدود هذا الشراكة واضحة فشراء الهند للغواصات الألمانية في آب يعكس سعيها لتنويع مصادر التسلح وقد خفضت تدريجياً اعتمادها على المعدات الدفاعية الروسية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، روسيا تقدم للهند القليل فيما يخص رأس المال الاستثماري أو التكنولوجيا المتقدمة وهما مجالان حاسمان لتحقيق الطموحات التنموية على المدى الطويل، يدرك صانعو القرار في نيودلهي التاريخ الطويل للعلاقات مع موسكو لكنهم يعرفون أن إمكانيات النمو محدودة وأن مستقبل الهند يكمن في أماكن أخرى.
من وجهة نظر الهند سيكون مستقبلها دائماً متعدد الانحيازات وهو توجه يعكس فهمها العميق للسياق الاستراتيجي الذي تعمل فيه، فالصين تظل التحدي الأساسي للهند وروسيا تصبح أداة تقل أهميتها مع الوقت وتحتاج الهند إلى الاستثمارات الاقتصادية والتكنولوجيا المتقدمة لتعزيز النمو وإلى قدرات عسكرية محسنة للدفاع عن نفسها في بيئة إقليمية معقدة، وقد نتج عن هذه الاحتياجات ميل الهند نحو الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين وكذلك توطيد العلاقات مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية بالإضافة إلى عدد من دول (الشرق الأوسط) وأوروبا، ولن تمحو حملة الضغوط الأخيرة التي قادها ترامب هذه الأولويات الاستراتيجية. ومع ذلك يواجه صانعو السياسة في نيودلهي معضلة مماثلة لتلك التي تواجه شركاء وحلفاء أميركيين آخرين في عهد ترامب وهي كيفية تعويض ما لم تعد الولايات المتحدة على الأرجح توفره، على الهند إيجاد مصادر بديلة للتكنولوجيا والتعاون الدفاعي والشراكات الاقتصادية، مع إدارة علاقاتها المعقدة مع بكين وموسكو في الوقت نفسه.
وينبغي أن تكون مسارات العلاقات الهندية مع الصين وروسيا واضحة حيث يمكن حدوث تحسن محدود في العلاقات مع بكين لكنه سيظل مقيداً بسبب الحقائق الهيكلية للنزاع الإقليمي بين البلدين، فقد تفكر الهند في رفع بعض القيود على وصول الشركات الصينية إلى سوقها المحلي التي فُرضت بعد النزاعات الحدودية في 2020 أو رفع الحظر عن تطبيق تيك توك كإشارة حسن نية، لكن المخاطر التي تشكلها الصين على الهند تظل حقيقية بما في ذلك النزاع الحدودي المستمر واستغلال الصين لسلاسل التوريد الحيوية. وستسعى الهند لإقامة علاقة مستقرة مع الصين دون وهم الشراكة العميقة، كما ترغب في الحفاظ على روابط قوية مع روسيا لضمان استمرار الوصول إلى قطع غيار المعدات العسكرية الروسية ومنع موسكو من الوقوع في تبعية شبه كاملة لبكين.
أما إدارة العلاقات مع واشنطن فهي أكثر تعقيداً فالولايات المتحدة ستظل على الأرجح الشريك الأهم للهند في التكنولوجيا والاستثمار بغض النظر عن الاضطرابات الحالية، ولا تزال الدولتان تتعاونان في مجالات حيوية مثل مكتب التكنولوجيا الناشئة والحاسمة الأميركي الجديد الذي يعمل مع الجهات الهندية على تبسيط شراكات البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، كما أن وادي السيليكون يبدي اهتماماً كبيراً بالهند وقدمت واشنطن لنيودلهي قائمة بالتعديلات التنظيمية لدعم استثمارات شركات التقنية الأميركية في مراكز البيانات الهندية، وزار الرئيس التنفيذي لشركة (Anthropic) داريو أمودي نيودلهي وبنغالور في تشرين الاول تمهيداً لفتح فرع للشركة في الهند فيما ستشارك جميع شركات التكنولوجيا الكبرى الأميركية في قمة الذكاء الاصطناعي المقررة في شباط برعاية مودي.
من جانبها تسعى شركات الأدوية الهندية للاستثمار في الولايات المتحدة رغم التهديدات بالتعريفات الجمركية في محاولة لتقليل اعتمادها على الموردين الصينيين، كما بدأت الشركات الهندية خفض واردات النفط الروسي بعد العقوبات الأميركية على شركتين روسيتين كبيرتين في نهاية تشرين الأول، وخلال هذا التوتر تمنى ترامب لمودي عيد ميلاد سعيد في ايلول ولا يزال يشيد به باعتباره “رجل عظيم وصلب للغاية” ومن المتوقع أن يُستكمل الجزء الأول من اتفاقية تجارية بين الهند والولايات المتحدة بحلول نهاية العام أو مطلع العام المقبل.
ومع ذلك ستظل نيودلهي حذرة تجاه الولايات المتحدة بعد الاضطرابات الأخيرة، فهي قلقة الآن بشأن موثوقية الشريك الأميركي وهو قلق مفهوم ومضطربة أيضاً من التقارب الجديد لإدارة ترامب مع باكستان التي تراها واشنطن شريكاً متزايد الأهمية، إذ يمكن أن ترسل قوات حفظ سلام إلى غزة أو تسهّل اتفاقيات المعادن الحيوية في آسيا الوسطى، وقد أشاد ترامب عدة مرات بالقيادات العسكرية والمدنية الباكستانية واستقبلهم في البيت الأبيض خلال هذا العام وكل هذه التحركات لا تخدم تعزيز العلاقات الهندية – الأميركية.
نداء أوروبا
في هذا الإطار يصبح التوجه نحو أوروبا خياراً استراتيجياً منطقياً، لعقود طويلة لم ترتقِ العلاقات بين الهند وأوروبا إلى مستوى إمكاناتها لا سيما مقارنة بالتقدم الذي أحرزته نيودلهي في التقارب مع الولايات المتحدة، تُعد أوروبا واحدة من أكبر الشركاء التجاريين للهند ويجذب حجم الاقتصاد الهندي وازدياد الطبقة الاستهلاكية فيها الدول الأوروبية إلى تعزيز الروابط الاقتصادية. ومن هذا المنطلق وافق مجلس الاتحاد الأوروبي في تشرين الاول على “أجندة استراتيجية جديدة بين الاتحاد الأوروبي والهند”، بهدف تعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا والاستثمار، وتظل كل من الهند والاتحاد الأوروبي ملتزمتين بالعمل المناخي رغم اختلافهما أحياناً بشأن أهداف الانبعاثات، وقد حافظت الهند على علاقات وثيقة مع فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة لكنها كانت حتى وقت قريب تتفاعل بشكل محدود مع دول أوروبية أخرى مهمة مثل ألمانيا ومع الاتحاد الأوروبي كمؤسسة أوسع.

غير أن هذا الوضع يشهد تحولات جادة، فقد أسفرت الزيارات رفيعة المستوى إلى أوروبا سواء من رئيس الوزراء مودي أو وزير الخارجية سوبراهمنيام جايشانكار عن تأسيس مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الهند والاتحاد الأوروبي الذي يهدف إلى تقريب وجهات النظر وتعزيز التعاون بين الجانبين، كما زارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين نيودلهي برفقة جميع المفوضين الأوروبيين في خطوة غير مسبوقة تهدف إلى تعزيز التعاون عبر قطاعات متعددة.
على الرغم من أن موقف الهند من الحرب في أوكرانيا – رفضها إدانة روسيا واستمرارها في شراء النفط الروسي أضر بعلاقاتها مع بعض الدول الأوروبية، فإن اليقظة الاستراتيجية لأوروبا منذ عام 2022 والتعزيز العسكري الكبير عقب الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا جعلها شريكاً أكثر مصداقية في نظر الهند لا سيما في مجالات الأمن، سواء من خلال مبيعات الأسلحة أو في القطاعات الناشئة مثل الفضاء والأمن السيبراني. كما يشارك المسؤولون الهنود والأوروبيون القلق بشأن الصين، فالاتحاد الأوروبي يرى في ممارسات التجارة الصينية بما فيها الدعم الحكومي الضخم ونقل التكنولوجيا القسري والإنتاج المفرط تهديداً وجودياً لقاعدته الصناعية، وتخشى الهند ليس فقط من النزاعات الحدودية غير المحلولة والمنافسة الاستراتيجية في جنوب آسيا بل أيضاً من اعتمادها الاقتصادي المفرط على الصين في مجالات التصنيع والمعادن النادرة والتكنولوجيا الخضراء وقطاعات حيوية أخرى – وهي المجالات نفسها التي تشكل أولوية في بروكسل، وتعد التعاون التكنولوجي لا سيما في الذكاء الاصطناعي فرصة كبيرة للتقارب بين الهند وأوروبا.
تتمتع أوروبا بخبرات متقدمة في مجالات حيوية أخرى يمكن للهند الاستفادة منها، فالهند وأوروبا يمكن أن يتعاونا في مشاريع الطاقة المتجددة والحوسبة الكمومية وهي مجالات يندر التعاون الأميركي – الهندي فيها، كما تخطط المختبرات الأوروبية والمراكز الهندية للشركات الناشئة لإنشاء ممر بيولوجي وتقني حيوي يسهل الاستثمار والتصنيع المشترك، ويشكل مجلس التجارة والتكنولوجيا رغم بدايته البطيئة إطاراً مؤسسياً لتعزيز التعاون. ومع ذلك لا تزال هناك تحديات كبيرة، ففي ايلول اقترح الاتحاد الأوروبي أجندة جديدة لتعزيز العلاقات الثنائية مع الهند شملت توسيع التعاون في مجالات الدفاع والتكنولوجيا، وكاد إطلاق هذه الأجندة أن يتعطل بعد مشاركة الهند في تمرين عسكري مشترك مع روسيا وروسيا البيضاء مما يذكّر بالحساسيات الأوروبية المستمرة بشأن أوكرانيا، ومع ذلك من المتوقع أن يتم الانتهاء من اتفاقية تجارية جديدة قبل القمة المخطط لها في نيودلهي في كانون الثاني إلى جانب اتفاقيات إضافية حول التعاون الأمني والهجرة والطاقة حيث تهدف الأخيرة إلى الحد من اعتماد الهند على النفط والغاز الروسي، وتساهم هذه المناقشات في ترسيخ أساس اقتصادي لشراكة استراتيجية أوسع ومن المرجح أن يظل كل من مودي وفون دير لاين مضطرين للتدخل لحل العقبات وضمان إتمام هذه الاتفاقيات بنجاح.
السخرية المطلقة
تواجه كل من أوروبا والهند مآزق مشابهة يمكن أن تقرّب بينهما، فليس أي من الطرفين يشعر الآن بالقدرة على الاعتماد على الولايات المتحدة كما كان عليه الحال سابقاً، وتسعى كل من أوروبا والهند إلى إقامة شراكات جديدة لحماية نفسها من واشنطن الأكثر تقلباً، حتى قبل ستة أشهر فقط كان يبدو أن الهند ماضية نحو تقارب أكبر مع الولايات المتحدة جزئياً لمواجهة أي عدوان صيني محتمل، أما اليوم فإن حملة الضغوط التي قادها ترامب دفعت الهند إلى تبني تعدد الانحيازات مجدداً ليس بدافع قناعات أيديولوجية بل كضرورة عملية.
والسخرية المطلقة في نهج ترامب تكمن في أنه يُفضي بالضبط إلى النتيجة التي كان يسعى لتجنبها وهي هند متعددة الانحيازات، مستثمرة في شراكات متعددة، وأقل عرضة للضغوط الأميركية المباشرة.



