الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف

أزمة القوى البشرية في الجيش “الإسرائيلي”: تحليل لمسار التآكل البنيوي وتداعياته العسكرية

بقلم: ميار عادل كاسب

باحثة في شؤون “الشرق الأوسط” / مصر

 

تُعدّ القوى البشرية العمود الفقري لأي مؤسسة عسكرية حديثة، إذ ترتبط كفاءتها القتالية وفاعليتها العملياتية بقدرتها على استقطاب الكوادر المهنية والحفاظ عليها ضمن منظومة متماسكة من الضباط وضباط الصف والجنود. وفي هذا السياق، يواجه الجيش (الإسرائيلي) في السنوات الأخيرة أزمة متصاعدة في موارده البشرية، اتخذت أبعادًا بنيوية تتجاوز التقلبات الظرفية المرتبطة بالحروب أو التحديات الأمنية المباشرة. فقد كشفت بيانات رسمية وتقارير متطابقة عن تراجع حاد في رغبة الضباط والجنود في الاستمرار بالخدمة العسكرية المهنية، إلى جانب اتساع فجوة النقص في الرتب القيادية الوسطى، ما يشير إلى خلل عميق في القدرة على تجديد الكادر والمحافظة على الخبرات التشغيلية الحيوية.

وتتزامن هذه الأزمة مع ضغوط عملياتية غير مسبوقة ناجمة عن الحرب الممتدة في غزة والجبهات المتعددة، الأمر الذي يجعل آثار التآكل البنيوي في القوى البشرية أكثر خطورة. فالنقص في الضباط المهنيين لا يمثل مجرد فجوة عددية، بل يتصل مباشرة بضعف منظومات القيادة والسيطرة، وتراجع الجاهزية العملياتية، وتزايد الاعتماد على قوات الاحتياط إلى حدّ يهدّد تماسكها وفاعليتها. كما يكشف المسار العام للأزمة عن تداخل معقد بين العوامل العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل (إسرائيل)، بما يعكس هشاشة “العقد العسكري–الاجتماعي” الذي استند إليه الجيش منذ عقود.

وانطلاقًا من ذلك، يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية لمسار أزمة القوى البشرية في الجيش (الإسرائيلي)، من خلال تفكيك مظاهرها الإحصائية والعددية، واستعراض العوامل المحرّكة لها، وتقييم تأثيراتها المباشرة على جاهزية الجيش وطبيعة أدائه العملياتي، وصولًا إلى تحليل الجهود الرسمية المبذولة لاحتواء الأزمة وحدود فعاليتها. وتأتي هذه الدراسة في إطار تعزيز الفهم البنيوي لطبيعة التحديات التي تواجه المؤسسة العسكرية (الإسرائيلية) في المرحلة الراهنة، وبيان ما تحمله من تداعيات استراتيجية على مستقبل الأداء العسكري وعلى ميزان القوى الإقليمي.

 

أزمة الجيش "الإسرائيلي"
أزمة الجيش “الإسرائيلي”

 

أولًا: مظاهر الأزمة البنيوية في القوى البشرية

تُظهر البيانات المتاحة أنّ الجيش (الإسرائيلي) يواجه أزمة بنيوية واسعة في موارده البشرية، تتجلى في تناقص فعلي في عدد الجنود والضباط القادرين على الخدمة وفي تراجع الرغبة المهنية في البقاء داخل المؤسسة العسكرية. فوفق معطيات داخلية كشفتها تقارير في موقع “تايمز أوف (إسرائيل)”(([1]، تراجع اهتمام الضباط وضباط الصف بالاستمرار في الخدمة الدائمة بصورة حادّة خلال السنوات الأخيرة، ما يعكس تبدلًا جوهريًا في اتجاهات الكادر المهني الذي يشكّل الأساس التنظيمي والعملياتي للجيش. ويُعد هذا الانخفاض المتدرج إشارة مباشرة إلى تآكل طويل الأمد في القاعدة البشرية، يتجاوز نطاق التأثيرات الظرفية للحرب المستمرة.

وتكشف التقارير ذاتها عن نقص يُقدّر بنحو 12 ألف جندي في الخدمة الدائمة، بينهم ما يصل إلى سبعة آلاف في الوحدات القتالية، وهو ما يمثل فجوة كبيرة وغير مسبوقة في التشكيلات التي يفترض أن تنفّذ المهام الميدانية الأساسية. ويمتد هذا العجز ليشمل الهيكل القيادي، حيث تشير المعطيات إلى نقص يقارب 1,300 ضابط من رتبي الملازم والنقيب، إضافة إلى حوالي 300 ضابط في رتبة رائد(([2]، وهي رتب تمثل المستوى الوسيط المسؤول عن القيادة التكتيكية المباشرة وإدارة العمليات اليومية للوحدات. إن غياب هذه الطبقة القيادية من شأنه أن يُضعف قدرة الجيش على الحفاظ على تسلسل قيادي فعّال ومتواصل، ويؤثر في جودة اتخاذ القرار الميداني وتنفيذ المهام المعقدة.

وفي السياق ذاته، شهد الجيش موجة غير مسبوقة من طلبات التقاعد المبكر والاستقالات من الكادر الدائم، إذ تتحدث مصادر (إسرائيلية) عن نحو 600 جندي مهني تقدّموا بطلبات لإنهاء خدمتهم خلال فترة زمنية قصيرة(([3]. ويمثّل هذا الرقم مؤشرًا إضافيًا على عمق الأزمة، خصوصًا أنّه يأتي في مرحلة تتطلب تعزيز الكادر وليس تقليصه، بسبب تعدد الجبهات واتساع نطاق العمليات العسكرية. كما يرافق هذه الظاهرة تراجع في جودة الكوادر، إذ تشير تقييمات عسكرية إلى أنّ الجيش لم يعد يواجه نقصًا عدديًا فقط، بل أيضًا نقصًا في الخبرات القيادية والتخصصية التي تُعد ضرورية للحفاظ على التفوق العملياتي.

ومع تعمّق النقص في الكادر الدائم، لجأ الجيش إلى زيادة الاعتماد على قوات الاحتياط لتعويض الفجوة، ما أدى إلى خلق ضغط إضافي على منظومة الاحتياط نفسها(([4]. وتشير تقديرات إعلامية إلى استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط وتمديد خدمة آلاف آخرين(([5]، في ظل حاجة ملحّة لسد العجز المتنامي. وقد أسهم هذا الوضع في نشوء حالة من الإرهاق الجماعي داخل وحدات الاحتياط، إذ باتت تُستنزف في مهام طويلة ومتواصلة، الأمر الذي يهدد بتراجع فاعليتها في المدى القريب والمتوسط. ويذهب بعض المحللين (الإسرائيليين) إلى حد وصف هذه المشكلة بأنها “أخطر أزمة قوى بشرية في تاريخ الجيش”، نظرًا لتزامنها مع مرحلة من التحديات الأمنية الأشد تعقيدًا منذ عقود.

ويكشف مجموع هذه الأرقام والوقائع عن أزمة مركّبة في البنية البشرية للجيش )الإسرائيلي(، أزمة تتجاوز الاضطرابات المؤقتة، وتشير إلى مسار تآكل بنيوي مستمر في القدرة على جذب الجنود والضباط والاحتفاظ بهم، وفي الحفاظ على كادر مهني قادر على تسيير وحدات قتالية معقدة وعمليات ممتدة[6])). إنّ هذا التآكل يشكّل مدخلًا ضرورياً لفهم ما سيأتي في بقية التحليل المتعلق بأسباب الأزمة وتداعياتها وسياسات مواجهتها.

 

ثانيًا: العوامل المسببة للأزمة

تتشكل أزمة القوى البشرية في الجيش (الإسرائيلي) من تفاعل معقد بين عوامل عملياتية واقتصادية واجتماعية وسياسية، بحيث تجاوزت المشكلة حدود النقص العددي لتصل إلى خلل بنيوي واسع. ففي الجانب العملياتي، يُعد الإرهاق الميداني أبرز محفزات الأزمة، إذ أدّت الحرب الممتدة على أكثر من جبهة إلى استنزاف الضباط والجنود معًا([7])، مع ارتفاع وتيرة الاستدعاءات وطول فترات الخدمة، خصوصًا ضمن وحدات الاحتياط. وقد أسهم هذا الضغط في ظهور مستويات مرتفعة من الإنهاك النفسي والجسدي، الأمر الذي دفع العديد من العناصر إلى إعادة تقييم جدوى الاستمرار في الخدمة في ظل غياب مؤشرات على نهاية قريبة للعمليات([8]).

وفي موازاة ذلك، برزت العوامل الاقتصادية والمهنية، إذ تراجعت جاذبية الخدمة العسكرية مقارنة بفرص العمل المدنية التي توفر مداخيل أعلى واستقرارًا أكبر. ولم يواكب هيكل الرواتب في الجيش ارتفاع تكاليف المعيشة أو حجم المخاطر الميدانية، كما أدّى بطء الترقيات واتساع فجوات الاعتراف المؤسسي إلى تراجع الرضا الوظيفي، ما انعكس على الولاء بين الضباط وضباط الصف([9]).

من جهة أخرى، لعبت الاعتبارات الاجتماعية والديموغرافية دورًا إضافيًا في تعميق الأزمة، لا سيما الجدل حول تجنيد الحريديم([10]). فغياب هذه الشريحة الكبيرة عن الخدمة الإلزامية خلق خللًا في توزيع الأعباء وشعورًا باللاعدالة داخل المجموعات التي تتحمل العبء الأكبر. ورغم إنهاء الإعفاءات الجماعية بقرار قضائي عام 2024، فإن نسب التجنيد الفعلية بقيت محدودة، ما أدى إلى زيادة التوترات السياسية والمجتمعية المرتبطة بدور الجيش.

كما أسهمت العوامل السياسية([11])، وبشكل غير مباشر، في تفاقم الأزمة، فقد أدت الانقسامات الحادة حول سياسات الحكومة، وإدارة الحرب، ومشروع “إصلاح القضاء” إلى تراجع الثقة بالقيادة العسكرية، وظهور حالات إحجام بين بعض أفراد الاحتياط كأداة احتجاج سياسي.

 

وبذلك، يتبين أن أزمة القوى البشرية ليست نتاج عامل واحد، بل نتيجة تراكم متزامن لعوامل متعددة تفاعلت في ما بينها لتخلق بيئة طاردة للكادر العسكري وتقلص جاذبية الخدمة، بما يقوّض قدرة الجيش على تجديد موارده البشرية، ويجعل الأزمة مؤشرًا على خلل أعمق في منظومة الأمن والدفاع (الإسرائيلية).

 

ثالثًا: تداعيات الأزمة على جاهزية الجيش وطبيعة أدائه.

تفرض أزمة القوى البشرية نفسها بوصفها العامل الأكثر تأثيرًا في بنية الجاهزية العملياتية للجيش )الإسرائيلي(، إذ لم تعد المشكلة محصورة في فجوات عددية يمكن تعويضها بالتجنيد أو الاستدعاء، بل تحوّلت إلى أزمة بنيوية تمس قدرة المؤسسة العسكرية على تنفيذ مهامها الأساسية والحفاظ على مستوى ثابت من الفعالية. وتنعكس تداعيات هذه الأزمة في ثلاثة مستويات مترابطة: مستوى القيادة والسيطرة، ومستوى الأداء التكتيكي والعملياتي، ومستوى الردع الاستراتيجي.

فعلى مستوى القيادة والسيطرة، أدت الفجوة المتزايدة في رتب الضباط وضباط الصف إلى إضعاف قدرة الجيش على إدارة العمليات المعقدة التي تعتمد على التسلسل القيادي القصير والفعّال. فالرتب الوسطى التي تُعد محور القيادة التكتيكية – مثل الملازمين والنقباء – تمرّ بمرحلة نزيف مستمر، ما يؤدي إلى نقل مسؤوليات أكبر إلى ضباط أقل خبرة أو إلى تدوير الكوادر بوتيرة مرهقة([12]). هذا التآكل في العناصر القيادية يخلق حالة من عدم الاتساق داخل الوحدات ويؤثر في جودة اتخاذ القرار الميداني، ويقلّص القدرة على تنفيذ عمليات متزامنة تتطلب انسجامًا بين الأذرع الجوية والبرية والاستخبارية. وبذلك يصبح أداء الجيش عرضة للتذبذب تبعًا لتفاوت الخبرات داخل كل وحدة.

أما على المستوى التكتيكي والعملياتي، فإن الانخفاض في حجم القوة البشرية المتاحة يفرض قيودًا مباشرة على قدرة الوحدات على الانتشار والتعاقب العملياتي. فالوحدات التي تعمل بنقص يقترب في بعض الأحيان من ثلث قوامها تجد صعوبة في الحفاظ على نسق عملياتي مرتفع، سواء في المهام الهجومية التي تتطلب كثافة بشرية عالية، أو في المهام الدفاعية الممتدة التي تحتاج إلى تواجد ثابت في نقاط السيطرة. ويتجلى ذلك بشكل خاص في العمليات داخل غزة، حيث تتطلب حرب المدن جهدًا بشريًا كبيرًا([13])، وتحتاج إلى مهارات دقيقة في الاقتحام والسيطرة وجمع المعلومات، وهي مهارات لا يمكن تعويضها بالتكنولوجيا وحدها. وفي ضوء النقص القائم، يُضطر الجيش إلى الاعتماد على وحدات لم تكتمل دورات تدريبها، أو إلى تمديد خدمة وحدات تعمل منذ شهور في ظروف قتالية عالية الضغط، ما يزيد احتمالات الإرهاق والتراجع في الأداء.

وفيما يتعلق بقوات الاحتياط، فإن الاعتماد المفرط عليها بات يحمل آثارًا عكسية على الجاهزية. إذ إن استدعاء الاحتياط لفترات طويلة ومتقاربة خلق حالة من الإرهاق الاجتماعي والاقتصادي، دفعت بعضهم إلى رفض الخدمة أو التأخر في الالتحاق(([14]، وهو أمر غير مسبوق في منظومة كانت تعتبر الاحتياط فيها عمودًا استراتيجياً. هذا الإرهاق يجعل القدرة على تعبئة الاحتياط بشكل سريع وفعّال موضع شك، ولا سيما في حال توسّع رقعة المواجهات أو انتقال عملياتية الجيش إلى مسارح أخرى. كما أن كثرة الاستدعاءات تقلّل من فترات التدريب الضرورية للحفاظ على الجهوزية، ما يخلق فجوة بين القدرات النظرية والقدرات الفعلية في الميدان([15]).

ويمتد تأثير الأزمة إلى مستوى التدريب والمؤهلات المهنية داخل الجيش. فالنقص في القوى البشرية يجبر القيادة على تقليص عدد المناورات الكبرى والتمارين المشتركة، وهي أدوات رئيسية لتعزيز الجاهزية وبناء التفاعل بين الوحدات. كما يؤدي الضغط التشغيلي المستمر إلى توجيه الموارد والوقت نحو المهام المباشرة بدل التدريب، ما ينتج جيلًا من القوات التي تملك خبرة ميدانية، لكنها تفتقر إلى التدريب المتخصص والتكامل بين الأسلحة، وهي عناصر أساسية في الحروب الحديثة.

وعلى المستوى الاستراتيجي، تُلقي الأزمة بظلالها على صورة الردع التي يعتمد عليها الجيش (الإسرائيلي) في سياسته الأمنية. فالتآكل البشري، وتراجع القدرة على تدوير القوات، والاعتماد المتزايد على الاحتياط المنهك، كلها مؤشرات تُتابعها أطراف إقليمية ودولية، وقد تدفع بعض الخصوم إلى إعادة تقدير موازين القوة. فغياب القدرة على خوض حرب طويلة أو فتح جبهات متعددة في وقت واحد لم يعد احتمالًا نظريًا، بل أصبح واقعًا قائمًا تُدركه الأوساط الأمنية (الإسرائيلية) نفسها. وهذا يُضعف من قدرة الجيش على فرض معادلة الردع التقليدية التي كانت تقوم على الاستعداد الدائم والحشد السريع والقدرة على تنفيذ عمليات مكثفة خلال فترات قصيرة.

وعليه، يمكن القول إن تداعيات الأزمة تتجاوز مجرد تراجع في الأعداد إلى تحول في طبيعة الأداء العسكري نفسه، إذ أدت إلى فجوات في القيادة، وإرهاق في الكوادر، وتراجع في التدريب، وضعف في قابلية الانتشار السريع، وانكماش في قدرة الجيش على إدارة مواجهة ممتدة. وتكشف هذه التداعيات أن أزمة القوى البشرية لم تعد مسألة إدارية أو هيكلية داخل الجيش، بل باتت عاملاً محددًا لمستوى الفعالية العسكرية ولأفق القدرة (الإسرائيلية) على خوض الصراعات المقبلة.

 

رابعًا: جهود المواجهة وسياسات الإدارة العسكرية

أطلقت المؤسسة العسكرية (الإسرائيلية) سلسلة من الإجراءات لمواجهة أزمة القوى البشرية، إلا أن معظمها بقي محدود الفاعلية أمام عمق التحديات البنيوية. تمثلت الخطوة الأولى في تحسين بيئة الخدمة من خلال زيادة الحوافز المالية وتسهيل الترقيات في محاولة لجذب الضباط وضباط الصف والحد من موجات الاستقالات([16])، لكن أثر هذه الإجراءات بقي جزئيًا بسبب استمرار الضغط العملياتي.

كما لجأت الحكومة إلى تعديلات في منظومة التجنيد الإلزامي، شملت تمديد مدة الخدمة ومحاولة دمج شرائح اجتماعية جديدة، وعلى رأسها التيار الحريدي، بهدف توسيع قاعدة التجنيد. غير أن هذا المسار واجه مقاومة اجتماعية وسياسية، ولم ينجح في سد الفجوات القائمة. وفي السياق نفسه، حاول الجيش إعادة تنظيم استدعاء قوات الاحتياط عبر تخفيف فترات الانتشار وتعزيز برامج التدريب، لكن الحاجة التشغيلية المرتفعة حالت دون تطبيق هذه التدابير بصرامة([17]).

وفي موازاة ذلك، اتسع الاعتماد على الأنظمة التكنولوجية لتعويض النقص البشري في بعض المهام، غير أنّ هذا الاتجاه لا يوفر بديلاً فعليًا عن الكادر المهني في القيادة والسيطرة. كما سعت القيادة العسكرية إلى تعزيز الثقة المجتمعية عبر حملات إعلامية تروّج لقيمة الخدمة العسكرية، إلا أنّ تأثيرها بقي محدودًا في ظل انقسامات سياسية داخلية.

وبذلك يظهر أن جهود المواجهة، رغم تعددها، ما تزال عاجزة عن معالجة جذور الأزمة التي تحتاج إلى إصلاحات عميقة تعيد بناء منظومة الموارد البشرية وتستعيد جاذبية الخدمة العسكرية على المدى الطويل.

 

الخاتمة

تكشف أزمة القوى البشرية في الجيش (الإسرائيلي) عن تحوّل بنيوي عميق يتجاوز حدود الانشغال بالأرقام أو الفجوات المؤقتة، لتلامس جوهر قدرة المؤسسة العسكرية على أداء وظائفها الأساسية في بيئة أمنية متقلبة. فقد أظهرت المعطيات أن تراجع الرغبة في الخدمة الدائمة، واتساع النقص في الرتب القيادية، واستنزاف قوات الاحتياط، ليست ظواهر معزولة بل عناصر مترابطة تعكس اهتزازًا في الأسس التنظيمية والاجتماعية التي بُنيت عليها منظومة الأمن (الإسرائيلية).

وتبرز خطورة الأزمة في أنها تتزامن مع تصاعد التحديات العملياتية على أكثر من جبهة، ما يضاعف الحاجة إلى كادر مهني قادر على القيادة والمناورة والاستدامة. غير أن مسار التآكل الحالي يحدّ من جاهزية الجيش، ويقلل من مرونته في خوض عمليات طويلة أو متعددة المسارح، ويضعف بالتالي من قدرته على الحفاظ على ميزان الردع التقليدي الذي شكّل أحد ركائز الاستراتيجية (الإسرائيلية) لعقود.

وبرغم تعدد السياسات التي اعتمدتها القيادة العسكرية والحكومة- من تحسين شروط الخدمة إلى توسيع قاعدة التجنيد وإعادة تنظيم الاحتياط- إلا أن تأثيرها بقي جزئيًا، لأنها لم تُلامس جذور الأزمة المرتبطة ببنية الخدمة العسكرية، وطبيعة العلاقة بين الجيش والمجتمع، وتحولات البيئة الاقتصادية والسياسية الداخلية. وانطلاقًا من ذلك، يبدو أن معالجة الأزمة تتطلب مقاربة استراتيجية شاملة تعيد بناء منظومة الموارد البشرية على أسس أكثر استدامة، وتوازن بين متطلبات الأمن القومي وقدرة المجتمع على تحمّل كلفتها.

وبذلك، تشير المحصلة العامة إلى أن مستقبل جاهزية الجيش (الإسرائيلي) سيكون مرهونًا بقدرته على الانتقال من إدارة الأزمة إلى إعادة هيكلة عميقة، تعالج التآكل البنيوي وتعيد صياغة العقد العسكري–الاجتماعي بشكل يضمن بقاء المؤسسة العسكرية قادرة على مواجهة التحديات المقبلة بكفاءة وفعالية.

 

)[1]( – Fabian, Emanuel. IDF Facing Manpower Crisis as Fewer Soldiers Keen on Military Career, New Data Shows.” The Times of Israel, 30 November 2025. https://www.timesofisrael.com/idf-faces-manpower-crisis-as-fewer-soldiers-keen-on-military-career-new-data-shows/ .
[2]) (– الجزيرة نت. “الجيش (الإسرائيلي) يحتاج 12 ألف جندي ويزيد الخدمة الإلزامية إلى 36 شهراً.” الجزيرة نت، 9 نوفمبر2025 https://linksshortcut.com/oaYzA  .
([3]) – Middle East Eye. (Israel) Struggles to Retain Officers as War Fatigue and Political Tensions Drive Recruits Away.” Middle East Eye, November 30, 2025. https://www.middleeasteye.net/live-blog/live-blog-update/israel-struggles-retain-officers-war-fatigue-and-political-tensions .
([4]) – Kubovich, Yaniv. Facing Reservist Shortage, IDF Units Resort to Dubious Recruitment Ads on Social Media.” Haaretz, 16 March 2025. https://linksshortcut.com/qiWxm
([5]) – Rose, Emily; Lubell, Maayan; al-Mughrabi, Nidal; and Abu Alkas, Dawood. Thousands of (Israeli) Reservists Report for Duty as Military Chief Clashes with Ministers.” Reuters, September 2, 2025. https://www.reuters.com/world/middle-east/thousands-israeli-reservists-report-duty-military-chief-clashes-with-ministers-2025-09-02/.
([6]) –  Muhareb, Mahmoud. The Retreat of (Israels) Reserve Forces. Policy Analysis series, Arab Center for Research and Policy Studies (Doha Institute), 14 August 2024. https://www.dohainstitute.org/en/Lists/ACRPS-PDFDocumentLibrary/the-retreat-of-israels-reserve-forces.pdf
([7]) – Margalit, Ruth. The (Israeli) Soldiers Who Refuse to Fight in Gaza.” The New Yorker, May 14, 2025. https://www.newyorker.com/news/the-lede/the-israeli-soldiers-who-refuse-to-fight-in-gaza .
([8]) – Muhareb, Mahmoud. A previous reference.
([9]) – Taub Center for Social Policy Studies in (Israel). The October 7, 2023 War and Its Impact on (Israels) Society and Economy. Singer Annual Report Series, December 2023.  https://www.taubcenter.org.il/wp-content/uploads/2023/12/War-ENG-2023.pdf
([10]) – Black, Shlomo. Haredi Enlistment in the IDF: Does the Proposed New Law Invite Substantive Change?“. INSS Insight No. 1529, November 2, 2021.  https://www.inss.org.il/publication/idf-orthodox-jews/
([11]) – هبة شكري ونيرمين سعيد. تقييم الوضع الداخلي في )إسرائيل.”( المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تقرير، أبريل 2025. https://linksshortcut.com/ipNPC
([12]) – Fabian, Emanuel. A previous reference.
([13]) – Margalit, Ruth. A previous reference.
([14]) – عبّاس، سعاد إبراهيم. رفض الخدمة العسكرية في )إسرائيل(: دراسة وتحليل. مجلة دراسات دولية، العدد 94، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية – جامعة بغداد، 2023. https://jcis.uobaghdad.edu.iq/index.php/politics/article/view/527
([15]) –  Muhareb, Mahmoud. A previous reference.
([16]) – Fabian, Emanuel. A previous reference.
([17]) – Ben-Nun, Sarah. Bismuth Advances Updated Ultra-Orthodox IDF Draft Bill as Knesset Prepares for Decisive Debates.” The Jerusalem Post, November 27, 2025. https://www.jpost.com/israel-news/politics-and-diplomacy/article-876434 .

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى