الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف

قراءة تحليلية مركبة لاستراتيجية الأمن القومي الامريكي 2025

بقلم: نور نبيه جميل

باحثة في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

 

تمثل استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة لعام 2025 وثيقة فارقة في التاريخ الاستراتيجي الأميركي، ليس لأنها تحدد أولويات جديدة فحسب، بل لأنها تعيد تعريف ماهية الدور الأميركي في النظام الدولي برمّته. فالوثيقة تعلن  بوضوح غير مسبوق  نهاية حقبة امتدت منذ الحرب الباردة حيث اضطلعت واشنطن بدور “قائد النظام الليبرالي العالمي”، وتطرح بديلًا يقوم على القومية الاقتصادية، إعادة بناء الدولة من الداخل، وتقليص الالتزامات الخارجية إلى حدود ما يُعدّ تهديدًا مباشرًا للمصلحة القومية الصرفة.

في جوهرها، تُجسّد الوثيقة تحوّلًا جذريًا من عقيدة “الانخراط العالمي” نحو مقاربة واقعية- قومية براغماتية تُقدّم القوة الاقتصادية، حماية الحدود، وإعادة التصنيع كأسس جديدة للأمن القومي، وتضع حدًا لإيمان عميق بالعولمة، بالمؤسسات الدولية، وبالتحالفات غير المتوازنة. وهي بذلك لا تراجع أولويات السياسة الخارجية فحسب، بل تعيد هندسة هوية القوة الأميركية نفسها، عبر دمج غير مألوف بين الأمن القومي والهوية الثقافية والروح الوطنية والاقتصاد المنتج.

كما تتجلى أهمية الوثيقة في أنها ترسم خريطة صراع القرن: صراع يقوم على الاقتصاد والتكنولوجيا وسلاسل التوريد أكثر من اعتماده على القوة الصلبة التقليدية، وتعيد توزيع الثقل الجيوسياسي ليتمركز حول آسيا والنصف الغربي من الكرة الأرضية، مع تراجع واضح لمركزية (الشرق الأوسط). كما تكشف عن رؤية ترى في الصين المنافس الأكبر، وفي أوروبا شريكًا آخذًا في الضعف، وفي النظام الدولي بنية يجب إعادة تشكيلها من منظور “أميركا أولًا” لا من منظور القيادة العالمية.

من ثمّ، لا تمثل الوثيقة مجرد وثيقة حكومية، بل مانيفستو استراتيجي يعلن نهاية مرحلة وبداية أخرى، مرحلة تتعامل فيها واشنطن مع العالم لا باعتبارها قوة فوق النظام، بل قوة قومية كبرى داخل نظام تتعدد مراكزه، وتسعى لحماية تفوّقها عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والتحكم في تدفقات القوة، لا عبر ترميم النظام الدولي الليبرالي كما عرفناه طوال سبعة عقود.

 

أهم ما ورد في الوثيقة لخصته كما في الآتي:-

  1. صدمة التحول البراديغمي

تُشكل هذه الوثيقة إعلاناً رسمياً لنهاية الإجماع الليبرالي الذي ساد في السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب الباردة. من خلال عدسة “تحليل السياسة الخارجية المقارن”، نجد أن هذه الاستراتيجية لا تكتفي بتعديل الأولويات، بل تنسف الأسس التقليدية (بناء الأمم، العولمة، الترويج للديمقراطية) لصالح عقيدة “قومية جاكسونية” التي تركز على الامن القومي، الحماية الاقتصادية، والردع العسكري الساحق.

 

الجنرال أندرو جاكسون يلوح لأنصاره في طريقه إلى واشنطن عام 1829.
Gen. Andrew Jackson waves to supporters on his way to Washington, 1829.

 

  1. تحليل الوثيقة عبر المناهج السياسية

أولاً: المنظور الواقعي (السيادة والقوة) وفقاً للمدرسة الواقعية الهجومية والتقاليد الجاكسونية المقصود بـ “الجاكسونية” (Jacksonianism) في سياق تحليل السياسة الخارجية والعلوم السياسية هو تقليد أو مدرسة فكرية ضمن التيار القومي الأمريكي، سميت تيمناً بالرئيس السابع للولايات المتحدة أندرو جاكسون، تعيد الوثيقة تعريف المصلحة الوطنية بعيداً عن “المثل العليا” ونحواً “الأمن المادي”.

 

  • عقيدة مونرو الجديدة (The Trump Corollary): النص يؤسس لعودة الهيمنة الإقليمية المطلقة. استخدام مصطلح “ملحق ترامب” لمبدأ مونرو يُشير إلى تحول من “الدفاع” إلى “المنع الاستباقي” لأي نفوذ أجنبي، ليس فقط عسكرياً بل اقتصادياً (ملكية الأصول) في نصف الكرة الغربي.

  • السلام من خلال القوة المفرطة: الوثيقة تتبنى نهج الردع القائم على التفوق الساحق، مستشهدة بـ “عملية مطرقة منتصف الليل” الافتراضية ضد إيران كدليل على أن الردع يتطلب “إخماد” الخصوم عسكرياً عند الضرورة، وليس احتوائهم دبلوماسياً فقط.

  • أولوية الحدود: من منظور واقعي، يُنظر إلى أمن الحدود كقضية وجودية، حيث يُوصف الوضع بأنه “غزو”، مما يبرر استخدام الجيش في الداخل، وهو تحول في عقيدة استخدام القوة.

ثانياً: تحليل الخطاب النقدي (صناعة الهوية والعدو)

عند تطبيق تحليل الخطاب، نجد أن الوثيقة تستخدم لغة مشحونة لإنشاء “نحن” (الوطنيون) ضد “هم” (النخب العالمية واليسار الراديكالي). فينتج الاتي:-

 

  • تسييس الداخل: النص لا يفصل بين التهديد الخارجي والداخلي. مصطلحات مثل “أيديولوجيا الجندر الراديكالية” تُستخدم لوصف التهديدات التي تواجه الجيش، مما يجعل “التطهير الثقافي” للمؤسسات شرطاً للأمن القومي.

  • خطاب “المحو الحضاري”: في تناولها لأوروبا، تستخدم الوثيقة مصطلحاً خطيراً هو “المحو الحضاري”، مما يعكس هوية “يمينية قومية” ترى في الهجرة تهديداً للهوية الغربية، وليس مجرد تحدٍ اقتصادي أو أمني.

  • نزع الشرعية عن النخب السابقة: تصف الوثيقة الحقبة السابقة بـ “سنوات الضعف والفشل القاتل”، وتتهم النخب بأنها سعت لـ “الهيمنة العالمية” المستحيلة، مما يضفي شرعية “إنقاذية” على الإدارة الجديدة.

ثالثاً: الاقتصاد السياسي الدولي (IPE) – (الميركنتيلية الجديدة)

من زاوية الاقتصاد السياسي، تتبنى الوثيقة نهجاً “ميركنتيلياً” (Mercantilist) يرى التجارة كساحة حرب صفرية.

  • الاقتصاد كأمن قومي: الوثيقة تنص صراحة على أن “السياسة الصناعية” هي أولوية للأمن القومي. الهدف ليس كفاءة السوق، بل “الاستقلال الاقتصادي” وفك الارتباط في الصناعات الحيوية.

  • معضلة الحلفاء (The Alliance Dilemma): هنا يظهر التناقض الأكبر. الولايات المتحدة تطلب من الحلفاء (الناتو، اليابان) زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير (5% للناتو)، وفي الوقت نفسه تتوعدهم بـ “معاملة تجارية عادلة” وإنهاء “الركوب المجاني”. الوثيقة تظهر أن واشنطن تريد تحويل التحالفات من “شراكات استراتيجية” إلى “علاقات تعاقدية” يدفع فيها الحليف ثمن الحماية، إما نقداً أو عبر تنازلات تجارية.

  • الصين: التعامل مع الصين يتم كـ “منافس اقتصادي” يجب كسب المستقبل منه، مع الاعتراف بفشل الحروب التجارية التقليدية والحاجة لسيطرة أعمق على سلاسل التوريد.

 

  1. التقييم الاستراتيجي: المخاطر والفرص

نقاط القوة في الاستراتيجية (حسب المنظور الواقعي):

  • وضوح الهدف: التخلي عن الأهداف الفضفاضة (نشر الديمقراطية) لصالح أهداف محددة (حماية الحدود، التصنيع، أمن الطاقة).

  • الردع: استعادة مصداقية الردع من خلال الاستعداد لاستخدام القوة المميتة بسرعة وبدون تردد.

  • المرونة: التعامل مع الأنظمة المختلفة (مثل دول الخليج) بناءً على المصالح المشتركة دون وعظ أخلاقي.

 

الرئيس الأميركي دونالد ترامب

 

نقاط الضعف والمخاطر (حسب المنظور المؤسسي والاقتصادي):

  • عزلة الحلفاء: الضغط الاقتصادي والدفاعي المتزامن على أوروبا وآسيا قد يدفع هذه الدول للبحث عن استقلالية استراتيجية أو الحياد تجاه الصين، بدلاً من الانخراط في تحالف أمريكي.

  • التناقض في “التحالف الاقتصادي”: تسعى الوثيقة لبناء تحالف اقتصادي ضد الصين، لكن سياساتها الحمائية (“أمريكا أولاً”) تجعل من الصعب إقناع الحلفاء بجدوى هذا التحالف لهم.

  • المخاطرة بالتصعيد: تبني “مبدأ ترامب” في نصف الكرة الغربي واستخدام القوة العسكرية ضد الكارتلات قد يؤدي إلى توترات دبلوماسية حادة أو نزاعات حدودية غير محسوبة.

 

بناءً على مبادئ “الواقعية المرنة” و”أمريكا أولاً” التي تتبناها الوثيقة، ستقرأ عواصم (الشرق الأوسط) هذه الاستراتيجية بطرق متباينة جداً، لكنها جميعاً ستتفق على أن عهد “الرعاية الأمريكية الشاملة” قد انتهى، وبدأ عهد “الشراكات القائمة على الصفقات”.

 

منها تفسير الموقف من وجهة نظر الفاعلين الرئيسيين في المنطقة كما يُستشف من نصوص الوثيقة:

 

  1. دول الخليج العربي: “ارتياح مشوب بالقلق الاستراتيجي”

ستقرأ دول الخليج (السعودية، الإمارات، قطر) هذه الوثيقة باعتبارها انتصاراً لنموذجها السياسي، ولكنها تحمل تحدياً اقتصادياً.

  • نهاية الوعظ الليبرالي (مكسب سياسي): ستتنفس العواصم الخليجية الصعداء لأن الوثيقة تعلن صراحة تخلي واشنطن عن “وعظ” الدول لتغيير أنظمتها أو تبني الديمقراطية. وتؤكد الوثيقة قبول القادة والأنظمة “كما هم”. هذا يعني “شيكاً على بياض” فيما يخص الشؤون الداخلية وملفات حقوق الإنسان، طالما أن المصالح الأمريكية محفوظة.

  • التحول من “الحماية” إلى “الاستثمار” (تحدي اقتصادي): ستدرك دول الخليج أن أمنها لم يعد “مصلحة حيوية تلقائية” لأمريكا بسبب استقلال واشنطن في مجال الطاقة. الوثيقة توضح أن العلاقة ستتحول إلى “الاستثمار، التكنولوجيا، والنووي”.

في ضوء ماسبق الحماية الأمريكية لم تعد مجانية، ثمنها هو شراء التكنولوجيا الأمريكية (الذكاء الاصطناعي) وفك الارتباط التكنولوجي مع الصين.

 

  1. (إسرائيل): الضوء الأخضر المطلق والدمج الإقليمي ستفسر (إسرائيل) الوثيقة على أنها أقوى وثيقة داعمة لها في التاريخ الحديث، لسببين رئيسيين:

  • حسم الملف الإيراني: الإشارة الصريحة والخطيرة في الوثيقة إلى “عملية مطرقة منتصف الليل” التي اصابت قدرات التخصيب النووي الإيراني في حزيران 2025، تُفسر (إسرائيلياً) بأن أمريكا انتقلت من “احتواء” إيران إلى “مواجهة” إيران عسكرياً لصالح التفوق (الإسرائيلي).

  • التطبيع كاستراتيجية أمن قومي: الوثيقة تضع توسيع “اتفاقيات إبراهيم” كهدف مركزي، وتعتبر أن أمن (إسرائيل) مصلحة جوهرية.

 

  1. إيران والمحور: “إعلان حرب وجودية”

بالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية هذه الوثيقة ليست استراتيجية تنافس، بل وثيقة “تصفية حسابات”:

  • التهديد الوجودي: النص يذكر تدمير النووي الإيراني كـ “إنجاز” ويصف إيران بأنها القوة المزعزعة للاستقرار التي تم إضعافها بشدة.

 

نستنتج أن واشنطن تخلت عن الدبلوماسية تماماً، مما قد يدفع طهران إما للانكفاء التام أو التصعيد غير المتماثل  قبل فوات الأوان، خاصة أن الوثيقة تدعي عودة “حماس” وإيران للوراء.

 

اما الدول العربية الأخرى (مصر، الأردن، العراق): “الغموض الاستراتيجي” تراجع الأولوية العبارة الأكثر قسوة لهذه الدول هي: “ولّى عهد هيمنة (الشرق الأوسط) على السياسة الخارجية الأمريكية”. هذا يعني تراجع المساعدات التقليدية والاهتمام السياسي، مما يضع هذه الدول أمام ضرورة البحث عن تنويع الشركاء.

الواقعية في النزاعات: ذكرت الوثيقة أن ترامب حل النزاع بين “مصر وإثيوبيا”، مما يشير إلى أن واشنطن ستتدخل فقط في الأزمات الكبرى التي تهدد الاستقرار الإقليمي الواسع، وبأسلوب “الصفقات” السريعة وليس الحلول المستدامة طويلة الأمد.

بناءً على الوثيقة، ستُفسر دول (الشرق الأوسط) الموقف الأمريكي الجديد بالمعادلة التالية:

“أمريكا لن تحميك لأنها تحب قيمك أو تحتاج نفطك، بل ستحميك فقط إذا كنت شريكاً تكنولوجياً، أو مستثمراً في صناعتها، أو جزءاً من التحالف الأمني ضد إيران.

هذا سيدفع المنطقة نحو سباق تسلح تقني، ومحاولة كل دولة تقديم نفسها كـ “شريك مفيد” (Transactionally Useful) لواشنطن لضمان استمرار المظلة الأمنية في عصر ما بعد النفط.

 

 الخاتمة

إن وثيقة 2025 ليست مجرد تعديل سياسات، بل هي إعلان عن عقيدة استراتيجية جديدة تعيد تعريف القوة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، مرتكزة على السيادة، والقوة الاقتصادية الذاتية، والبراغماتية الصفقة في العلاقات الدولية.

كما تمثل الوثيقة انتقال الولايات المتحدة من دور “الإمبراطورية الليبرالية” إلى “القلعة القومية” (Fortress America). هي استراتيجية مصممة لعالم منقسم، تعطي الأولوية للبقاء المادي والاقتصادي على القيم الأيديولوجية. النجاح في تطبيقها مرهون بقدرة واشنطن على فرض شروطها على الحلفاء دون دفعهم للانهيار أو التمرد، وإدارة المنافسة مع الصين دون الانزلاق لحرب شاملة.

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى