الاكثر قراءةترجماتغير مصنف

المساعدات الخارجية على الطريقة الصينية.. مواضع توسّع نفوذ بكين وحدود طموحها

بقلم: اليسيا ر. تشين

ترجمة: صفا مهدي عسكر

تحرير: د. عمار عباش الشاهين

مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية

 

في مطلع هذا العام وبعد أن عطّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب فعلياً عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وهي أكبر برنامج مساعدات ثنائية في العالم، برزت مخاوف واسعة من أن تسعى الصين لملء الفراغ الجيوسياسي الناتج عن هذا التراجع، فالوكالة شكّلت لأكثر من ستين عاماً ركيزة أساسية في الدبلوماسية الأميركية، وتراجع دورها أتاح لبكين فرصة لتعزيز أدواتها في الدبلوماسية الاقتصادية وتوسيع نطاق نفوذها عبر مناطق مختلفة.

وخلال العقدين الماضيين ضاعفت الصين حجم ونوعية مساعداتها الخارجية بشكل لافت، فمنذ عام 2000 وحتى 2023 لم يتبقَّ سوى 17 دولة حول العالم لم تتلقَّ قرضاً أو منحة من الحكومة الصينية أو من مؤسساتها المملوكة للدولة، أما مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ عام 2013 فقد تجاوز حجم تمويلها الإجمالي تريليون دولار ورغم اتساع هذا الحضور الدولي وتحوله إلى مصدر قلق لدى صناع القرار في الغرب فإن كثيرين لا يزالون يجهلون المنطق الاستراتيجي الذي يقود سياسة بكين للمساعدات.

وعلى الرغم من أن برامج التنمية الصينية تبدو للوهلة الأولى شاملة وغير انتقائية الا أن التمحيص في كيفية توزيعها يكشف عن طابع محسوب بدقة إذ تتركز المساعدات الصينية بوضوح نحو الدول التي تتولى رئاسة منظمات إقليمية مؤثرة، فعندما تترأس دولةٌ ما كيانات مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) أو الاتحاد الأفريقي تشهد تدفقاً أكبر للمساعدات من المؤسسات الحكومية الصينية، ومع ذلك لا ينطبق هذا النمط على المنابر العالمية الكبرى مثل مجلس الأمن الدولي ما يعني أن الصين لا تسعى للهيمنة على كل المنصات بل تنتقي بعناية الساحات الأكثر أهمية لمصالحها بعيدة المدى.

وعليه يتعين على صانعي السياسات الراغبين في تطوير برامج المساعدات الخاصة بدولهم أو صياغة رد فعّال على التحرك الصيني، فهم هذه الاستراتيجية بعمق – باعتبارها مدخلاً رئيسياً لكيفية بناء النفوذ في عالم يتجه نحو تعددية قطبية متزايدة.

 

صورة أرشيفية: جيش التحرير الشعبي الصيني يرسل حزمة من المساعدات الإنسانية لضحايا الفيضانات في باكستان

 

تحية للكرسي القيادي

على الرغم من أنّ الصين بدأت تقديم المساعدات الخارجية منذ خمسينيات القرن الماضي الا أنّ برنامجها التنموي العالمي شهد تسارعاً لافتاً عقب الأزمة المالية عام 2008، فمنذ عام 2000 حتى 2021 قدمت بكين ما يقارب 68  مليار دولار سنوياً في تمويلات التنمية الخارجية، مقارنة بمتوسط 39  مليار دولار سنوياً تقدمه الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها.

ورغم الانتشار العالمي لبرنامج المساعدات الصيني تُظهر الأبحاث أنّ بكين تميل إلى زيادة مساعداتها للدول عندما تتولى مناصب قيادية داخل منظمات إقليمية، فمن خلال دراسة المساعدات الاقتصادية في جنوب شرق آسيا وأفريقيا بين 2000 و2017 تبيّن أنّ الدولة التي تترأس الآسيان أو الاتحاد الأفريقي تحصل على تمويل صيني يزيد بمقدار سبعة أضعاف عمّا تحصل عليه في الفترات التي لا تتولى فيها الرئاسة بمتوسط زيادة يبلغ 90 مليون دولار سنوياً، بالمقابل لا يطرأ تغير يُذكر على مستوى المساعدات الصينية للدول التي تشغل عضوية دورية في مجلس الأمن – على عكس ما يحدث مع المساعدات الغربية التي غالباً ما تتزايد في هذه الحالة، وهذا يشير إلى أنّ بكين تتبع استراتيجية مقصودة ذات تركيز إقليمي.

 

ورغم أن المؤسسات الإقليمية تبدو للبعض في واشنطن ذات أهمية هامشية مقارنة بمنصات كبرى كالأمم المتحدة ترى الصين فيها منصات محورية للدبلوماسية والتنسيق الاقتصادي خصوصاً داخل ما يُعرف بـ الجنوب العالمي، إذ لطالما قدّمت بكين نفسها بوصفها ممثلاً وقائداً للجنوب العالمي منتقدةً عدم عدالة النظام الدولي الذي تقوده القوى الغربية، وقد وصف دبلوماسي صيني بارز عام 2016 النظام الدولي بقيادة واشنطن بأنه “بدلة لم تعد تناسب مقاس العالم”، وبالاستثمار في تكتلات مثل الآسيان والاتحاد الأفريقي تعزز الصين هذه الهوية وتروّج لنفسها كقائد لنظام عالمي ناشئ.

كما توفّر هذه المنابر الإقليمية للصين مساحة لتخفيف الانتقادات وتوجيه النقاشات نحو أولويات تتماشى مع رؤيتها، فدعم الدولة التي تتولى الرئاسة – بوصفها جهة صياغة الأجندة – يمنح بكين القدرة على توجيه الحوار الإقليمي وتحييد الملفات الحساسة، وفي عام 2012 حين ترأست كمبوديا الآسيان أوقفت تمرير بيان ختامي للقمّة بسبب فقرة تنتقد سلوك الصين في بحر الصين الجنوبي وكانت تلك المرة الأولى التي تفشل فيها المنظمة بإصدار بيان مشترك، وبعد شهرين فقط تعهّد رئيس الوزراء الصيني وين جيا باو بتقديم 500  مليون دولار في شكل قروض ومنح لكمبوديا فيما أكد وزير المالية الكمبودي أنّ بكين ثمّنت دور بلاده في الحفاظ على ما وصفه بـ “التعاون الجيّد بين الصين والآسيان”.

وفي مثال أحدث خلال قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا عام 2024 اتفقت الدول الأعضاء على حظر تجارة جلود الحمير على مستوى القارة والتي ارتفع الطلب عليها من قبل السوق الصينية لاستخدامها في الطب التقليدي، ورغم أنّ هذه التجارة تسببت في أضرار اقتصادية واجتماعية خاصة للنساء في المناطق الريفية تجنّب الاتحاد الأفريقي – برئاسة موريتانيا في ذلك العام – تحميل الصين المسؤولية مفضلاً تأطير القرار بأنه لحماية الموارد الأفريقية، وفي وقت لاحق من العام ذاته وخلال منتدى التعاون الصيني – الأفريقي 2024 رفع شي جين بينغ مستوى العلاقات مع موريتانيا إلى شراكة استراتيجية مشيداً بقيادة الرئيس محمد ولد الغزواني خلال رئاسته للاتحاد، وعلى هامش المنتدى عززت بكين تعاونها الاقتصادي مع نواكشوط بما في ذلك توقيع اتفاق لمبادلة العملات بقيمة 281 مليون دولار.

 

الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)

 

كشف الطبقات طبيعة التمويل الصيني وتباينات تأثيره

على الرغم من ارتفاع حجم الدعم الذي تقدمه الصين للدول التي تتولى رئاسة منظمات إقليمية يظهر التدقيق أن هذا الارتفاع يقتصر أساساً على المساعدات الحكومية المباشرة ما يؤكد أن التمويل الصيني ليس كتلة واحدة متجانسة ولا تحمل كل موارده القيمة السياسية ذاتها، وفي حين تعتمد أغلب الدول الغربية على وكالات حكومية لتقديم المساعدات مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية  (USAID) لا تتجاوز المساهمات الحكومية المباشرة في منظومة المساعدات الصينية نحو 10% فقط من إجمالي محفظتها الخارجية، فوكالة التعاون الإنمائي الدولية الصينية – المناظر الأقرب لـ –  USAIDومعها الوزارات ذات الصلة وعلى رأسها وزارة التجارة بلغت ميزانيتها المشتركة عام 2023 ما يقارب 3 مليارات دولار فقط مقارنةً بـ 42  مليار دولار خصصتها الوكالة الأميركية في العام نفسه.

في المقابل يأتي الجزء الأكبر من التمويل الصيني عبر البنوك السياسية والتجارية المملوكة للدولة والتي تُلزم بتحقيق توازن بين الأهداف الاستراتيجية ومتطلبات الملاءة المالية واسترداد القروض، وقد أدى هذا إلى افتراض واسع بأن كل تمويل صادر عن الصين يعكس قرارات استراتيجية مباشرة لبكين غير أنّ البيانات تُظهر أن قروض هذه البنوك لا تتبع نمطاً سياسياً مشابهاً للمساعدات الحكومية كما أن التمويل الموجه للجهات غير الحكومية خارج الصين لا يتناسب مع المواقع السياسية للدول كما هو الحال مع المساعدات الحكومية، ويشير ذلك بوضوح إلى أن هوية الجهة المانحة والمتلقية تمثل مفتاح فهم الدوافع الحقيقية للتمويل.

فحين تُدار المساعدات عبر مؤسسات حكومية يميل استخدامها إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية مباشرة – مثل تعزيز النفوذ الإقليمي – نظراً لما تمنحه هذه القنوات من مرونة أعلى وقدرة أكبر على التوظيف السياسي السريع، أما البنوك السياسية والتجارية فتعكس في سلوكها منطق الأسواق المالية إلى حدّ كبير لتقترب من نماذج الإقراض الغربية أكثر مما تعكسه صورة التمويل الحكومي الصيني التقليدية، والخلاصة أنّ أكثر أشكال المساعدات الصينية تأثيراً من الناحية السياسية تمثل النسبة الأصغر ضمن محفظة التمويل الإجمالية مما ينفي التصور بأن كل التمويل الصيني أداة مباشرة للنفوذ الجيوسياسي.

 

الحضور المتأخر لكن المؤثر

 تبرز من هذه المعطيات دلالات مهمة للولايات المتحدة والديمقراطيات الليبرالية التي تسعى لمنافسة الصين عالمياً، فالساحة الجيوسياسية تشهد تحولاً في مركز الثقل ففي الوقت الذي ركّزت فيه القوى الغربية على تعزيز القيم الليبرالية داخل المؤسسات متعددة الأطراف الكبرى تحركت الصين بفاعلية وصمت داخل المنصات الإقليمية، وتؤدي هذه المنظمات دوراً متزايد الأهمية في صياغة خطط التنمية الوطنية واحتواء الأزمات ومنع النزاعات كما تُعد مختبراً أولياً لتشكّل المواقف التي تتطور لاحقاً إلى معايير دولية، وقد أدركت الأمم المتحدة هذا الواقع ووسّعت تعاونها مع هياكل إقليمية عدة فيما بدأت العواصم الغربية إعادة تقييم مقاربتها بعد تباين مواقف دول الجنوب العالمي بشأن الحرب في أوكرانيا.

لم يعد ممكناً التعامل مع المنظمات الإقليمية بوصفها ساحات هامشية، ففي عالم يتجه بثبات نحو تعددية قطبية باتت تكتلات مثل الآسيان والاتحاد الأفريقي تمثل بؤراً محورية للتنسيق الاقتصادي والدبلوماسي، وتغطي هذه الأطر مناطق ذات ثقل سكاني متنامٍ وتشكل مسرحاً لصراعات التجارة والممرات البحرية والطاقة ما يجعل قراراتها ذات تأثير مباشر في حسابات القوة العالمية، وبالتالي فإن تعميق الانخراط معها والاستثمار في قدراتها المؤسسية وتعزيز استقلاليتها يمثل شروطاً أساسية لضمان بقاء النظام الدولي مفتوحاً وقائماً على قواعد واضحة.

وتقتضي المنافسة أيضاً فهماً أدق لطبيعة المساعدات الصينية، فليس كل تمويل صيني مؤشراً على نفوذ سياسي كما أن الفصل بين أنواع المانحين والمتلقين، يكشف بدقة النقاط التي تُمارس فيها بكين النفوذ والنقاط التي تظل فيها مساحة التعاون التنموي ممكنة وغير صفرية.

 

لقد انتهت مرحلة الهيمنة الأميركية المنفردة التي أعقبت الحرب الباردة وبدأ عهد جديد تتسابق فيه القوى الكبرى لتشكيل النظام الدولي، ومع تراجع الدور الأميركي في التمويل التنموي العالمي يصبح فهم هندسة القوة الاقتصادية الصينية ضرورة استراتيجية ملحّة، إنّ تحليل مسارات تدفق الأموال الصينية وطبيعة الجهات المستفيدة يمنح الولايات المتحدة وحلفاءها قدرة أكبر على فهم منطق بكين وتحديد مكامن نفوذها – وبالتالي صياغة استجابة أكثر تركيزاً وفاعلية في إدارة التنافس العالمي القادم.

 

 

 * Alicia R. Chen, Foreign Aid with Chinese Characteristics Where Beijing Is—and Isn’t—Seeking Influence, foreign affairs, December 3, 2025.

 

 

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى