الاكثر قراءةتحليلات و آراءغير مصنف
الجيوبوليتيك الهجين كرافعة لتحولات مفهوم المساحة في خرائط النفوذ الجديدة

بقلم: د. فراس عباس هاشم
جامعة البصرة/ كلية القانون
حرياً بنا القول في خضم تتداخل المفاهيم المعرفية مع التطور التكنولوجي الذي شهدته البشرية تبرز وقائع مفاهيمية جديدة تدفعنا إلى إعادة النظر في تلك العلاقة المتشابكة ما بين حركة التطور العلمي المستمرة والمفاهيم المعرفية التي تفتح أمام الانتاج المعرفي بنية أوسع من الادماج المعرفي. ومن هنا، يشهد مفهوم المساحة تحولات جوهرية نتيجة للتطورات العلمية المتسارعة التي حجزت مكانها في العديد من المفاهيم المعرفية، لذلك ستفضي تلك التحولات إلى خلق واقعاً جديداً في الظهور يتجلى في الجيوبوليتيك الهجين الذي ساهمت في بنائه المنظومات الفكرية للتطورات التكنولوجية وأدواتها المختلفة والتي شقت طرقها إلى مفهوم المساحة.
أولاً: تصاعد موجات التجديد الجيوبولتيكي
حقيق بنا القول بأن ولادة مقاربات الفكر الجيوبوليتيكي كمعرفة مستحدثة في كتابات المفكرين الجيوبوليتيكيين كـ”فردريك راتزل” أو “رودولف كيلين” أو” كارل هاوسهوفر” وغيرهم، عملت على إعادة فهم التفكير في حركية وديناميكية مصالح الدول في ظل التحولات التي استجدت في البيئة الدولية آنذاك، وخاصة تلك المسائل المتعلقة بالأطر المعرفية للجيوبوليتيك بما هي مقاربات عابرة للحدود الجغرافية. فهي قراءات تقدم أيضاً موضوعات جديدة بعموميتها ذات صلة بعلاقة الإنسان بالبيئة الطبيعة، وما يقتضيه ذلك من انتزاع الحقوق في الوجود أو البقاء المكاني، في إطار صراعي يفرضه صراع المصالح بين المجتمعات، وأثر ذلك على وعي الإنسان بتركيز الاهتمام على مطالبة المكانية([1]).
يكون من المفيد أن نشير إلى أن النظرية الجيوبوليتيكية هي التي تقوم على فرضية مفادها أن ثمة علاقة بين قوة الدولة وجغرافيتها، فالعامل الجغرافي يلعب دوراً كبيراً في بناء قوة الدولة وزيادة أسباب ومصادر قوتها، ويعد العامل الجيوبوليتيكي من أهم عناصر قوة الدولة، حيث يقصد به الحيز الجغرافي المكاني الذي تشغله الدولة وتتواجد فيه ضمن رقعة من الأرض، وهو يتمثل بنوعية وطبيعة مواردها وحجم إقليمها من حيث ضيقة أو اتساعه، وكذلك موقعها وعدد السكان فيها، كل هذه العوامل تعد مكوناً أصيلاً في بناء الحياة السياسية والاجتماعية للدولة، كما تلعب دوراً مهماً في صياغة إستراتيجياتها وخططها الأمنية والعسكرية([2]).
وضمن آفاق هذا الفضاء تخبرنا الأدبيات السياسية بأن الجيوبوليتيكيا بمدلولاتها المعرفية تهتم بعلاقة الجغرافيا السياسية بقوة الدولة، فتمخض عن تلك الرؤية ظهور مصطلح ذلك (علم الجيوبوليتيكيا) الذي يرتكز على مبدأ أن لكل حيز أرض( مساحة) محدودة المعالم أهمية نسبية في تحدي وإبراز مغزى النظام السياسي العالمي، حيث تدرس الجيوبوليتيكيا العلاقة ما بين الأرض والحيز الجغرافي، أو رقعة الدولة الأرضية التي تقوم عليها أو ما تطمع سلطاتها السياسية والعسكرية عليها من أرضٍ مجاورة لها، وبين الاتجاهات السياسية التي رسمتها لنفسها، لقناعاتها بأنها تصبح دولة قوية من خلال فهم للعوامل الجغرافية في هذه الأراضي، مما يعني أن الجيوبوليتيكيا في مناهجها وميادينها ومرجعياتها الفكرية ساهمت مقاربات الجغرافيا السياسية في نشوئها ([3]).
لذلك تنطوي الجيوبوليتيك على ثلاث سمات:
أولا: تهتم الجيوبوليتيك بمسائل متعلقة بفرض النفوذ والسلطة على حيز جغرافي وأرض إقليمية.
ثانياً: تستعين باطر جغرافية لفهم الشؤون الدولية وتشمل القوالب الجغرافية الشائعة مصطلحات مثل مجال النفوذ والتكتلات والفناء الخلفي والمنطقة المجاورة/ الجوار والخارج القريب أو البعيد.
ثالثاً: تتسم الجيوبوليتيك بأنها ذات وجهة مستقبلية فهي تقدم رؤى متعمقة حول السلوك المحتمل للدول لان مصالحها لا تشهد أي تغيير جوهري تحتاج الدول إلى تامين الموارد وحماية أراضيها الإقليمية بما في ذلك المناطق الحدودية وإدارة مصالحها وشؤونها الداخلية ([4]).
ثانياً: ديناميكية أهمية المساحة في مجالات النفوذ
مما لاشك فيه كشفت ساحات الصراع الجديدة وتطوراتها انه لم تعد المنافسة مقتصرة على الأرض والبحر، فقد برزت ساحات جديدة، وفي مقدمتها البيانات والبنى الرقمية تمثل مصدر قوة، والفضاء الخارجي عبر الأقمار الصناعية التي توفر الاتصالات والملاحة والمراقبة. وتشمل هذه الساحات المجال المعرفي والثقافي إضافة إلى ذلك، بات تنويع أدوات النفوذ من خلال الاستثمار في اللوجستيات والاقتصاد الرقمي والثقافة عاملاً أساسياً لتعزيز الحضور العالمي، أي بمعنى أن الجيوبوليتيكا اليوم لم تعد مجرد “خرائط عسكرية”، بل هي شبكة متشعبة تضم الاقتصاد والتقنية والثقافة والفضاء السيبراني، من يمتلك القدرة على إدارة هذه الشبكات وحماية الممرات الحيوية، ويحسن توظيف القوة الذكية والتحوط، سيكون الأقدر على التأثير في النظام الدولي المتحول([5]).
وفي هذا السياق ندرك ان المباني الفكرية التي يتحرك ضمنها الجيوبوليتيك تعيد تعريف مفهوم المساحة في سياقاتها المعرفية تحث دثار التطور التكنولوجي وديناميكياته، وهذا ما استقر عليه مفهوم الجيوبوليتيك الهجين في جوهرة، وارتباط نتائجها بتحقيق تأثير جيوبوليتيكي يتجاوز الحدود التقليدية للدول وامتداداتها الجغرافية، وتترجم من خلالها المساحة كأداة لطموحات لقوى دولية تسعى إلى تمدد نفوذها وتأثيرها العالمي.
إضافة إلى ما تقدم نصبح أمام حيز من المساحة يتسم بالديناميكية حيث تتحرك خلاله الدول من أجل فرض نفوذها وتمددها لا سيما أن مفهوم المساحة التقليدي القائم على الحيز الجغرافي لم يعد قادراً على استيعاب حركة التطور المعرفي في مجالات الفكر الجيوبوليتيكي واتساعها لمجالات جديدة، وبالتالي أصبح من الضروري إعادة تشكيل المفهوم وتعريفه بحيث يستوعب بصورة أكثر تلك التطورات، إذ أصبحت لدينا مع حركة التقدم العلمي مساحات متعددة مساحات افتراضية وأخرى تقليدية تشغل حيزا جغرافيا تمارس الدول من خلالها القوة والتأثير في مجريات التفاعلات الدولية.
ويطرح البعض سؤالا مؤداه هل المساحة تهيئ القوة أم أن القوة تدعم المساحة وليس من السهل إعطاء الأفضلية لاحد العنصرين على الآخر، فقط تزداد مساحة الدولة بازدياد قوتها حتى تصل العلاقة بين متغيري القوة والمساحة إلى الحد الذي يبدأ بمرحلة الضعف نتيجة عدم القدرة على التحكم بالمساحات المضافة إليها، ويرى البعض أن ذلك شكل عاملاً أساسياً في عظم الإمبراطورية الرومانية. وعلى كل حال ليست القوة العامل الحاسم دائماً في تحديد مساحة الدولة لأن هناك عناصر أخرى ترتبط بالحجم السكاني والموارد الاقتصادية ([6]).
ومن هنا يمكن القول أن القيمة الفعلية للمساحة للدولة لا تقاس فقط بعدد الكيلومترات المربعة بقدر ما تقاس بما يتوفر لديها من موارد حيوية ومصادر طاقة بشرية أو طاقوية قادرة على استغلال هذه الموارد المتاحة في زيادة الإنتاج بشكل يحافظ على المستوى المعيشي المناسب للسكان إلى جانب قياسها أي المساحة من خلال خدمات طرق التجارة والنقل المحلى او العابر للحدود الجغرافية، ناهيك عن الاستراتيجية العسكرية ومتطلبات الدفاع عن الدولة أوقات الخطر فليس هناك مساحة مثلى للدولة بل أن كل مساحة يمكن أن تكون مثلى، اذا ما توفرت فيها الأمور التي أشرنا إليها سلفاً وارتباط ذلك مع الدور الذي تسعى إليه في البيئة الدولية ([7]).
وبالتالي تستنطق منظومتها الاستراتيجية بما اسماه المختصين في الدراسات الاستراتيجية بـــ “التعويض الاستراتيجي”، كاشفه عن ممارسة اشكالا جديدة من الادوات الهجينة في التعامل مع التغيرات الدولية وتوسيع مناطق نفوذها الافتراضية والمادية، فضلاً عن ردع الأعداء ومواجهة المخاطر الخارجية وآثارها على تنفيذ استراتيجياتها.
وفي الوقت نفسه، أن واقع الدول وحدود الطبيعية ونطاق سيادتها أصبحت متغيرة بسبب التطور التكنولوجي وللسبب نفسه حاولت والجيوبوليتيك استعادة تموضعها داخل دوائر الاهتمام العالمي، والتي تخشى أن تتلاشى مكانتها ووجودها في بنية النظام الدولي، من ناحية القوى الجديدة التي تحاول رسم ملامح النظام الدولي الجديد، ضمن هذا الأفق أصبحت “الجغرافية الافتراضية” أو “الحدود الاصطناعية” المعنى الذي تقاربه أطروحات النهج الجيوبوليتيكي الواقعي الجديد كمصدر للقوة([8]).
ومن هنا، يمكن القول تنبع علاقة المقاربات التقليدية للجيوبوليتيك بالأدوات غير التقليدية التي افرزتها التطورات التكنولوجية من زوايا متعددة، إذ أنها تأتي في مرحلة توسع الحيز الجغرافي لمفهوم المساحة عن الأطر التقليدية من جهة، ومن ناحية أخرى ادماج أو مفهوم الجيوبوليتيك بمفاهيم غير تقليدية وفق معادلة هجينة نتلمس وقائعها بأفعال الدول الباحثة عن توسيع مساحة هيمنتها والتفوق العالمي. وهو ما يجعل الجيوبوليتيك الهجينة تعيد تشكيل مفهوم المساحة بمعنى هي المساحة الأرضية المادية والمساحة الافتراضية بوصفه وسائل جديدة رسمتها تطلعات القوى الدولية (كالولايات المتحدة الأمريكية، والصين)، أو القوى التي تحاول استعادها حضورها ومركزيتها في ميادين التنافس أو الصراع الدولي (كروسيا، والاتحاد الأوروبي) من خلال إدارة مساحات جديدة وحيوية لاستدامه تفوقها العالمي.
وبذلك يمكننا قراءة دلالات زمن أو عصر الجيوبوليتيك الهجين بوصفه آليه يتم توظيفها من أجل إنتاج النفوذ وتوسيعه من قبل الدول وبذلك يمكن قراءة مفهوم المساحة قراءة متعددة في ظل مفهوم الجيوبوليتيك، إذ تسعى الجيوبوليتيك الهجينة إلى أعادت التموضع المعرفي داخل التطور التقني وتوظيفه بصياغه مفهوم المساحة (الموقع الأرض، الموارد، القدرات العسكرية، وخطوط أنابيب نقل الطاقة،…) واستثمارها من خلال تفاعل مقومات القوة التقليدية مع مباني جديدة افرزتها حركة التطور التكنولوجي والتقني تتمثل (التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي والمعلومات، والبيانات، والفضاء السيبراني، والقيم الثقافية، والخطاب السياسي وغيرها…) بما يؤهل الدول في توظيف تلك الأدوات المختلفة وجعلها أكثر فاعلية في استراتيجياتها الدولية تجاه المساحات الحيوية وباقل تكلفة من أجل تحقيق أهدافها في النفوذ العالمي.
المصادر
أولاً: الكتب العربية والمترجمة
-
كلاوس دودز، الجيوسياسية: مقدمة قصيرة جدا، ترجمة: رشا صلاح الدخاخني، (المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، 2017).
-
محمد اكرم الاحمر، الجغرافيا السياسية، (جامعة دمشق: كلية العلوم السياسية، 2009).
-
نوار محمد ربيع الخيري، مبادئ الجيوبوليتيك، (بغداد: دار ومكتبة عدنان، 2014).
ثانياً: المواقع الإليكترونية
-
فراس عباس هاشم، الجيوبوليتيك إلى أين.. التطور التكنولوجي وإعادة صياغة المفاهيم، مركز حمورابي للدراسات الاستراتيجية، 15/11/2025، شوهد في 26/11/2025، في: https://www.hcrsiraq.net
-
عادل محمد علي بوغرسة، “مقاربة (مفاهيميةـــــ تاريخيةـــ تحليلية) للتنظير الجيوبوليتيكي التقليدي”، المركز الديمقراطي العربي، 18/7/2025،شوهد في 26/11/2025، في: https://democraticac.de
-
فيصل الشامسي، “التحولات الجيوبولتيكية.. وإعادة رسم خرائط القوة العالمية”، 9/9/2025، شوهد في 25/11/2025، في : https://ourouba22.com/article/6825
([1]) فراس عباس هاشم، الجيوبوليتيك إلى أين.. التطور التكنولوجي وإعادة صياغة المفاهيم، مركز حمورابي للدراسات الاستراتيجية ،15/11/2025، شوهد في 26/11/2025، في: https://www.hcrsiraq.net
([2]) عادل محمد علي بوغرسة، “مقاربة (مفاهيميةـــــ تاريخيةـــ تحليلية) للتنظير الجيوبوليتيكي التقليدي”، المركز الديمقراطي العربي، 18/7/2025، شوهد في 26/11/2025، في: https://democraticac.de.
([3]) المصدر نفسه.
([4]) كلاوس دودز، الجيوسياسية: مقدمة قصيرة جدا، ترجمة: رشا صلاح الدخاخني، (المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، 2017)، ص 13.
([5]) فيصل الشامسي، “التحولات الجيوبولتيكية.. وإعادة رسم خرائط القوة العالمية”، 9/9/2025، شوهد في 25/11/2025، في : https://ourouba22.com/article/6825
([6]) محمد اكرم الاحمر، الجغرافيا السياسية، (جامعة دمشق: كلية العلوم السياسية، 2009)، ص 57.
([7]) نوار محمد ربيع الخيري، مبادئ الجيوبوليتيك، ( بغداد: دار ومكتبة عدنان، 2014)، ص 105.
([8]) فراس عباس هاشم، مصدر سابق.




