الاكثر قراءةتقدير موقفغير مصنف
من مخرجات قمة ألاسكا إلى جنيف المعدلة.. كيف تتشكل صيغة سلام جديدة في الحرب الأوكرانية؟

بقلم: حنين جاسم
يبدو أن مخرجات قمة ألاسكا بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي مرت في شهر اب دون نتائج ملموسة، بدأت اليوم بالظهور بطريقة مختلفة في ملف الحرب الأوكرانية. فالتوازنات التي أفرزتها تلك القمة إعادة ترتيب النفوذ، وصعود المسار التفاوضي على حساب العسكري، وتزايد حاجة الغرب إلى إدارة صراعاته بدل كسبها، وهذا انعكس مباشرة على خطة ترامب للسلام التي طرحت كوثيقة مثيرة للجدل، قبل أن يعاد تشكيلها داخل “محادثات جنيف” وتحويلها من 28 نقطة إلى 19 نقطة فقط بعد ضغط أوروبي وأوكراني. مما يعني الصراع الأوكراني يدخل مرحلة جديدة، مرحلة ضبط التوقعات وخفض سقف المطالب، والبحث عن صيغة تحفظ ماء وجه الجميع دون انتصار واضح.
أولاً: الخلفية والسياق التفاوضي
كانت قمة ألاسكا التي جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شهر آب، محاولة مبكرة لفتح قناة استراتيجية بين الطرفين خارج الأطر التقليدية للناتو والاتحاد الأوروبي. القمة لم تعلن نتائجها رسمياً، لكن مؤشرات ماجرى بداخلها أصبحت واضحة لاحقاً:
ترامب طرح مقاربة “الصفقة الكبرى”، بينما قدم بوتين تصوراً يقوم على تثبيت الواقع الميداني قبل أي تنازل سياسي. ورغم أن الاجتماع لم يخرج بخلافات حادة، إلا أنه لم ينتج صيغة قابلة للتطبيق، لأن الطرفين دخلا القمة بنوايا مختلفة؛ الولايات المتحدة كانت تبحث عن تخفيض التوتر وكبح التمدد الروسي في أوكرانيا، بينما رأت موسكو في التفاوض فرصة للاعتراف بسيطرتها على أجزاء من الدونباس والقرم دون ثمن مقابل. أما سبب استمرار القتال بعد القمة، فيعود إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
-
غياب التزامات مكتوبة: كل ما جرى كان تفاهمات شفهية، تركت لكل طرف مساحة واسعة لتفسيرها بما يخدم مصالحه، ما جعلها غير قابلة للتحول إلى آلية عمل.
-
اختلاف تعريف التسوية بين واشنطن وموسكو: أرادت واشنطن وقف إطلاق نار سريع، بينما أرادت روسيا اتفاقًا يعيد صياغة الحدود وموازين القوة، وهذا التباين جعل الخلافات أعمق بعد القمة مما كانت قبلها.
-
العودة إلى التصعيد لتحسين الموقع التفاوضي: روسيا استمرت بالعمليات العسكرية بعد القمة لأنها اعتقدت أن تحقيق مكاسب ميدانية إضافية سيجبر الغرب لاحقاً على القبول بشروطها، فيما رأت أوكرانيا أن أي توقف للقتال بدون ضمانات صلبة سيعني تثبيت خسائرها.
وهكذا انتهت قمة ألاسكا إلى حالة “هدوء بلا اتفاق”، وتركت فراغاً تفاوضياً استغله كل طرف بطريقته، إلى أن جاءت محادثات جنيف لتعيد ترتيب المشهد من جديد وتحوله من تفاوض ثنائي (أمريكي – روسي) إلى مفاوضات متعددة الأطراف تشمل الأوروبيين وكييف بشكل مباشر.
فقد صيغت المبادرة الأميركية الأصلية كسلسلة بنود تهدف لوقف سريع للقتال عبر ضغوط دبلوماسية على كييف وموسكو. وقامت على منطق “الصفقة” في المفاوضات التجارية، وهذا جزء من تأثير النسق العقيدي لصانع القرار الأمريكي (متمثلاً اليوم بشخص الرئيس دونالد ترامب) التي توازن بين:
وقف إطلاق نار.
مفاوضات مباشرة.
ترتيبات أمنية مشتركة.
انسحابات تدريجية.
تجميد وضع الأراضي المتنازع عليها.
التنازل عن جزء من إقليم الدونباس للروس مع الاعتراف بسيادة روسيا على القرم.
وبالمقارنة مع المقاربات الغربية السابقة، هذه الخطة تعيد الحرب إلى طاولة التفاوض بدل ساحة المواجهة. وقد لاقت هذه الخطة قبول روسي، يبدو هذا بتصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حين أوضح إن قنوات الاتصال مع الجانب الأمريكي فعالة، وإن موسكو تنتظر النسخة المعدلة بعد محادثات جنيف بين البيت الغربي (المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف والحلفاء الاوربيون مع الرئيس الاوكراني)، لكنه لمح ان أي ابتعاد جوهري عن مخرجات ألاسكا قد يدفع موسكو لإعادة تقييم موقفها التفاوضي.
محادثات جنيف أخرت عملية الفرض الأحادي ونتج عنها مسودة أقصر (19 نقطة)، يفهم منها تليين بعض الشروط المثيرة للجدل وإبقاء مسائل حساسة للمحادثات المباشرة بين زيلينسكي وترامب. وإن دخول أوروبا بقوة إلى المربع التفاوضي دفع لتخفيف بنود كانت تهدد مبدأ عدم تغيير الحدود بالقوة، أو فرض تنازلات إقليمية تلقائية على أوكرانيا. فأوروبا ترفض أي اتفاق يفرض عليها دون مراعاة أمنها، خاصة أن أي تسوية قد تترك روسيا بمكاسب إقليمية طويلة الأمد. لذلك شطبوا بنوداً اعتبروها خطيرة مثل تجميد الحدود وترتيبات الأمن المشترك على طريقة مينسك.
وبالنظر إلى طبيعة الأطراف وتعدد مستويات التدخل يمكن تصنيف هذا المسار بأنه تفاوض متعدد الأطراف وغير مباشر قائم على القوة، ويستخدم الصياغات المرنة أو ما يعرف بالغموض البناء لتقليل الخسائر التقييمية لكل طرف.

ثانياً: موقف الأطراف التفاوضية.
1. الموقف الأوكراني (طرف مباشر).
بين الخوف من الخسارة والبحث عن ضمانات الرئيس الاوكراني زيلينسكي دخل محادثات جنيف، هو يريد استمرار الدعم الغربي، لكنه في الوقت نفسه يدرك أن خيارات أوروبا والولايات المتحدة العسكرية بدأت تنفد. لذلك تمسك بـثلاث خطوط حمراء:
-
عدم الاعتراف بأي واقع ميداني فرضته روسيا.
-
الإبقاء على مطلب الانسحاب الكامل.
-
ضمانات أمنية صلبة على شكل تحالف أو خط دفاعي دائم.
ولهذا كان هو الأكثر تمسك بتقليص النقاط، لأنه يريد اتفاق مقبول شعبياً قبل أن يكون عملياً. والتعديل عزز موقف كييف حيث أعيدت صياغة بنود كانت ستفرض تنازلات إقليمية واضحة.
-
الموقف الروسي (طرف مباشر).
روسيا تنظر إلى خطة ترامب قبل تعديلها وبعده على أنها نافذة سياسية نادرة يمكن من خلالها تحويل ما حققته عسكرياً إلى مكاسب معترف بها دولياً. لهذا تتعامل روسيا مع المسار الحالي عبر الاستراتيجيات الاتية:
-
تثبيت الواقع الميداني روسيا تعرف أن أي اتفاق سيعتمد على خطوط السيطرة الحالية، لذلك تبطئ وتيرة العمليات لكنها تحافظ على مواقعها الأساسية لضمان عدم خسارة ما تعتبره إنجاز استراتيجي.
-
إظهار القابلية للتفاوض دون تقديم تنازلات جوهرية الكرملين يريد الظهور بمظهر العقلاني أمام الغرب، لكن في العمق لا يعتزم التراجع عن القرم أو الدونباس. ولهذا يبقي موقفه تحت دبلوماسية النعم ولكن “موافق على التفاوض… لكن وفق شروطه”.
-
الموقف الأمريكي.
فريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدفع باتجاه تسوية سريعة تخفف الأعباء وتظهر إنجاز دبلوماسي. لكن المؤسسة الأمنية والعسكرية ترى أن أي اتفاق مبكر قد يعطي روسيا مكافأة مجانية ويضعف هيبة الردع الأمريكي، لذلك جاءت محادثات جنيف كنوع من التوازن الداخلي داخل واشنطن نفسها، تعديلات أوروبية- أمريكية تعيد ضبط خطة ترامب وتمنعها من الميل كليا لصالح موسكو.
-
الموقف الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي هو الطرف الأكثر قلق، وقراره بتقليص الخطة من 28 إلى 19 نقطة جاء نتيجة ثلاثة دوافع:
-
الخوف من اتفاق سريع يعطي روسيا وضع قانوني لأراضي السيطرة.
-
الخوف من انفصال واشنطن عن الجبهة الأوروبية إذا فرض ترامب خطته منفردا.
-
الحاجة لسلام يوقف الاستنزاف الاقتصادي والأمني من دون الاعتراف بجنون القوة الروسية. لذلك الأوروبيون يريدون تسوية طويلة الأمد، لا اتفاق انتخابي اعلامي.
فالموقف الأوروبي الان يقوم على شرطين أساسيين، احترام السيادة الأوكرانية وضمان أمن القارة عبر ترتيبات عملية (مراقبة، قوة طمأنة، وتضمين ضمانات إلزامية في نص الاتفاق).
ثالثاً: مستقبل الاتفاق
· اتفاق جزئي: يشمل وقف اطلاق النار وترتيبات أمنية محدودة وبقاء وضع الحدود مؤجلًا وإشراف دولي من أوروبا والصين. مما يعكس سلام منقوص لكنه قابل للاستمرار.
· اتفاق شامل: أي انسحابات روسية من الأراضي الأوكرانية، وضمانات امنية للطرفان الروسي والأوكراني، إضافة إلى رفع العقوبات. هذا يبدو اتفاق شامل عادل لكن الحقيقة هو ابعد ما يمكن لان الروس لا يمكن إن يتقبلوا الخروج دون الحصول على مكاسب او مغانم حرب وإن كانت بثمن يفوق المكاسب.
· فشل المحادثات: إذا وجدت روسيا إن الخطة المقترحة بعد التعديل الأوربي لا تخدم أهدافها ولا تراعي هيبتها كدولة تعتبر نفسها الند للولايات المتحدة، ستعود للتصعيد والعمل العسكري لتحسين الموقف التفاوضي.
إذا يمكن القول روسيا تريد اعترافاً بمكاسبها دون تنازلات رسمية، أوكرانيا تريد سيادتها دون فقدان الدعم الغربي، أوروبا تريد أمنها دون مجابهة مفتوحة، والولايات المتحدة تريد إنجاز دون كسر ميزان الردع.
وبهذا مستقبل الاتفاق سواء أكان جزئياً أو هشاً أو مؤجلاً، سيحدده ميزان القوة الفعلية وليس النصوص وحدها. فالحرب لن تحسم على الورق ما لم تقفل حساباتها على الأرض، والتفاوض لن ينجح ما لم يصاغ بما يكفي من الغموض المقصود ليمنح موسكو وكييف مخرجاً مشرفاً. لذلك فإن جنيف اليوم ليست نهاية الحرب، لكنها أول مرة تتقاطع فيها حسابات الأطراف بما يكفي لفتح الباب نحو تسوية ممكنة تضع حداً لأكثر صراعات أوروبا تعقيد في القرن الحالي.



